في الصحافة.. للحقيقة وجوه عدّة

تعاظمت الأدوار والوظائف المنوطة بالإعلام مُنذْ مدةٍ ليست قصيرة، حيث لم تعد مقتصرةً على وظيفة الإخبار (informer) التقليدية، بل أصبحت وسائل الإعلام تتكفل بوظائف جمّة كالبحث والتحليل والتفسير والتحقيق الاستقصائي ومحاربة الفساد ورسم الخطط الاستراتيجية للدولة وملاحقة المجرمين والفاسدين، الأمر الذي جعلها "السلطة الأولى" وذلك على حساب السلطات الأخرى -التنفيذية والتشريعية والقضائية- بسبب الفساد المستشري فيهم والعجز الواضح في أداء الواجبات المنوطة بهم.

ومن هذا المنطلق، بات الإعلام يتحكم في الواقع ويبسط سيطرته على مختلف مناحيه، فقد جعل علاقتنا بهذا العالم لا تتم وفق تجربتنا المباشرة، بقدر ما تُحدَّد وفق الرؤية التي يقدمها لنا جاهزة عبر أصنافه وفنونه المتعارف عليها، فاستحوذ بذلك على آليات إنتاج المعنى ومعها الحقيقة أيضاً.

إن الوظيفة الأساسية للإعلام هي "الإخبار"، لذلك نجد أن الجماهير ترى في المنابر الإعلامية قنوات للإخبار وتنتظر منها نقل الحقيقة وتبليغ الأخبار والمعلومات بأمانة ودقة.

فهل تنقل المنابر الإعلامية على اختلافها وتعدد أشكالها الحقيقة فعلاً للجمهور المتابع؟ ثم ما طبيعة هذه الحقيقة التي تنقلها، هل يقصد بها المطابقة الدالة عليها وبين الأشياء كما هي عليه في الواقع، أم أن الأمر يتعلق بحقيقةٍ من نوع آخر ينبغي كشفها وتسليط الضوء عليها؟

إلى جانب تساؤلاتٍ أخرى يطرحها الباحث المغربي الأستاذ عبدالقادر ملوك في ورقةٍ بحثيةٍ منشورة في مجلة "عالم الفكر". 
وقد تعددت الآراء واختلفت حول الحقيقة التي تعتبر من المعايير المهنية التي لا بدَّ أن تلتزم بها المؤسسات الصحفية والإعلامية والعاملين فيها، وتكوّنت مدراس فكرية، كلّ واحدة منها تنظر إلى "الحقيقة" نظرةً مختلفة. 
فهناك من يربط الحقيقة بالوقائع مباشرةً وآخر يربطها بالخطاب الصحفي والإعلامي المنتج حول هذه الوقائع.

ويرى أصحاب التوجه الأول المذكور أعلاه أن وظيفة الإعلام الأساسية تتجسد في نقل الوقائع كما هي بالفعل وكما تقع في مسرح الأحداث، أي بموضوعيةٍ وحيادٍ ومن دون تحيز أو إدراج رأي أو تعليق.

ومن المدافعين عن هذا التوجه، نجد دانييل كورني الذي دائماً ما يطالب الصحفيين بالاقتصار على الوقائع كما هي من دون تمرير أي رأي -لأن كل رأي- في اعتقاد كورني لن يكون إلا ذاتيًّا.

ويعتبر كورني أن الخبر هو محصلة لتضافر ثلاث آليات في ممارسة الصحفي لمهمتهِ تتمثلُ في الملاحظة (لحظة الوصول إلى موقع الحدث) والتأويل (لحظة البدأ بتوثيق الحدث) ثم التبليغ (لحظة إذاعة الحدث). وهي آلياتٌ تكشف بطريقةٍ أو بأخرى عن تدخل "الذات" بشكلٍ من الأشكال في مسار تحول الحدث إلى خبر.

أصبح الصحفيون والإعلاميون يعون بجلاء أن المؤسسات الصحفية والإعلامية في عالمنا العربي استعاضت عن خطاب الحقيقة الذي يتمثل -وفق مبدأ إسكينازي- في حصول إجماع كلي حول محتوى خبر معين، بخطابِ المحتمل أو الراجح، الذي يتمثل دائماً –وفقا لإسكينازي- في الخبر الذي يوافق انتظارات الجمهور وتطلعاتهم، وهو خطابٌ يقوم على جملة من الإجراءات من بينها الاعتماد على أطر وقوالب تأويلية خاصة تتماشى وسياسة المنبر الإعلامي وتوجهاته.

ويستمرُ السجال حول خطاب الحقيقة مع "جيل غوتيي"، فهو يقر أن الحقيقة هي هدف ضروري بالنسبة إلى الصحافة، وتسعى إليه كلّ المؤسسات الصحفية والإعلامية بطرقٍ وأساليبٍ مختلفة.

يطرح غوتيي مصطلح "القبلية الإخبارية" ويعني به أن الصحافة ملزمة بإنتاج إثباتات صحيحة انطلاقا من توجهها صوب الواقع الخام أي "الحدث" كما يقع على أرض الواقع دون تدخل "الذاتية" فيه.

وهذا يعني أن الصحافة تنقل معرفة من نوع ما لها "صلة" بالأحداث الجارية، الأمر الذي يؤكد وجود واقع خام آخر، أي معطى، منه تُستنبط الأخبار التي ينصب عليها العمل الصحفي.

فالقبلية الإخبارية تفترض أن الوظيفة المناطة بالصحافة تكمن في إنتاج إثباتات صحيحة تفترض أن أداء هذه الوظيفة يقوم أساساً على واقع خام مستقل، وبموجب ذلك تصبح علاقة الصحافة بالحقيقة مرتبطة بعلاقتها بالواقع، إذ هي لا تستهدف الواقع إلا بحثاً عن الحقيقة الكامنة داخله.

نستنتج من ذلك، أن الصحافة لا تتعامل مع واقع خام وبالتالي فهي غير قادرة على إنتاج الحقيقة "الحقيقية".
فالصحفيون كما يقر غوتيي، لا يسجلون الواقع كما هو؛ لأن ذلك ليس في متناولهم بل يقومون بتوصيف خاص له، انطلاقاً من اختياراتهم الذاتية ومن توجههم الأيديولوجي، وانطلاقاً كذلك من انتقاء عناصر دون أخرى داخل الوضع المرصود. 
ويعرض غوتيي تصورين يرتبطان بالواقع والحقيقة:

التصور المرتبط بالواقع: "يوجد واقع مستقل عن الصحافة، وحول هذا الواقع المستقل ينصب العمل الصحفي ومن ثم يجري بناء الخبر".

التصور المرتبط بالحقيقة: "الصحافة تقوم على إنتاج إثباتات صحيحة حول هذا الواقع المستقل، والإخبار بقيم الحقيقة هو النشاط الذي يسبق البناء الصحفي".

وارتباطاً بالحقيقة الصحفية يرى غوتيي أن هدف الإخبار يندرج بشكلٍ كليٍّ ضمن صنف الأفعال الإثباتية/التقريرية التي تشكل إلى جانب الأفعال التوجيهية والتعبيرية والتصريحية والتعهدية، الأنواع الخمسة الكبرى لأفعال الكلام.
ففعل الإخبار بالمعنى الصحفي للكلمة هو بدوره فعلاً إثباتيًّا من منطلق كون الفعل الإثباتي يتعهد للمتلقي بحقيقة الخبر، أي تقديم الخبر بوصفهِ تمثيلاً لحالة موجودة في الواقع، فهو نشاطٌ ملازم لقيمة من قيم الحقيقة، ويعني أن الخبر الذي ينتج عن هذا النشاط هو بالضرورة إما صحيح وإما خاطئ.

ويلخص "ملوك" محصلة آراء "غوتيي" بالنقاط الآتية:

1- الأخبار هي موضوعات مبنية وليست "الواقع الخام" نفسه. 
2- تستند الأخبار إلى وقائع سابقة تسمى "وقائع صحفية". 
3- إن الوقائع الصحفية هي إما وقائع خام وإما وقائع اجتماعية في الغالب، أي وقائع هي بدورها مبنية. 
4- إن الوقائع الاجتماعية مبنية انطلاقاً من وقائع خام.
5- إن الأخبار في المحصلة، مبنية دائما انطلاقاً من وقائع خام تسمى "وقائع صحفية خام".

لو نظرنا نظرةً فاحصة لأغلب الآراء التي تم طرحها في هذه القضية، فإننا سنجد أن الذي يوحدها هو الإقرار بوجود واقع مستقل للصحافة رغم أنه مختلفٌ عن "الواقع الخام"، ولكنه يدور حوله، وربما يتلمسه في بعض الأمور التي تقترب من "الحتميات".

وفي رأيي، أن ذلك لا يُعد عيباً ينتقص من الوظائف المقدسة التي تؤديها الصحافة، بل على العكس أراهُ طبيعيًّا لأن الصحفي أو الإعلامي بطبيعة الحال يحمل الغرائز الإنسانية التي يحملها أيضاً بنو البشر من آراء وميول ورغبات واهتمامات وحاجات، تقفُ حائلاً دون نقل الحقيقة الخام إلى الجمهور، طالما تدخلت "الذاتية" في عملية فهم وسرد الحدث.

صَفوة القول، سيكون من السذاجة لو أننا قبلنا بـ "خزعبلات" بعض المؤسسات الصحفية والإعلامية وشعاراتها الفضفاضة إزاء "الحقيقة"، فهي قضيةٌ نسبية كما رأينا ولكن المرجو من إعلامنا العربي، أن يجتهد بملامسة "الحقيقة" أو "الواقع" الخام، لا أن نغلف خطابنا الإعلامي بتوجهاتنا وآرائنا وأيديولوجياتنا المكشوفة.

المزيد من المقالات

قضية سعد لمجرد.. عن التغطية الصحفية لقضايا المحاكم

تثير تغطية القضايا الرائجة داخل المحاكم أسئلة مهنية وأخلاقية ترتبط بإحداث التوازن بين حرية الصحافة والحق للولوج إلى المعلومات وبين حماية المحاكمة العادلة وعدم التأثير على القضاء.

مجلة الصحافة نشرت في: 1 مارس, 2023
"زلزال" الشائعات غير العلمية

عادة ما تنتشر الخرافات والمعلومات غير العلمية أثناء الكوارث الطبيعية، وإذا كان أثرها في السابق محدودا، فإنه مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، باتت تؤثر بشكل مباشر على مل

مجلة الصحافة نشرت في: 21 فبراير, 2023
من أجل تغطية مهنية وأخلاقية للأزمة بين روسيا وأوكرانيا

غُرف الأخبار يجب أن تتأنى للحظة قبل الانخراط في التغطية، لوضع منهجية واضحة تحدد فيها شكل التغطية وقواعدها العامة، زوايا المعالجة، المصطلحات المستخدمة، آلية التعامل مع المحتوى الذي ينتجه المستخدم ورسم نموذج عمل واضح يضمن التحقق من المعلومات. يجب أيضا أن تحدد قواعد التعامل مع تصريحات السياسيين ووكالات الأنباء لتجنب الوقوع في فخ الترويج لدعاية سياسية موجهة، وأن تتبنى زوايا معالجة تجيب على أسئلة جمهورها العربي الملحّة. 

مجلة الصحافة نشرت في: 24 فبراير, 2022
نصائح للصحفي في تغطية المشهد الأفغاني

في خضم الحرب والفوضى والاستقطاب السياسي.. تضيع الحقيقة.

مجلة الصحافة نشرت في: 17 أغسطس, 2021
معهد الجزيرة ينظم منتدى أخلاقيات الصحافة في العصر الرقمي

يستعد معهد الجزيرة للإعلام لتنظيم "منتدى أخلاقيات الصحافة في العصر الرقمي" عبر الإنترنت يوم 15 يونيو/حزيران 2021.

مجلة الصحافة نشرت في: 10 يونيو, 2021
تيك توك.. فضاء جديد للاحتجاج

تحولت منصة تيك توك خلال الاحتجاجات الأميركية الأخيرة إلى منصة مهمة داعمة للاحتجاجات، في وقت كانت تعتبر مجرد وسيلة للتسلية، تتضمن غالباً مقاطع لرقصات روادها. 

مجلة الصحافة نشرت في: 10 يونيو, 2020
معهد الجزيرة يصدر العدد 13 من "مجلة الصحافة"

يتناول العدد 13 من مجلة الصحافة، الصادرة عن معهد الجزيرة للإعلام، الأخبار الكاذبة، وذلك مع موجة انتشارها في السنوات الماضية، تزامناً مع صعود وسائل التواصل الاجتماعي.

مجلة الصحافة نشرت في: 6 مايو, 2019
دول عربية في أسفل قائمة حرية الصحافة للعام 2019

لتصنيف الذي تعدّه المنظمة سنوياً والذي يتضمن 180 بلداً، أظهر أن الدول العربية لا تزال في أسفل القائمة لجهة حرية الصحافة فيها.

مجلة الصحافة نشرت في: 20 أبريل, 2019
تغطية حرب اليمن تحصد جائزة بوليتزر

ساهمت الصور والتقارير التي وثقت حالات الجوع، في إبلاغ الأمم المتحدة التي نقلت بدورها الأغذية والدواء إلى المناطق التي كشفت عنها تقارير الصحفيين الثلاثة.

مجلة الصحافة نشرت في: 20 أبريل, 2019
فن التقصي.. إصدار جديد لمعهد الجزيرة للإعلام

معهد الجزيرة للإعلام يطلق كتاب "فن التقصي" بالتعاون مع الزميل إياد الداود.

مجلة الصحافة نشرت في: 9 أبريل, 2019
التغطية الإعلامية الفرنسية لقضايا ”الإرهاب“

بين الإعلام والإرهاب علاقة وثيقة.. الإرهاب يبحث دائما عن الحضور الإعلامي، فلا وجود لعملية إرهابية في السياق المعاصر خارج الدورة الإعلامية.

محمد البقالي نشرت في: 18 مايو, 2017
تنظيم غرف الأخبار لصحافة استقصائية أفضل (1)

بدأ الأمر بصندوق من الورق المقوى مليء بقصاصات الصحف. عام 1947 قام رودولف أوغستين Rudolf Augstein مؤسس وناشر دير شبيغل، بإصدار تعليماته بوجوب جمع الأعداد السابقة وحفظها في أرشيف.

هوك ينسن نشرت في: 18 أبريل, 2017
البحث عن الحقيقة في كومة الأخبار الكاذبة

تزدحم الشوارع العربية بالأحداث الساخنة التي راجت فيها بدائل الإعلام التقليدي بسبب رفض الإعلام التقليدي نشر رواية مخالفة للرواية الرسمية، الأمر الذي جعل التغطيات الصحفية في العالم العربي محل دراسات

مجلة الصحافة نشرت في: 16 مارس, 2017
اتجاه الصحف للاعتماد على صحافة المواطن

يعد مصطلح "صحافة المواطن" تسمية حديثة في المشهد الصحفي على المستوى الدولي والعربي، وهو إشارة إلى تيار جديد تم تشكّله تبعاً لعالم من الإعلام الجديد وتكنولوجيا الاتصال، ونتيجة لاحقة لنقد متواصل لواقع

مبارك بن زعير نشرت في: 21 فبراير, 2017
إستراتيجيات استخدام الشبكات الاجتماعية خلال الأزمات والكوارث

من الثورات العربية إلى بريطانيا مروراً بماليزيا وإعصار هاييتي وحوادث تحطم واختفاء طائرات وصولاً إلى انقلاب تركيا "الفاشل" والعمليات الإرهابية في ألمانيا وفرنسا وغيرهم...نماذج عدة تكشف عن تأثير استخ

محسن الإفرنجي نشرت في: 16 ديسمبر, 2016
الفيديوهات الإخبارية الإلكترونية تغير المعادلة

بين القصة المفعمة بالمشاعر الإنسانية والعاطفية والقصة المبنية على حقائق وأرقام جامدة تدور الحكاية.. حكاية إنتاج فيديوهات إخبارية إلكترونية تقدم الموضوعات بنكهة جديدة شكلا ومضمونا..

محسن الإفرنجي نشرت في: 9 ديسمبر, 2016
”السفير“ اللبنانية نحو إيقاف طبعتها الإلكترونية

ضجّ المشهد الإعلامي العالمي في السنوات الأخيرة بقرارات صحف عدة إيقاف طبعتها الورقية، كان آخرها إعلان صحيفة "ذي إندبندنت" البريطانيّة الشهر الماضي نيتها إيقاف الطبعة الورقية بدءاً من شهر مارس/آذار ا

حسن الحاف نشرت في: 25 سبتمبر, 2016
«جمهور قرّاء الصحف الرقمي» يتسع في المملكة المتحدة

لم يعد مشهد الأوروبي الذي يقرأ كتابا أو صحيفة في محطة أو قطار، مألوفا كما كان عليه سابقا وقبل انتشار الهواتف الذكية.

مجلة الصحافة نشرت في: 29 أغسطس, 2016