التنظيم الذاتي للصحفيين في تونس.. دفاعا عن الحرية

إشاعات من كل حدب وصوب تسري كالنار في الهشيم، أخبار خطيرة متخفية خلف مصادر مجهولة تذاع في وسائل الإعلام، شحّ في المصادر والمعلومات الرسميّة بسبب احتجاب المسؤولين عن الإعلام وارتباك في السياسات الاتصالية للدولة، غياب لخطّة اتصالية واضحة المعالم في مستوى خطورة الأزمة، حملات تهديد واستهداف للصحفيين ولبعض وسائل الإعلام المحليّة وحتّى الدوليّة،  طالت مكتب قناة الجزيرة التي تعمل في البلاد منذ سنوات، ومخاوف جديّة من إمكانية حصول عملية انقضاض على مكتسبات دستور الثورة لاسيما في مجال حرية التعبير والصحافة.

هكذا بدا المشهد الإعلامي في تونس خلال الأيام الماضية، قبيل وغداة إعلان رئيس الجمهورية قيس سعيّد عن جملة من القرارات التي أدخلت البلاد في دوامة جدل دستوري وسياسي جعل بعض المنتقدين يذهب إلى حدّ وصف ما حدث بـ "الانقلاب" على المسار الديمقراطي.

لقد أعاد هذا الوضع الجديد في تونس إلى الواجهة نقاشا محتدما حول معايير مهنة الصحافة وضوابط حرية التعبير والصحافة من منظور دور آليات التعديل الذاتي في زمن الأزمات التزاما بمبادئ المسؤولية الاجتماعية. ودار نقاش مستفيض عجّل بإعادة النظر في دور وسائل الإعلام وهياكل المهنة في الدفاع عن قيم النزاهة والدقّة والموضوعية ضمن التغطيات الإخبارية والسياسات التحريرية في ظلّ مظاهر الاصطفاف والتلاعب بالرأي العام وتهديد حرّية الصحافة من بوابة التوجيه والانحياز للرواية الواحدة.

 

صحافة تحت القصف

لا نبالغ في القول حينما نجزم بأنّ المناخ العام الذي تشتغل فيه وسائل الإعلام في تونس منذ الأيام القليلة الماضية هو الأخطر منذ الثورة.  هذا المناخ مرتبط، بلا شك، بالأزمة السياسية الخانقة التي تصاعدت وتيرتها بعد قرارات رئيس الجمهورية قيس سعيّد بتجميد صلاحيات مجلس نواب الشعب، وإعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي من مهامه، ورفع الحصانة عن جميع البرلمانيين المنتخبين، وذلك في إطار قراءة للدستور يرى أنّها ترتكز على تفعيل الفصل 80 لمدّة 30 يوما، ضمن تدابير قال إنها استثنائية لحماية الدولة من شبح الانهيار والفوضى وتجنيب المجتمع خطر الاقتتال الأهلي.

قراءة الرئيس سعيّد للفصل 80 من الدستور فتحت الباب على مصراعيه لانقسام حاد في الرأي العام التونسي والمواقف الحزبية والمدنيّة، وحتى في ردود الأفعال الدولية؛ وذلك بسبب غياب المحكمة الدستورية التي يحقّ لها –حصرا- النظر في مسألة تأويل الدستور ومدى شرعية مثل هذه القرارات السياسية.

وقد سبقت قرارات رئيس الدولة قيس سعيّد موجةُ احتجاجات شعبية، تزامنت مع ذكرى عيد الجمهورية يوم 25 يوليوز/ تموز 2021.  شهد الشارع التونسي إثر هذه الاحتجاجات أعمال عنف وتخريب وحرق، طالت حتّى مقرات أحزاب من بينها حركة النهضة التي يشرف رئيسها راشد الغنوشي على رئاسة البرلمان التونسي منذ نهاية العام 2019، والتي تقود التحالف السياسي والبرلماني الداعم للحكومة المعفاة.

هذا الوضع السياسي والاجتماعي المحتقن جعل وسائل الإعلام والصحفيين في تونس يشتغلون تحت القصف؛ وطالت الانتقادات والهجمات حتّى الإعلام الرسمي ممثلا في التلفزة التونسية، حيث اتهم الرئيس قيس سعيّد المشرفين على نشرة الأخبار الرئيسية المسائية التي يشاهدها التونسيون بكثافة بالتعتيم على نشاطه، وتهميش ما يقوم به من حراك دبلوماسي لجلب المساعدات إلى تونس لمواجهة أزمة كورونا ونقص مادة الأوكسجين والمعدات الطبية مثل أسرّة الإنعاش فضلا عن شحّ المطاعيم ما تسبّب في ارتفاع نسبة الوفيات.

وكذلك اتُهِمتْ العديد من وسائل الإعلام المحليّة بالتعتيم وتشويه الاحتجاجات الشعبية خدمةً لمصالح الحكومة السابقة وتحالفها السياسي، من خلال محاولة شيطنة المحتجين -حسب تقديرهم- وتصويرهم على أنهم مخربون، دون مراعاة لمشروعية مطالبهم بحلّ البرلمان ومحاسبة الفاسدين وإسقاط الحكومة، فضلا عن حقّهم الدستوري في التظاهر والاحتجاج.

ومما زاد الطين بلّة، سقوط بعض وسائل الإعلام المعروفة بمصداقيتها في نشر أخبار زائفة مثل إشاعة خبر وفاة رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد، ناهيك عن تعرض العديد من الصحفيين والمصورين الصحفيين إلى اعتداءات في الشارع من محتجين من أنصار الأطراف السياسية المتصارعة، كما كان بعض الصحفيين عرضة لتهديدات سياسية وإرهابية وحملات تحريض وتشويه على صفحات التواصل الاجتماعي.

إزاء هذا الظرف الاستثنائي والخطير الذي تمرّ به تونس، لاسيما فيما يخص الحريات والحقوق، سارعت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين إلى إصدار بيانات عديدة قامت بالتنديد والتحذير مما يجري، محملة رئيس الجمهورية قيس سعيّد مسؤولية حماية حرّية الصحافة واحترام الدستور خاصة بعد أن أقدم قرابة 20 عون أمنٍ صباح يوم الإثنين 26 يوليو/تموز الجاري على مداهمة مقر قناة "الجزيرة" من الباب الخلفي، مطالبين فريق العمل بالمكتب بمغادرة المقر وغلقه رغم عدم حيازة الأمنيين -الذين اكتفوا بالقول إنهم بصدد تنفيذ تعليمات- على أي قرار قضائي رسمي يتيح ذلك.

عبّرت نقابة الصحفيين التونسيين عن قلقها الشديد من الخطر الذي يهدّد حريّة الصحافة والتعبير والإعلام ومن محاولات إقحامها في الصراع السياسي، ودعت الجميع إلى النأي بالإعلام والصحفيين عن التجاذبات السياسية واحترام مبدأ حرية التعبير والصحافة المكفولة بالدستور، مع تأكيدها على مساندتها المطلقة لما أسمتها بالمطالب المشروعة التي رفعها الشعب التونسي في احتجاجاته الأخيرة التي سبقت قرارات الرئيس قيس سعيّد.

كما دعت لجنة أخلاقيات المهنة بالنقابة الوطنية للصحفيين وسائل الإعلام التي سقطت في مطب نشر أخبار زائفة في ظرف الأزمة الحالية، إلى ضرورة التحري في المصادر قبل نشر مثل هذه الأخبار المغلوطة أو المضللة، مذكرة بميثاق الشرف الصحفي الذي ينصّ على أنّ الصحفي يمتنع عن ذكر أي عنوان أو صفة أو خبر وهمي. وفي السياق ذاته، اعتبرت النقابة أن نشر مثل هذه الأخبار الكاذبة قد يتسبّب في شحن الأجواء، وقد تُأوّلُ على أنّها لفت انتباه عن القضايا الحقيقية التي تَهمُّ المواطن التونسي.

إنّ خطورة مآلات ومستقبل حرية الصحافة في تونس لا تكمن فقط في تحميل المسؤولية للأطراف السياسية وأنصارها في المجتمع وأجهزة الدولة فقط، بل هي أيضا مرتبطة بالمسؤولية الاجتماعية للصحفيين ووسائل الإعلام التي تحتاج إلى الرصانة والتأني في سياساتها التحريرية وتغطيتها الإخبارية، كي لا تقع في فخ الاصطفاف الأعمى والرواية الواحدة التي تفرضها موازين القوى السياسية في الظرف الراهن.

هنا يأتي دور مقاربة التعديل الذاتي كآلية لعدم الانزلاق في خطابات الكراهية والتحريض، أو نشر أخبار زائفة بناءً على مصادر مجهولة تزيد الوضع تأزما من شأنه أن يضعف مصداقية وسائل الإعلام والصحفيين خلال مواجهة محاولات قمعهم بالاستعانة بالقضاء والأمن والجيش، وهو أمر عبرّت هياكل المهنة الصحفية عن رفضها له مهما كانت المسوّغات والتبريرات. فالإعلام سيّد نفسه تضبط عمله مواثيق تحرير وحقوق دستوريّة وقوانين تحمي حريّة التعبير والصحافة.

 

لا سلطان على الصحفيين إلا التعديل الذاتي

على عكس العديد من الدول العربية، اختار المجتمع المدني في تونس، في مقدمته هياكل المهنة الصحفية، طريق إلغاء مؤسسة وزارة الإعلام والاتصال لإنهاء تقليد هيمنة الدولة على وسائل الإعلام والصحفيين.

رفضُ المجتمع المدني في تونس بعد الثورة لوجود وزارة تشرف على الإعلام وتقيّد حريّة الصحافة لتجعل وسائل الإعلام تحت قبضتها وسطوتها، انطلق من تقييم موضوعي تاريخي لتجربة الدولة في علاقة بهذا المجال. 

إنّ هذا المسار الذي انطلق منذ منعطف الثورة في 2011، وأفرز إلغاء وزارة الإعلام ووكالة الاتصال الخارجي التي كانت تمثل اليد اليمنى لنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي لتدجين الصحافة والصحفيين، لم يكن وليد الاعتباطية؛ بل كان نتاجا لتصوّر جديد أجمعت على أهميته مختلف هياكل المهنة الصحفية في تونس، والتي ترى بأنّ دور الدولة في علاقة بالإعلام يكمن أساسا في رسم السياسات العمومية ووضع القوانين لدعم حريّة الصحافة، وأنّ مسألة تنظيم الإعلام وتعديله ذاتيا هي أساسا من مشمولات الصحفيين أنفسهم والمنظمات التي تمثلهم وتدافع عن حقوقهم، فضلا عن الهياكل التعديلية المستقلة المنتخبة ديمقراطيا.

فلسفة التعديل والتعديل الذاتي ضمن هياكل مستقلة عن السلطة التنفيذية هي في الحقيقة مستلهمة من تجارب ديمقراطية عريقة في الدول الغربية. وفي هذا الإطار، أنشئت الهيئة الوطنية لإصلاح الإعلام بعد الثورة، تبعها تأسيس هيئة عليا مستقلة للاتصال السمعي البصري فضلا عن إنشاء مجلس الصحافة.

هذه المؤسسات المستقلة عن السلطة التنفيذية أنيطت بعُهدتها مهمة تنظيم قطاع الإعلام وترسيخ فلسفة التعديل الذاتي الذي يعد من مسؤوليات الصحفيين أنفسهم في غرف الأخبار ومجالس التحرير. 

تجربة تونس الفريدة في هذا المجال عربيا تبدو اليوم مهدّدة في ظلّ محاولات توظيف القضاء والأمن والجيش للضغط على وسائل الإعلام والصحفيين من أجل ترهيبهم وقمعهم. من هذا المنطلق تكثفت الدعوات المهنية لتفعيل آلية التعديل الذاتي من أجل تبيان قيمتها وأهميتها، ليلعب الإعلام دوره الحيوي رغم الأزمة الحاصلة ومخاطر الانزلاق مجددا نحو مربع مصادرة الدولة لحريّة الصحافة التي تعتبر من أهم المكاسب إن لم نقل المكسب الوحيد بعد الثورة.

وعموما، يمكن تقسيم تعديل الإعلام والاتصال إلى ثلاثة فروع بحسب ورقة بحثية صادرة عن منظمة سوليدار تونس:

 

- احترام القواعد الاقتصادية، خاصة من مقاومة تركيز ملكية وسائل الإعلام ومواقع الهيمنة الاقتصادية، وإرساء التوازن بين مختلف المؤسسات والمتدخلين الناشطين في القطاع.  ومن هذه الزاوية لا يتميز التعديل باعتباره تعديلا لقطاع اقتصادي. لكنّ الإعلام ليس مجرد قطاع اقتصادي وليس قطاعا كالقطاعات الأخرى، وإنما لديه ارتباط وثيق بالحريات ولذلك فإن تعديله، فضلا عن بعده الاقتصادي، هو تعديل للحريات وحمايتها وتعزيزها وتأطيرها. على هذا النحو، يهدف تعديل الإعلام الى ضمان حرية التعبير والتعددية في الرأي والإعلام وإلى حماية استقلالية المؤسسات الإعلامية والصحفيين من مختلف الضغوطات والتضييقات التي يمكن أن تمارسها مختلف القوى السياسية والاقتصادية، بهدف إخضاعه وتوظيفه بشكل يضُرّ بمصداقيته وبالمصلحة العامة وبحق المواطنين في إعلام مهني ونزيه. 

- احترام قواعد أخلاقيات المهنة لضمان إعلام مهني وموضوعي ومتوازن والحماية من الانحرافات والتجاوزات، خاصة على مستوى مضامين المادة الإعلامية وأساليب العمل الإعلامي.

وتجد خصوصية التعديل في قطاع الإعلام أسسها في أنّ هذا القطاع يواجه تأثيرات وضغوطات متنوعة ومتعددة الأطراف. فإن كان تدخل الدولة قد يحمي حرية التعبير والإعلام والاتصال من ضغوطات المصالح الاقتصادية، فإنّه كذلك يحمل مخاطر الوصاية السياسية، ولذلك فإن التعديل المستقل يمثل حلا وسطا يمكّن من الحماية من ضغوطات الدولة ومن اللوبيات الاقتصادية والمالية، ودعم استقلالية الفاعلين في القطاع سواء كانوا مؤسسات أو أفرادا.

- تعني الاستقلالية قيام الأفراد أو الهيئات، بإنتاج الفعل غير المُملى، وغير الموجّه من أي جهة مهما كانت، بناءً على قناعة معينة تسعى لبناء رؤية تهدف إلى خدمة المصلحة العامة والقضايا الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية، دون تحيّز إلى هذه الجهة أو تلك، ودون رغبة في تحقيق غاية معينة، يلتمس من ورائها إرضاء أي جهة. ويطرح هذا المفهوم ضرورة احترام الممارسة الديمقراطية بمضمونها الاقتصادي، والاجتماعي، والثقافي والمدني، والسياسي، ما يتيح الفرصة أمام ممارسة الإعلام المستقل. 

وانطلاقا من هذا التصور لاستقلالية الإعلام فإنّ التعديل يسعى وفق نفس الوثيقة البحثية المرجعية إلى:

- ألا يكون الإعلام منبرا لوجهة نظر الدولة بسلطاتها الثلاث، وخاصة التشريعية والتنفيذية تجاه القضايا الاقتصادية، أو الاجتماعية أو الثقافية، أو المدنية، أو السياسية، ولكنّه، في نفس الوقت، معني بالإخبار عما تقوم به الدولة في مختلف المجالات، دون تحديد موقف معين من ذلك.

- ألا يكون منبرا للحكومة بمعنى السلطة التنفيذية، التي يتحكم فيها حزب معين، أو مجموعة من الأحزاب، حتى يتأتى الابتعاد عن احتواء الحكومة، أو حزبها، أو أحزابها له، وحتى يتمكّن من تجسيد الحياد اللازم تجاه العمل الحكومي، وتجاه أحزاب الحكومة.

- ألا يكون منبرا لحزب معين، أو لمجموعة من الأحزاب المعارضة للحكومة، حتى يبقى بعيدا تماما عن الانحياز إلى المعارضة كيفما كان شكلها.

وحياد الإعلام المستقل، لا يمنع من أن يكون مجالا لعرض ما تقوم به الدولة، والحكومة وأحزابها المختلفة، وما تقوم به أحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني، دون تحيز لأيّ منها. وبذلك تكون استقلالية الإعلام مجسّدة على أرض الواقع، وعلى جميع المستويات، حتى يتأتى لها القيام بدورها كاملا في خدمة المعلومة المجردة إلا من الانحياز إلى خدمة الحقيقة، ما يساهم في رفع وعي جميع أفراد المجتمع على جميع المستويات: الاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والمدنية، والسياسية. وهذا ما يحتاجه الإعلام العمومي بالخصوص باعتباره المهدد أكثر من غيره من ميل من يمسك السلطة إلى الإفراط في استخدامها.

 

وتعاني ثقافة التعديل في تونس من هشاشة حقيقية نظرا لإرث تميز بتغييبها كليا ونظرا للسياق الانتقالي، فرغم ما تحقق فيه من خطوات وتطورات مهمة، ما زالت الأُطر القانونية والمؤسساتية المنظمة للمشهد الإعلامي والحامية لحريته لم ترسخ بشكل نهائي. أما بعض أصناف الإعلام كالإعلام المكتوب والإلكتروني فلم ترس أصلا، وفق نفس الدارسة.

إنّ حدود التجربة التونسية في مجال التعديل والتعديل الذاتي كآليات لضمان حرية الصحافة مع الالتزام بأخلاقيات المهنة، رغم أهمية وقيمة المكاسب التي تحقّقت والتي تبقى منقوصة، لا يجب أن تفسح المجال لنسف هذا المسار الذي بات تفعيله ضرورة قصوى أكثر من أي وقت مضى.

فالتدابير الاستثنائية التي أعلن عنها الرئيس قيس سعيّد، والتي أدت تقريبا إلى تجميع جميع السلطات بيده، تبقى ظرفية لا تلغي الدستور الذي مازال قائما والذي ينصّ في فصليه 31 و32 على أنّ حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة، ولا يمكن ممارسة رقابة مسبقة عليها حيث تضمن الدولة الحق في الإعلام والحق في النفاذ إلى المعلومة وإلى شبكات الاتصال. كما أنّ قرارات الرئيس سعيّد لا تلغي المراسيم المنظّمة للعمل الصحفي وحرية التعبير والصحافة وهما المرسومان 115 و116.

 

في ظلّ هذا المنعطف الخطير التي تعيشه تونس منذ أيّام، لا مناص من اعتماد آليات التعديل الذاتي بالنسبة للصحفيين التونسيين ووسائل الإعلام التي تعمل في تونس لتكريس أخلاقيات المهنة والحفاظ على جوهر العمل الصحفي؛ وهو السعي إلى الحقيقة دون اكتفاء برواية واحدة، أو خضوع لأي سلطة كانت بما في ذلك سلطة المزاج العام الشعبي المؤيد في جزء كبير منه لقرارات الرئيس قيس سعيّد.

إذ يحقّ للصحفي والوسيلة الإعلامية في إطار حريّة التعبير والتفريق بين الخبر والرأي، أن يصفا ما حصل بالانقلاب الدستوري أو بأنه تصحيح لمسار الثورة تماشيا مع الإرادة الشعبية. لكن ليس من حقه نشر أخبار زائفة أو إقصاء أي طرف سياسي، كما ليس من حقّه الاكتفاء فقط بنشر الرواية الرسمية ونقل البلاغات الجافة التي تنشرها رئاسة الجمهورية أو بقيّة أجهزة الدولة.

تفعيل آلية التعديل الذاتي هو مسؤولية الصحفيين المطالبين باحترام ميثاق الشرف الصحفي للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، ومدونات أخلاقيات المهنة بما في ذلك المدونة التي أقرها الاتحاد الدولي للصحفيين في مؤتمره الأخير في تونس سنة 2019، ومواثيق التحرير التي صاغتها وسائل الإعلام نفسها بالشراكة مع الصحفيين العاملين فيها.

إنّ التعديل الذاتي هو أهم آلية في تونس اليوم لحماية حريّة الصحافة من مخاطر الاستهداف والقمع، وهو عملية معقدة ولكنها ضرورية لتجنب الانحراف بدور الإعلام المستقل الذي ينقل الوقائع كما هي ويبحث عن الحقيقة دون خلفيات وفق سياسات تحريرية يختارها القائمون على الصحف والإذاعات والقنوات التلفزية وليس أي سلطة كانت. لكنّ هذا التعديل لا يمكن أن ينجح دون مرافقة من هياكل المهنة ومعاضدة من الهياكل التعديلية مثل هيئة الاتصال السمعي البصري ومجلس الصحافة الذي اكتفى بالصمت حتى الآن، وهو الذي يكاد يتحوّل إلى مؤسسة مشلولة.

لا شكّ في أنّ مسؤولية وسائل الإعلام والصحفيين جسيمة في هذا الظرف الدقيق الذي تمرّ به تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس. وضعٌ يحتم التذكير بأنّ لوسائل الإعلام مسؤولية اجتماعية لا تقتضي فقط إخبار الجمهور، بل تنويره عبر تنويع الأشكال/الأنماط الصحفية على غرار التفسير والتحليل والتقصي والتحري في ظلّ احترام التنوع والتعددية الفكرية والسياسيّة.

فالصحفي كما هو الحال بالنسبة لوسيلة الإعلام التي يشتغل فيها، يقبل بالنقد والمساءلة ويتحلى بالشجاعة الأخلاقية للاعتذار كلما كان هناك خطأ مهني مع ضرورة تصويبه. ومسؤولية الإعلام لا تكمن فقط في الإخبار بل هي أيضا مرتبطة بدوره الرقابي كسلطة مضادة ومعدلّة تقوم بدورها النقدي لأي سلطة كانت بما في ذلك رئيس الجمهورية. 

إنّ التعديل الذاتي آلية حتمية في الممارسة الإعلامية في تونس خلال هذه الأزمة من خلال ضرورة التحري في الأخبار والمصادر وعدم الانسياق مع كل ما ينشر على صفحات التواصل الاجتماعي، وتجنب نقل الخطابات العنيفة والمحرضة، والمعلومات والاتهامات الخطيرة التي قد تكون في إطار تصفية حسابات أو رغبة في تأجيج الوضع دون أي أسانيد أو دلائل أو حجج دامغة. بيد أنّه لا يجب تحويل مطلب تفعيل آلية التعديل الذاتي إلى شمّاعة للتغطية على التقصير الحاصل في الضفة المقابلة، لاسيما مؤسسات الدولة التي عليها أن تكون أكثر انفتاحا وشفافية في التعامل مع وسائل الإعلام والصحفيين من خلال احترام حقهم في الحصول على المعلومة. إذ أنّ الرئيس قيس سعيّد لم يقم بأيّ حوار صحفي مطوّل مع وسيلة إعلام تونسية منذ توليه مقاليد الحكم في 2019، إذا ما استثنينا الحوار الذي التزم به بعد مرور 100 يوم على رئاسته، كما أنّ مؤسسة رئاسة الجمهورية تعاني من غياب ناطق رسمي وخطة مستشار إعلامي وهي وضعية تطرح أكثر من نقطة استفهام.

 

المزيد من المقالات

كيف أصبحت "خبرا" في سجون الاحتلال؟

عادة ما يحذر الصحفيون الذين يغطون الحروب والصراعات من أن يصبحوا هم "الخبر"، لكن في فلسطين انهارت كل إجراءات السلامة، ليجد الصحفي ضياء كحلوت نفسه معتقلا في سجون الاحتلال يواجه التعذيب بتهمة واضحة: ممارسة الصحافة.

ضياء الكحلوت نشرت في: 15 مايو, 2024
"ما زلنا على قيد التغطية"

أصبحت فكرة استهداف الصحفيين من طرف الاحتلال متجاوزة، لينتقل إلى مرحلة قتل عائلاتهم وتخويفها. هشام زقوت، مراسل الجزيرة بغزة، يحكي عن تجربته في تغطية حرب الإبادة الجماعية والبحث عن التوازن الصعب بين حق العائلة وواجب المهنة.

هشام زقوت نشرت في: 12 مايو, 2024
كيف نفهم تصدّر موريتانيا ترتيب حريّات الصحافة عربياً وأفريقياً؟

تأرجحت موريتانيا على هذا المؤشر كثيرا، وخصوصا خلال العقدين الأخيرين، من التقدم للاقتراب من منافسة الدول ذات التصنيف الجيد، إلى ارتكاس إلى درك الدول الأدنى تصنيفاً على مؤشر الحريات، فكيف نفهم هذا الصعود اليوم؟

 أحمد محمد المصطفى ولد الندى
أحمد محمد المصطفى نشرت في: 8 مايو, 2024
"انتحال صفة صحفي".. فصل جديد من التضييق على الصحفيين بالأردن

المئات من الصحفيين المستقلين بالأردن على "أبواب السجن" بعد توصية صادرة عن نقابة الصحفيين بإحالة غير المنتسبين إليها للمدعي العام. ورغم تطمينات النقابة، فإن الصحفيين يرون في الإجراء فصلا جديدا من التضييق على حرية الصحافة وخرق الدستور وإسكاتا للأصوات المستقلة العاملة من خارج النقابة.

بديعة الصوان نشرت في: 28 أبريل, 2024
إسرائيل و"قانون الجزيرة".. "لا لكاتم الصوت"

قتلوا صحفييها وعائلاتهم، دمروا المقرات، خاضوا حملة منظمة لتشويه سمعة طاقمها.. قناة الجزيرة، التي ظلت تغطي حرب الإبادة الجماعية في زمن انحياز الإعلام الغربي، تواجه تشريعا جديدا للاحتلال الإسرائيلي يوصف بـ "قانون الجزيرة". ما دلالات هذا القانون؟ ولماذا تحاول "أكبر ديمقراطية بالشرق الأوسط" إسكات صوت الجزيرة؟

عمرو حبيب نشرت في: 22 أبريل, 2024
هل يهدد الذكاء الاصطناعي مستقبل المعلق الصوتي في الإعلام؟

يضفي التعليق الصوتي مسحة خاصة على إنتاجات وسائل الإعلام، لكن تطور تطبيقات الذكاء الاصطناعي يطرح أسئلة كبرى من قبيل: هل يهدد الذكاء الاصطناعي مستقبل المعلقين الصوتيين؟ وما واقع استخدامنا لهذه التطبيقات في العالم العربي؟

فاطمة جوني نشرت في: 18 أبريل, 2024
تعذيب الصحفيين في اليمن.. "ولكن السجن أصبح بداخلي"

تعاني اليمن على مدى عشر سنوات واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، إن لم تكن الأسوأ على الإطلاق. يعمل فيها الصحفي اليمني في بيئة معادية لمهنته، ليجد نفسه عُرضة لصنوف من المخاطر الجسيمة التي تتضمن القتل والخطف والاعتقال والتهديد وتقييد حرية النشر والحرمان من حق الوصول إلى المعلومات.

سارة الخباط نشرت في: 5 أبريل, 2024
صدى الأصوات في زمن الأزمات: قوة التدوين الصوتي في توثيق الحروب والنزاعات

في عالم تنتشر فيه المعلومات المضلِّلة والأخبار الزائفة والانحيازات السياسية، يصبح التدوين الصوتي سلاحا قويا في معركة الحقيقة، ما يعزز من قدرة المجتمعات على فهم الواقع من منظور شخصي ومباشر. إنه ليس مجرد وسيلة للتوثيق، بل هو أيضا طريقة لإعادة صياغة السرديات وتمكين الأفراد من إيصال أصواتهم، في أوقات يكون فيها الصمت أو التجاهل مؤلما بشكل خاص.

عبيدة فرج الله نشرت في: 31 مارس, 2024
عن دور المنصات الموجهة للاجئي المخيمات بلبنان في الدفاع عن السردية الفلسطينية

كيف تجاوزت منصات موجهة لمخيمات اللجوء الفلسطينية حالة الانقسام أو التجاهل في الإعلام اللبناني حول الحرب على غزة؟ وهل تشكل هذه المنصات بديلا للإعلام التقليدي في إبقاء القضية الفلسطينية حية لدى اللاجئين؟

أحمد الصباهي نشرت في: 26 مارس, 2024
العلوم الاجتماعيّة في كليّات الصحافة العربيّة.. هل يستفيد منها الطلبة؟

تدرس الكثير من كليات الصحافة بعض تخصصات العلوم الاجتماعية، بيد أن السؤال الذي تطرحه هذه الورقة/ الدراسة هو: هل يتناسب تدريسها مع حاجيات الطلبة لفهم مشاكل المجتمع المعقدة؟ أم أنها تزودهم بعدة نظرية لا تفيدهم في الميدان؟

وفاء أبو شقرا نشرت في: 18 مارس, 2024
عن إستراتيجية طمس السياق في تغطية الإعلام البريطاني السائد للحرب على غزّة

كشف تحليل بحثي صدر عن المركز البريطاني للرقابة على الإعلام (CfMM) عن أنماط من التحيز لصالح الرواية الإسرائيلية ترقى إلى حد التبني الأعمى لها، وهي نتيجة وصل إليها الباحث عبر النظر في عينة من أكثر من 25 ألف مقال وأكثر من 176 ألف مقطع مصور من 13 قناة تلفزيونية خلال الشهر الأول من الحرب فقط.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 13 مارس, 2024
صحفيات غزة.. حكايات موت مضاعف

يوثق التقرير قصص عدد من الصحفيات الفلسطينيات في قطاع غزة، ويستعرض بعضاً من أشكال المعاناة التي يتعرضن لها في ظل حرب الاحتلال الإسرائيلي على القطاع.

فاطمة بشير نشرت في: 12 مارس, 2024
عن العنف الرقمي ضد الصحفيات في الأردن

تبرز دراسة حديثة أن أكثر من نصف الصحفيات الأردنيات تعرضن للعنف الرقمي. البعض منهن اخترن المقاومة، أما البعض الآخر، فقررن ترك المهنة مدفوعات بحماية قانونية ومهنية تكاد تكون منعدمة. هذه قصص صحفيات مع التأثيرات الطويلة المدى مع العنف الرقمي.

فرح راضي الدرعاوي نشرت في: 11 مارس, 2024
الصحافة المرفقة بالجيش وتغطية الحرب: مراجعة نقدية

طرحت تساؤلات عن التداعيات الأخلاقية للصحافة المرفقة بالجيش، ولا سيما في الغزو الإسرائيلي لغزة، وإثارة الهواجس بشأن التفريط بالتوازن والاستقلالية في التغطية الإعلامية للحرب. كيف يمكن أن يتأثر الصحفيون بالدعاية العسكرية المضادة للحقيقة؟

عبير أيوب نشرت في: 10 مارس, 2024
وائل الدحدوح.. أيوب فلسطين

يمكن لقصة وائل الدحدوح أن تكثف مأساة الإنسان الفلسطيني مع الاحتلال، ويمكن أن تختصر، أيضا، مأساة الصحفي الفلسطيني الباحث عن الحقيقة وسط ركام الأشلاء والضحايا.. قتلت عائلته بـ "التقسيط"، لكنه ظل صامدا راضيا بقدر الله، وبقدر المهنة الذي أعاده إلى الشاشة بعد ساعتين فقط من اغتيال عائلته. وليد العمري يحكي قصة "أيوب فلسطين".

وليد العمري نشرت في: 4 مارس, 2024
في ظل "احتلال الإنترنت".. مبادرات إذاعية تهمس بالمعلومات لسكان قطاع غزة

في سياق الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وقطع شبكات الاتصال والتضييق على المحتوى الفلسطيني، يضحي أثير الإذاعة، وبدرجة أقل التلفاز، وهما وسيلتا الإعلام التقليدي في عُرف الإعلاميين، قناتين لا غنى عنهما للوصول إلى الأخبار في القطاع.

نداء بسومي
نداء بسومي نشرت في: 3 مارس, 2024
خطاب الكراهية والعنصرية في الإعلام السوداني.. وقود "الفتنة"

تنامى خطاب الكراهية والعنصرية في السودان مع اندلاع حرب 15 أبريل/ نيسان، وانخراط صحفيين وإعلاميين ومؤسسات في التحشيد الإثني والقبلي والعنصري، بالتزامن مع تزايد موجات استنفار المدنيين للقتال إلى جانب القوات المسلحة من جهة والدعم السريع من جهة أخرى.

حسام الدين حيدر نشرت في: 2 مارس, 2024
منصات تدقيق المعلومات.. "القبة الحديدية" في مواجهة الدعاية العسكرية الإسرائيلية

يوم السابع من أكتوبر، سعت إسرائيل، كما تفعل دائما، إلى اختطاف الرواية الأولى بترويج سردية قطع الرؤوس وحرق الأطفال واغتصاب النساء قبل أن تكشف منصات التحقق زيفها. خلال الحرب المستمرة على فلسطين، واجه مدققو المعلومات دعاية جيش الاحتلال رغم الكثير من التحديات.

حسام الوكيل نشرت في: 28 فبراير, 2024
كيف نفهم تصاعد الانتقادات الصحفية لتغطية الإعلام الغربي للحرب على قطاع غزّة؟

تتزايد الانتقادات بين الصحفيين حول العالم لتحيّز وسائل الإعلام الغربية المكشوف ضد الفلسطينيين في سياق الحرب الجارية على قطاع غزّة وكتبوا أنّ غرف الأخبار "تتحمل وِزْر خطاب نزع الأنسنة الذي سوّغ التطهير العرقي بحق الفلسطينيين"

بيل دي يونغ نشرت في: 27 فبراير, 2024
حوار | في ضرورة النقد العلمي لتغطية الإعلام الغربي للحرب الإسرائيلية على غزة

نشر موقع ذا إنترسيبت الأمريكي، الذي يفرد مساحة واسعة للاستقصاء الصحفي والنقد السياسي، تحليلا بيانيا موسعا يبرهن على نمط التحيز في تغطية ثلاث وسائل إعلام أمريكية كبرى للحرب الإسرائيلية على غزّة. مجلة الصحافة أجرت حوارا معمقا خاصا مع آدم جونسون، أحد المشاركين في إعداد التقرير، ننقل هنا أبرز ما جاء فيه.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 25 فبراير, 2024
في فهم الفاعلية: الصحفيون وتوثيق الجرائم الدولية

إن توثيق الجرائم الدولية في النزاعات المسلحة يُعد أحد أهم الأدوات لضمان العدالة الجنائية لصالح المدنيين ضحايا الحروب، ومن أهم الوسائل في ملاحقة المجرمين وإثبات تورطهم الجُرمي في هذه الفظاعات.

ناصر عدنان ثابت نشرت في: 24 فبراير, 2024
الصحافة في زمن الحرب: مذكرات صحفي سوداني

منذ اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" في منتصف نيسان/أبريل 2023، يواجه الصحفيون في السودان –ولا سيما في مناطق النزاع– تحديات كبيرة خلال عملهم في رصد تطورات الأوضاع الأمنية والإنسانية والاجتماعية والاقتصادية في البلاد جراء الحرب.

معاذ إدريس نشرت في: 23 فبراير, 2024
محرمات الصحافة.. هشاشتها التي لا يجرؤ على فضحها أحد

هل من حق الصحفي أن ينتقد المؤسسة التي يعمل بها؟ لماذا يتحدث عن جميع مشاكل الكون دون أن ينبس بشيء عن هشاشة المهنة التي ينتمي إليها: ضعف الأجور، بيئة عمل تقتل قيم المهنة، ملاك يبحثون عن الربح لا عن الحقيقة؟ متى يدرك الصحفيون أن الحديث عن شؤون مهنتهم ضروري لإنقاذ الصحافة من الانقراض؟

ديانا لوبيز زويلتا نشرت في: 20 فبراير, 2024
هل يفرض الحكي اليومي سردية عالمية بديلة للمعاناة الفلسطينية؟

بعيدا عن رواية الإعلام التقليدي الذي بدا جزء كبير منه منحازا لإسرائيل في حربها على غزة، فإن اليوميات غير الخاضعة للرقابة والمنفلتة من مقصلة الخوارزميات على منصات التواصل الاجتماعي قد تصنع سردية بديلة، ستشكل، لاحقا وثيقة تاريخية منصفة للأحداث.

سمية اليعقوبي نشرت في: 19 فبراير, 2024