في الشوارع والمقاهي، على أرائك المجالس اليومية، في الحقول، وعند ممارسة مهنهم، ارتبط اليمنيون بالإذاعة، منذ خمسينيات القرن الماضي، عندما أصبحت إذاعة عدن أولى الإذاعات الرسمية في الجزيرة العربية، تحديدًا عام 1954. كانت يومها المدينة في قبضة الاحتلال البريطاني الذي لم يمانع من أن تتحوّل إلى وسيلة تخاطب الجمهور بعيدًا عن لكنته العسكرية.
رحلة تعلّق فيها اليمنيون ببرامج متنوعة، تسابقت، خلالها، الإذاعات المحلية والوطنية للوصول إلى جمهور أكبر عبر بث أصوات مازالت عالقة في الأذهان بذكريات برامجها وحضورها المختلف عبر الأثير، وقربها من متابعيها، وتقديمها للإذاعة كوسيلة جماهيرية من الناس وإليهم.
تجربة وليدة
بمقارنة تقريبية بين الإذاعة والبودكاست، فإن الأخير لا يحظى في اليمن بجمهور يجعله من بين الفنون التي تحتل أولوياته.
تبدو حتى الآن مشكلة بلا حل لتجربة وليدة بلا ملامح، كما يصفها أصحابها، عمرها ثلاث سنوات وتزيد قليلا، حتى إن العاملين في هذا المجال يتحدثون عن جمهور غير يمني يستمع لإنتاجاتهم ويتفاعل معها، وهو ما يثير السؤال التالي: كيف يمكن للبودكاست أن يثير اهتمام اليمنيين؟
في الواقع، هناك متغيرات كثيرة تلعب دورًا محوريًا في صناعة التوجه نحو البودكاست، ليس على مستوى الإنتاج وحسب، وإنما -أيضًا- كجمهور، اليمنيون بطبيعتهم غير مواكبين للمتغيرات التكنولوجية والرقمية. يعزى ذلك إلى أن 27% من السكان فقط يمكنهم الوصول إلى الإنترنت، والغالبية منهم في سن الشباب، وهذا المؤشر وحده يدفعنا للقول بأن وصول البودكاست كمنتج صوتي يحتاج إلى هاتف ذكي أو حاسوب لسماعه، ويشترط قبل ذلك توفر الإنترنت، وهو ليس بمتناول اليمنيين الذين تنعكس آثار الحرب على تفاصيل حياتهم بشكل مباشر.
اليمنيون بطبيعتهم غير مواكبين للمتغيرات التكنولوجية والرقمية. يعزى ذلك إلى أن 27% من السكان فقط يمكنهم الوصول إلى الإنترنت.
يتفق البودكاست مع الإذاعة في المسار الإنتاجي والعناصر الفنية المكونة لكليهما، من كلمة منطوقة وموسيقى ومؤثر صوتي. ولكنهما يختلفان في طريقة الوصول إلى الجمهور، إضافة للعامل الزمني، فالإذاعة تتقيد بتوقيت معيّن من أجل بث برامجها وتحتاج إلى جهاز من أجل ذلك، بينما لا يتقيّد البودكاست بزمان محدد، ويكفي أن تملك جهازًا ذكيًا أو حاسوبًا مع ضمان اتصال جيّد بالإنترنت لنشر حلقاتك الجاهزة عبر عدد من البرامج والتطبيقات المفتوحة أو المنصة الخاصة بك.
لا يملك كل اليمنيين هواتف ذكية أو حواسيب، وليس بمقدور بعض الأسر تحمّل أسعارها، بينما يبدو المذياع متاحًا من حيث السعر، وكذلك لا يحتاج إلى الاتصال بالإنترنت، إذ يكفيه التقاط موجات البث للوصول إلى الإذاعة، وضمان استماع جيّد للبرامج التي تتم إذاعتها، وهذا مقدور عليه في معظم المحافظات اليمنية.
يصطدم البودكاست في اليمن بواقع يؤثر إجمالًا على التجربة التي مازالت في بدايتها، ولا حل بيد المنتجين الذين يحاولون تنويع إنتاجاتهم الصوتية، وتقريبها لمتابعيهم إما من حيث الاستعانة باللهجات العامية أو من خلال المحتوى.
محتوى مدروس
الفرصة الذهبية التي تملكها منصات البودكاست في اليمن تتمثل في المحتوى الذي تقدمه، وهو ما يمكن البناء عليه لتحتل مكانة متقدمة من حيث الاهتمام الجماهيري حتى على حساب الإذاعة التي باتت تُستخدم غالبيتها لأغراض سياسية وعسكرية، تروّج لأطراف الصراع بما يزيد من حدّة النزاع، ويساهم في تعزيز الفجوة الاجتماعية بين اليمنيين.
من خلال التتبع لطبيعة وتركيبة وتوجه منصات البودكاست اليمنية منذ بدايتها في النصف الثاني من عام 2019 يلاحظ مدى حرصها على إعادة الاعتبار للمحتوى اليمني الأصيل، وارتباطها بالثقافة اليمنية وعملها الدؤوب على إحياء التراث كإرث تتداوله الأجيال، وتجسيدًا لذلك سُمّيت منصات بمسميات يمنية خالصة كـ "بن كاست" و "عنب بودكاست"، والمنصتان تنتجان محتوى موجهًا للشباب بدرجة رئيسية مع ضمان تقبله من كافة الشرائح.
من خلال التتبع لطبيعة وتركيبة وتوجه منصات البودكاست اليمنية منذ بدايتها في النصف الثاني من عام 2019 يلاحظ مدى حرصها على إعادة الاعتبار للمحتوى اليمني الأصيل.
الأمثال والأساطير اليمنية، الموروث الشعبي والفنون والأزياء، هذه مواضيع تناولتها منصات البودكاست في فترة زمنية توصف بالحساسة في تاريخ البلاد. وفي ظل ما يجري فإن المجتمع اليمني أحوج ما يكون لهذه المشتركات التي تعني له الكثير وجدانيًا وثقافيا، لذا فإن إعادة إحيائها تعد بمثابة محاولة حيّة للملمة شتات الشخصية اليمنية، وإعادة الاعتبار للهوية الواحدة التي هشمتها الحرب، وحاولت طمسها طوال السنوات الماضية.
كما ركزت المنصات على مواكبة المتغيرات الرقمية، وقدمت برامج بودكاست توعوية من أجل تقديم المعرفة للشباب اليمني، ولفت انتباهه إلى اكتساب المهارات العلمية والعملية.
يلاحظ عدم غياب البودكاست عن المشهد الراهن، ولكنه يحاول أن يؤدي دورًا إيجابيًا؛ فهو فن جديد على اليمنيين، ولا يريد متبنوه أن يكون كبقية الفنون التي تم توظيفها سلبيًا، فبعض المنصات الإخبارية والمتخصصة اتخذت البودكاست وسيلة للنشر التوعوي حول طرق بناء السلام، ووسائل فض النزاع، ودعم المرأة، ومناصرة القضايا الخدمية، ونشر القصص الاجتماعية الإيجابية.
كل هذه المحاولات والخطوات لم تمكّن البودكاست من الوصول إلى جمهور أكبر، وبقي محصورًا في نطاق الشباب المهتم الذي يمكنه الوصول إلى هذه المنصات، بينما لا يتمكن الجميع من ذلك بسبب تعذر امتلاك الوسيلة، وهذا ما تؤكده الإحصائيات، حيث حلت اليمن في المرتبة السابعة من حيث الاستماع لبرامج منصة "عنب بودكاست" في حين جاءت السعودية أولًا!
"نحاول أن نروّج للبودكاست كثقافة، ونصر على تقديمه كفن حديث يستحق أن ينال حقه من الاهتمام، هذا ما نقوم به أثناء عملنا على كافة برامجنا"، هكذا تصف سرّاء عبدالرحمن -شريك مؤسس في منصة "بن كاست"- العمل على تقديم البودكاست كفن حديث، وتضيف: "لكننا ننصدم بالتفاعل الكبير مع الثواني التي ننشرها في حساباتنا على وسائل التواصل الاجتماعي، بينما يحدث العكس تمامًا مع الحلقات التي نحرص على الاكتفاء بالمنصة لنشرها صوتيًا؛ بهدف الوصول إليها كمنصة بودكاست مختلفة عن المنصات والحسابات التفاعلية الأخرى".
ننصدم بالتفاعل الكبير مع الثواني التي ننشرها في حساباتنا على وسائل التواصل الاجتماعي، بينما يحدث العكس تمامًا مع الحلقات التي نحرص على الاكتفاء بالمنصة لنشرها صوتيًا.
مكامن القصور وحلولها
عند الحديث عن الأسباب التي تقف وراء ضعف جماهيرية البودكاست فلا يمكننا "يمننتها" وحصرها في نطاق جغرافي معيّن، إذ تبدو المشكلة ذات إجماع عربي، وتؤثر عوامل مختلفةُ السببِ في ذلك كالضغوط السياسية والاقتصادية التي تشهدها المنطقة، إضافة لأزمة الإنتاج السمعي وتأخر استخدام الإنترنت في بعض الدول العربية، ورغم تشابه الحالة اليمنية مع قريناتها العربية لكن منصات البودكاست اليمنية تسعى لأن تكون ذات حضور واسع مع نهاية عام 2023، محاولةً الاستفادة من التجربة السعودية، وهو ما يؤكده علي بن عامر، "بودكاستر" يمني، بقوله: "هناك محاولات من المهتمين بالبودكاست لإنتاج محتوى مشابه لما يتم إنتاجه في دول الخليج، خصوصًا السعودية، وما زلنا نعمل للمواكبة، وأتوقع أن يكون هناك رواجًا يعزز حضور البودكاست من حيث جودة المحتوى والانتشار، ونتطلع لقفزات ملموسة في النصف الثاني من عام 2023 بالنظر إلى التوجه الحاصل حتى من قبل المنظمات المهتمة بالمجال الإعلامي في اليمن".
مشكلة البودكاست في اليمن ليست محصورة في المواكبة، فالفن وليد، وفي سنواته الأولى، وهذا ما يعني لزومية التفكير في حلول عملية تعمل على معالجة القصور الحاصل.
يرى الأستاذ المساعد بكلية الإعلام في جامعة عدن ماجد سلطان أن القصور التعليمي في مناهج كليات الإعلام في تدريس السرد القصصي للبودكاست، وعدم توفر المنصات المفتوحة، وحصر التوزيع على برامج محددة، إضافة إلى محدودية البودكاست النسائي، من حيث الإنتاج والمحتوى، أسباب منطقية لضعف التفاعل الجماهيري مع البودكاست.
رغم بدايته عام 2004، تأخر البودكاست في الوصول إلى اليمن حتى عام 2019، ومنذ ذلك الحين يصارع لإثبات حضوره بين الفنون الأخرى، آملًا أن يجد "النَّفَس الجديد للإذاعة" كما وصفته اليونسكو، طريقه إلى آذان المستمعين اليمنيين ولو همسا!