يشتغل محمد حداد -الصحافي بشبكة الجزيرة- على القصص المدفوعة بالبيانات، ولا يرى أنه ثمة خلاص للصحافة العربية من سيادة ثقافة الرأي والتعليق سوى بالإيمان بالبيانات.
في عصرها الذهبي، المتزامن مع انتشار فيروس كورونا واستحالةِ الوصول إلى الميدان، "لا تزال ثقافة صحافة البيانات في العالم العربي في مَهْدها، ومن الأسهل في الصحافة العربية التعبير عن موقف من القضايا بدل الاهتمام بشكل أكبر بالتعاطي مع الحقائق. وهذه مشكلة عالمية اليوم، خاصة في السياق الحالي الذي تتفشّى فيه المعلومات المضللة"، يقول حداد.
الصِّحافةُ والتِّقْنِيّةُ كلُّ واحدٍ منهما مُكَمِّلٌ للآخَر
دائما، ما يفسَّر غيابُ صحافة البيانات في العالم العربي، بضعف التدريب، وانسحاب الجامعة من أداء أدوراها، لكن مثل هذه المسوغات لا تجد صدى عند حداد، الذي يرى أن "الأمر مرهون بالأساس بالصحفي نفسه ومدى استعداده ليكون وسيطًا للحقيقة. ومع أنّه من الوارد جدًّا تضليل القرّاء عبر البيانات، إلا أن البيانات نفسَها تترك أثرًا رقميًا لا يصعب التحقّق منه وإعادة إنتاجه".
على هذا النحو، فإنّ تطويرَ المهارات الذاتية للصحفي، لا تتطلب سوى إيجاد صيغة "لدمج البيانات في قصص صحافية ذات أثر على الجمهور، حيث يمكن البدء برسم بياني واحد يسلط الضوء على نطاق المشكلة، ثم تطوير القصة على نحو أشمل وقائم على البيانات" يقول حداد.
والذي يهم اليوم هو كسرُ الصورة النمطية التي التصقت بصحافة البيانات باعتبارها" تجربة تقنية بحتة".
هذا الخوف من أن تجربة صحافة البيانات، تستحوذ عليها التقنية، وتنزاح عن قيم الصحافة، لا يصمد أمام واقع الحال. إنني"أرى العكس تمامًا؛ فمن الضروري التفكير بهذا الحقل على أنه عمل صحفي تندمج فيه بعض المهارات التقنية اللازمة. كما أرى من تجربتي أنه من الأسهل تدريب الصحفي على استخلاص الفائدة الصحفية من قواعد البيانات، مقارنة بشخص آخر لا يمتلك سوى المهارة التقنيّة".
العلاقة بين التقنية والصحافة، توجد في صلب النقاش الدائر حول صحافة البيانات، رغم أن جزءًا ممن يقودون هذا "الجدل"، يُحرِّكهم الخوف من أن تتجاوزَهم الممارسات الصحفية الجديدة. ومع ذلك، ثمة "مقاربة أفضل تتمثل في النظر إلى هذين الحقلين باعتبار كل منهما مكمّلًا للآخر، ومن هنا أعتقد جازمًا بضرورة أن يتزوّد الصحفي بما أمكنه من المهارات اللازمة ليعزز قدراته على تناول القصص بأعلى قَدْر من الدقة، وفي هذا العصر الرقمي لا بدّ من إيلاء مهارات صحافة البيانات الأولوية".
إنها خرافة رُوِّجَت على نطاق واسع، يقرر حداد. وهي خرافة "سائدة، تقول: إن دخول مجال صحافة البيانات يستلزم أولًا امتلاك مهارات البرمجة الحاسوبية واستخدام الأدوات الرياضية المعقدة. وهنا أؤكّد مجددًا -ورغم ضرورة هذه المهارات في بعض القصص- أنّ معظم قصص صحافة البيانات لا تتطلب سوى معرفة الأسس الجوهرية لهذا المجال، والتي تتمثل في معرفة ما تمثله مجموعة بيانات محددة، وما إذا كانت هذه البيانات قد فُسّرت على نحو صحيح.
القُرّاء لا يبحثون عن أرقام باردة
لا يهم في صحافة البيانات أن تقدِّم أرقامًا باردة خالية من أيّ معنى، أو بيانات قد تزيد في تعقيد الموضوع لا في توضيحه، إنما يهم أن يمتلك الصحفي مَلَكة التفسير. لقد لاحظ محمد حداد، وهو يتحدث عن قياس أثر قصص البيانات عند الجمهور العربي أن "القراء لا يبحثون عن بيانات جامدة، وإنما كانوا يتطلعون إلى تفسير لها في شكل مرئي يمكن فهمه بيُسر. وهذا هو المقصود من صحافة البيانات، إذ تتحوّل الحقائق والأرقام إلى قصص تقدم معلومات للقراء عن العالم من حولهم".
بعد أن كان المشاهد متشوِّقًا لقصص فيروس كورونا؛ فإن الانتخابات الأمريكية فتحت شهيته من جديد أمام المنافسة المحمومة بين المرشحَين الديمقراطي والجمهوري لفهم القصص المعزَّزة بالبيانات. يعترف محمد أن هذه القصص حظيت بنسبة مشاهدة عالية على المنصات الرقْمية لشبكة الجزيرة، إلى جانب أن "المحتوى البياني من بين أكثر ما تفاعل معه رُوّاد وسائل التواصل الاجتماعي، وذلك لأنه ينقل قَدْرًا كبيرًا من المعلومات التي يمكن استيعابها بسرعة".
جائحةُ كورونا، التي غيرت النظام العالمي، وأعادت تعريف الأشياء، مثّلت "اللحظة الكبرى لصحفيي البيانات حتى الآن. ولا يعود ذلك إلى الأثر العام للجائحة على الناس حول العالم فحسب، بل لأنها أنتجت قدْرًا ضخمًا من البيانات التي كان يلزم تفسيرها وعرضها للقراء كي يستفيدوا منها في اتخاذ قراراتٍ تَمَسُّ حياتهم اليومية".
في نظر محمد حداد، يمكن اعتبار صحفيي البيانات أنّهم كانوا -أيضًا- في الصف الأول لمواجهة جائحة كورونا، وتحمّلوا مسؤوليةً دقيقة في الوساطة بين الجمهور والأرقام، وقد" أدركْنا أن الطريقة التي يفسِّر فيها الأفراد والحكومات تلك البيانات ويتفاعلون معها تساهم في تعزيز الجهود الرامية للوقاية من العدوى والسيطرة على الجائحة، ولا شكّ في أن موضوع الجائحة ودورَ البيانات في فهم وتقدير آثارها عالميًا سيولّد حالة متزايدة من الاهتمام بصحافة البيانات حول العالم".
المشاهِد لا تهمّه البيانات.. يهمه الآثر
ارتبطت صحافة البيانات -أثناء انتشار جائحة كورونا- ارتباطا وثيقا بالصحافة الاستقصائية، فوُظِّفت المعطيات والأرقام لإدانة الحكومات في تعاطيها مع تفشي الفيروس، كما أن البيانات شكلت المصدر الأساسي للصحفيين الاستقصائيين أمام غياب الميدان". هكذا، يعتقد حداد أن “ما على صحفيي البيانات إدراكه على الدوام هو أن القارئ ليس مهتمًّا بالبيانات وحسب، بل بما يترتب عليها من آثار وما يرتبط بها من قصص. وكما هي الحال في أي تحقيق استقصائي ناجح، فإن التضافر والتكامل بين المهارات المتعددة والمختلفة هو ما يفتح المجال بشكل أوسع لمساءلة السلطات والجهات المعنية".
لن يتوقف تطوُّر صِحافة البيانات يقينًا، مادامت التكنولوجيا تنمو بسرعة. وبالموازاة مع ذلك "ستتطور آليات مساءلة الخوارزميات والأنظمة والممارسات في مجال العمل مع البيانات، وهذا هو السبب الذي يُحَتِّمُ على الصحفيين العرب الاستفادةَ من تجارِبهم والتجارِب الصحفية حول العالم؛ من أجل الاطلاع على أفضل الممارسات والتقنيات في هذا المجال".
لسنا عناصرَ دعمٍ تقنيٍّ ثانويّةً
مع كل الإمكانيات التي وفّرتها صحافةُ البيانات، ومع كل الجهد الذي بذله الصحفيون للتفسير والتقصي وممارسة دور مراقبة السلطة بتوظيف البيانات؛ فإنّ غرف الأخبار، في منظور حداد،" كثيرا ما تعتبر صحفيي البيانات عناصرَ دعم تقنيّ ثانوية بين كوادرها، بدل أن يكون لهم حضور أساسي ضمن فرق التحرير. لكن في خبرتي -التي تمتد 10 سنوات في مجال صحافة البيانات- لاحظت تغيُّرًا تدريجيًّا في هذه النظرة، إلا أنها لا تزال بطيئة للغاية".
في العالم العربي، وأمام الصورة النمطية حول صحافة البيانات، والتي تحدث عنها حداد، يبدو صعبا إنتاج قصص مؤثرة بجودة عالية، عكس "المؤسسات الإعلامية في الولايات المتحدة وأوروبا فرق عمل معتبرة من صحفيي البيانات الذين ينتجون بعض أفضل القصص الصحفية وأكثرها تداولًا".
آمنت المؤسسات الإعلامية الكبرى أن طوق النجاة هو صحافة البيانات، فيما ظلت غرف التحرير العربية بعيدةً عن إحداث التأثير. يستدرك حداد، أن هذه النجاحات التي تُحققها هذه الفِرَق كفيلةٌ بإقناع المؤسسات الأقلِّ حجمًا بأهمية امتلاك المهارات في مجال صحافة البيانات في بناء وتقديم قصص صحفية جديدة ومبتكَرة في مختلف المواضيع".
صحافة البيانات هي المستقبل، والصحفي الذي لا يمتلك المهارات، ولا يستطيع فهْمَ البيانات وتفسيرَها وتحليلَها سيجد نفسه، وقد تجاوزه "الزمن الصحفي". هذه هي رؤية محمد حداد الذي يؤكد أنه لا مَناصَ من "فهم صحافة البيانات كعملية صحفية، بعيدًا عن الاهتمام بالمنتج النهائي وحسب. وهذا يعني أن كل شكل من القصص الصحفية -سواء كان مقطع فيديو أم صوتًا أم مادةً مطبوعة- يستطيع أن يستفيد من العمليات الخاصة بالبيانات".
الاستفادة من البيانات، يجب أن تكون مقرونة بوعي الصحفيين أنه بعد "عدة سنوات من الآن ستكون صحافة البيانات هي الممارسة الصحافية السائدة، حيث يعمد الصحفيون بشكل تلقائي إلى الاعتماد على البيانات والأشكال البيانية والإنتاج البصري للمعلومات في القصص الصحفية، لمساعدة القراء على فهم الموضوع على أفضل نحو ممكن".
ما الحلُّ إذن؟
يجيب حداد أنه "من الضروري، أن يتوفر المزيد من المساقات التي تركز على تعليم مهارات التفكير النقدي وتفسير البيانات، بدل التركيز على مهارات التعامل مع قواعد البيانات واستخدام الأدوات الرقمية. لا يعني ذلك التقليل من أهمية هذه المهارات العملية، إلا أن ثمة تركيز مفرِط على البرمجيات والتقنية، لا يوازيه اهتمام مماثل بمهارات السرد القصصي واستخلاص المعنى من البيانات".