تواجه الصحافة الأميركية مرحلة غير مسبوقة من التحديات المجتمعية التي تفرضها حالة الاستقطاب السياسي الحاد وإرهاصات الحرب الثقافية، والتحديات السوقية التي تفرضها التطورات المتسارعة في نمط تعامل الجمهور مع المنتج الصحفي في أشكاله المختلفة. يطل هذا المقال على حال الصحافة الأميركية الورقية والتلفزيونية، ويعرض لأبرز التحديات التي تواجهها، والفرص والرهانات التي تعول عليها.
رهان الصحافة الورقية
في العام 2008 أتيح لمجموعة من الصحفيين الشباب -وكنت من بينهم- أن يطلعوا عن قرب على طريقة صناعة الأخبار في صحيفة "شيكاغو تريبيون". يتيح البرنامج من بين فرص عديدة أن تجلس صباحا في الاجتماع التحريري لرئيس تحرير الصحيفة ورؤساء الأقسام المختلفة ليختاروا الموضوعات في مختلف الأبواب، إضافة إلى صورة الغلاف الأساسية وعنوانه وافتتاحية الصحيفة التي تكتبها هيئة التحرير.
في اليوم الأول لفت انتباهي كيف يجلس رئيس التحرير صامتا، يتابع رؤساء الأقسام وهم يشرحون منشورات صفحاتهم دون تعليق.. يحتدم النقاش حول أهمية موضوع وأحقيته بالنشر.. تتابع نظراته الوجوه بكثير من التمعن، لكن دون أن يعلق. ومع اقتراب نهاية الاجتماع، يناقش الصحفيون الافتتاحية وموضوعها، ويطرح رئيس كل قسم موضوعا، ثم يجري التصويت على كل المواضيع ليُختار واحد منها. وعبر نقاش جاد بين سطوره، تتجسد شخصية الصحيفة وتاريخ الصحافة الورقية وملخص للمهنية وما يعنيه دور الصحيفة في المجتمع.
كان مجلس مدينة شيكاغو قد قرر صبيحة أحد الأيام أن يصوت على سحب الثقة من رئيسه المنتخب عبر آلية العزل، وكانت الصحيفة في مركز القضية حين نشرت تحقيقا استقصائيا يوضح تورطه في منح ترخيص قفز على الإجراءات لصالح شركة كبرى لبيع السلاح من أجل فتح معرض كبير قرب منطقة ترتفع فيها جرائم القتل العشوائي عبر طلقاته.
كان الموضوع متفاعلا، وكان الصحفيون يتحدثون عن افتتاحية الصحيفة في يوم التصويت على عزل رئيس المجلس. وبين يدي سؤال عن الكلمات التي ستستخدم في هذه الافتتاحية، وما الذي ستقوله الصحيفة في توقيت كهذا بعد أن فجرت القضية؟ وهل نشر الافتتاحية حول الموضوع سيحمل رسالة تكمل ما بدأته الصحيفة في تحقيقاتها؟ امتد النقاش ساعة كاملة، ولو سمح المقام هنا لسردته على ما فيه من دروس متنوعة في المهنية والالتزام.
كان القرار الذي خلصوا إليه يقضي بنشر الصحيفة تفاصيل عن مصادر المعلومات التي أوردها التحقيق. في مثل هذا التوقيت، لا بد أن يعرف القارئ والرأي العام أن الذي ألقى بها إليهم هو واحد من الذين سيصوتون لعزل رئيس المجلس، وهو عضو فيه، وكان الصحفي الذي حقق في القضية قد ألقى بهذه المعلومة أمام هيئة التحرير خلال النقاش، فتحدث رئيس التحرير للمرة الأولى منذ حضوري للاجتماعات قائلا: "حق أصيل للصحفي ألا يكشف عن مصادره، خاصة إذا كان هذا الكشف سيعرضه للخطر، لكن الخطورة الوحيدة هنا هي على المستقبل السياسي لهذا العضو في المجلس، فقد يقضي ذلك على طموحاته في الترشح كرئيس للمجلس لاحقا، وما دام هو هناك لخدمة المواطنين فليكن ذلك عبر فضح زملائه وعدم التستر على أخطائهم.. إن هذا قد يصعّب وصولنا إلى مصادرنا لاحقا، لكننا سنخط أساسا لقاعدة مهمة: لا يمكن لصحيفتنا أن تكون مسرحا للتصفية السياسية".
نشرت هيئة التحرير الافتتاحية التي أحدثت ضجة كبيرة في المدينة التي لم تمض ساعات على صباحها حتى كان رئيس مجلسها مستقيلا دون حتى أن يجري التصويت. في المساء، دخلت إلى غرفة رئيس تحرير الصحيفة بينما كان منهمكا في عمله.. ابتسم ودعاني للجلوس.. قلت: أحاول أن أستفيد من وجودي هنا لاستيضاح أمور متعلقة بما جرى اليوم، فهو استثنائي. حين تلعب الصحيفة دورها كسلطة رابعة، فهذا مدهش ومثير للإعجاب.. الحقيقة، أنا سعيد لأنني صحفي لما رأيته اليوم.. ابتسم، وقال: يعتقد البعض أن جيلكم سيقتل الصحافة الورقية إذا ما ركز على الإنترنت أكثر.. طريقة النشر نفسها عبر هذه المنصات الإلكترونية عبقرية وسريعة، لكنها تقتل الصحافة المعمقة.. حين تقلب الصحيفة فإنك تحتاج إلى يديك وذراعيك كي تطويها.. المنشور الإلكتروني تتحكم فيه بسبابتك لتطوي الموضوعات طيا وبحركة سريعة.
هنا المعضلة، سينصرف الصحفيون جميعا إلى الصحافة السريعة التي لا تحتاج منهم إلى بذل وقت.. إذا كان الانتشار المطلوب سيتحقق عبر نشر موضوعات آنية، لمَ لا؟ لكن ذلك سيقضي على الفكرة التي أثارت إعجابك: الموضوعات الرصينة التي تحتاج إلى وقت في إنجازها. قبل أسبوع وصلتني أرقام مبيعات الصحيفة الورقية، مثيرة للقلق نعم، ولكن كلما دخلت في الصباح واطلعت على موضوع كهذا كل بضعة أشهر، أثق في أننا مستمرون لأن العبقرية التي نمتلكها لا يمكن لصحافة السرعة أن تحظى بها.
الحكومة الخفية
في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، قرر الصحفي الأميركي الاستقصائي الشهير سيمور هيرش أن ينتقل من العاصمة واشنطن إلى مدينة نيويورك. في واشنطن فجّر هيرش ما هو كافٍ ليصنع نجوميته الصحفية من الفضائح والتحقيقات الاستقصائية التي هزت الحكومة الأميركية بما في ذلك الاستخبارات المركزية، واعترف بأن الأفراد والصحف الأميركية أكثر شجاعة في الكشف عن فضائح مرتبطة بالحكومة مقارنة بالتحقيقات التي تستهدف الشركات الخاصة. من هنا قرر أن ينتقل إلى عاصمة الرأسمالية والقطاع الخاص؛ نيويورك، ليركز عليهم هذه المرة. بعد ثلاث سنوات قرب بورصة "وول ستريت"، فشل هيرش في إنجاز تحقيق واحد، ولم ينشر شيئا، فتحول إلى كتابة سيرة ذاتية عن وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر.
كان هيرش قد حاول عبثًا فتح ملف محام شهير اسمه سيدني كورشاك، ولديه علاقات مع كبار رجال الأعمال في نيويورك ويسهّل انتشالهم من وقائع فساد كبرى. وحين قبل كورشاك أن يلتقي هيرش ليجري معه حوارا، ألجمه بالكلمات التالية: "لديك طموح مفهوم لاختراق العادة، لكنك لن تستطيع.. أنت تحتاج إلى تأمين صحي كي تعيش، والقطاع الخاص يوفر ذلك. ببساطة هناك كثيرون يؤمنون بأن أسهل طرق التأمين الصحي في نيويورك هي أن تبقى صامتا".
كلمات كورشاك وفشل هيرش يفسران الحجم الضخم من التسريبات والتصريحات التي تكشف عنها الصحافة الأميركية فيما يرتبط بالحكومة منذ عقود، مرورا بحمل ريتشارد نيكسون على الاستقالة، ووصولا إلى عهد الرئيس الحالي دونالد ترامب.
ثمة سياق آخر يساعد على مزيد من الفهم، ففي العام 1964 ألف توماس روس وديفد وايس كتابا بعنوان "الحكومة الخفية". حاول الكاتبان رسم صورة للدور الذي تلعبه المخابرات المركزية في توجيه دفة السياسة الخارجية الأميركية في صورة من صور "جهاز الظل" الذي يحرك الدفة واقعيا بينما يجلس الدبلوماسيون أمام دفة لا اتصال لها بالمحركات. نشر الكتاب معلومات حول عمليات اعتُبرت "مخفية تماما" أدارتها وكالة "سي.آي.أي" من أجل الإطاحة برؤوس الحكم في غواتيمالا وإندونيسيا ولاوس وبورما وفيتنام. الكتاب الذي كان من أعلى الكتب مبيعا وقتها، دفع الوكالة إلى إصدار رأي رسمي فيه، منتقدة مضمونه وواصفة إياه بالزائف الذي يحدث ضجيجا على أساس خاوٍ.
السلطة الرابعة وصراع المجتمع الطبقي
يلح السياقان السابقان في الظهور هذه الأيام في واشنطن، فسهولة الكشف عن فضائح حكومية ومصطلح "الحكومة الخفية" يعودان إلى الواجهة، ويشكلان عنوانا للمعركة الدائرة بين الرئيس ترامب وأجهزة حكومته، بما فيها المخابرات، والتي تأخذ شكلا أكثر ضراوة مبعثه تعزيز قدرات هذه الأجهزة وزيادة التواصل بين مصادرها في عهدي بوش وأوباما، خاصة بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001.
وإذا كانت تسريبات الموظفين الحكوميين ونفوذ المؤسسات الأمنية ليست جديدة، فإن النقاش الأهم هذه المرة يتمحور حول محاولة فهم الدوافع التي تشجع أفرادا في الأجهزة الأمنية والحكومية على الكشف المتتالي عن فضائح تستهدف ترامب. ويسهل على المرء تصور أن يدفع الاستبدال التدريجي لموظفي أوباما من جسد الحكومة الجديدة باتجاه إنهاء ما يشبه العصيان وتوقف التسريبات الصحفية المتلاحقة، لكن الأمر ليس بهذه السهولة. فالمختلف هنا عما واجهه رؤساء أميركيون سابقون -بمن فيهم الرئيس الديمقراطي الأسبق جيمي كارتر- من تسريبات شبيهة في بداية حكمه، أن كثيرين يفعلون ذلك بدافع مختلف، حيث يمكن اختصار الأمر هذه المرة، على أنه صورة من صور الاستقطاب الحزبي الذي سينتهي بتغيير الجهاز البيروقراطي، إذ يتصل بحالة جديدة من الصراع الطبقي الممتد بين النخبة الأميركية المتطورة وبين العاملين الأميركيين البيض الذين خسروا وظائفهم في المصانع القديمة خلال العقدين الماضيين على حساب هذه النخبة، وهو صراع اختصر في شخصيْ ترامب وهيلاري كلينتون خلال الانتخابات.
فالأخيرة تمثل الطبقة المتطورة بلغتها وبرنامجها ونخبويتها، في حين مثل ترامب نقيضها التام الذي قدم نفسه على أنه رجل أعمال ينتمي إلى طبقة الكادحين البيض لغة وأداء. واعتمد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في تعييناته الحكومية خلال فترتي حكمه على جيل من الشباب المتخصصين في معظم المجالات، وأحدث تغييرا جذريا في متوسط أعمار العاملين في أجهزة الحكومة. وهذا أمر كان له أثر كبير في تحول معظم هذه الأجهزة إلى طبقة من التكنوقراط الجدد الذين مثلوا الصف الثاني في معظم الأجهزة خلف الوجه القديم.
ومدفوعين بسخط النخبة الثقافية والفنية والسياسية ضد ترامب، يقود هؤلاء التكنوقراط ما يعرف في واشنطن بحرب العصابات في الحكومة (Guerrilla Government)، التي تمثل شكلا من أشكال العصيان الداخلي لعرقلة أو تقليم السياسات الجديدة. وقد ساهم في ذلك أكثر، إصرارُ ترامب على تعيين شخصيات جدلية سبق أن دخلت في نزاعات قضائية حول الحقائب الوزارية التي يفترض أن تضطلع برسم سياساتها.
رهان الصحافة التلفزيونية
حين التقيت مقدم برنامج "المصادر الموثوقة" على شبكة "سي.أن.أن" براين ستيلتر، كان قد أنهى حلقة برنامجه الأسبوعية مع ضيفته الإذاعية بروك غلادستون التي تقدم واحدا من أشهر البرامج على الإذاعة الوطنية الأميركية "على وسائل الإعلام" (on the media). ستيلتر وغلادستون كلاهما يتابع القنوات التلفزيونية ووسائل الإعلام الرقمية الجديدة كل أسبوع، وهما معا أكثر من يعلم حين يتعلق الأمر بكواليس صناعة وسائل الإعلام في الولايات المتحدة. هذا السياق دفعني إلى سؤال ستيلتر في مستهل جلستنا حول سبب استضافته غلادستون، فقال: هذا الكتاب الجديد والعمل المذهل.. فعلى مدار عشر سنوات تتبعت غلادستون البرامج الحوارية الأميركية وكيف تعاملت مع الوقائع والحقائق.. الكتاب كان بعنوان "معضلتنا مع الواقع"، وغلادستون اكتشفت أن المشاهد الأميركي لديه أزمة مع الواقع وحقائقه، فهو دائما يبحث عن السرد ولا يبحث عن النص المستقل.
كنتُ قد فضلتُ أن أقابل ستيلتر كي أناقشه في أمر ليس ببعيد عما ذكرته ضيفته غلادستون.. أين وصل سوق البرامج الحوارية في الولايات المتحدة؟ وبالنظر إلى السياقات التاريخية لأوقات الذروة في المشاهدة، أين نحن الآن؟ وما دور مقدم البرامج في هذه اللعبة؟ ستيلتر أفضل من يجيب عن هذه الأسئلة.
"بوب كورن لذيذ بعد يوم عمل طويل"
بدأ ستيلتر حديثه مستشهدا بآخر الأرقام التي خرجت حول مقاييس المشاهدة والتعرض للبرامج الحوارية في أوقات الذروة. أميركا تعيش حالة من الاستقطاب، ولذلك لم يعد الأمر يتعلق بالنجوم كما كان في السابق، بل بالمدى الذي يصل به السرد المقدم ليكون فعالا بشكل كافٍ لدحض حجة الطرف الآخر.. هنا تدخلت لأسأل: هل ثمة طرف ثالث في المعادلة؟ هل هي ثنائية كما في الحياة الحزبية الأميركية، أم أن ظهور بيرني ساندرز ودونالد ترامب من خارج بوتقة الحزبين إلى داخلهما يعطي انطباعا بأن هناك طرفا آخر في كل جانب، يبحث عن اتجاه ثالث؟ ابتسم ستيلتر ورفض فكرة السؤال من أساسها.
لا يمكن -من وجهة نظره- أن تصدق أن في الولايات المتحدة مشاهدا يفضل الواقع على سرديته المؤدلجة.. هنا أخرج ستيلتر ورقة تتضمن آخر أرقام التعرض والمشاهدة للأسبوع الماضي، وهو يشير بيده إلى تصدر الأكثر معارضة لترامب راشيل مادو (أم.أس.أن.بي.سي)، والأكثر تأييدا تيكر كارلسون لقائمة نسب المشاهدة الأعلى، بعد استبدال بيل أوريلي به.
حديث ستيلتر لا يبدو غريبا، فقد تصدر آخر استطلاع للرأي أجراه معهد "بيو" حول حالة وسائل الإعلام الأميركية، مجموعة من المؤشرات المهمة التي قال الاستطلاع إنها تعبر عن تناقض صارخ بين أنماط التعرض الفعلي وبين ما تخرج به مجموعات البحث التي تجري استطلاعات على المشاهدين في معظم الولايات الأميركية. يقول الاستطلاع في أحد محدداته الخمسة إن المشاهد الأميركي يفضل أن يظهر متوازنا في تعرضه لوسائل الإعلام، لكنه -بتعبير الاستطلاع- يبحث عن "بوب كورن لذيذ بعد يوم عمل طويل"، وقطعا هذا "البوب كورن" لا يجده على "بي.بي.أس" (PBS) التي تراجعت نسب مشاهدتها حتى اختفت تماما من قوائم تتبع نسب التعرض، رغم اعتمادها لغة متوازنة وحيادية.
التكنولوجيا الرقمية
رغم تقدم تكنولوجيا التواصل مع الجمهور والوسائل الجديدة عبر الإعلام الرقمي، فإن قنوات الكبل في الولايات المتحدة ما زالت تتمتع برواج واسع وتحصد زيادة متواصلة في حجم المشاهدين، بحسب تقرير حالة وسائل الإعلام للعام 2016 الذي يعده "هارفارد لاب" سنويا. يقول التقرير إن نحو ثلاثة ملايين مشاهد لأوقات ساعات الذروة في القنوات الإخبارية الأميركية أضيفوا العام المنصرم مقارنة بالعام الذي سبقه.
ورغم أن التقرير يرى أن هذه الزيادة متوقعة بسبب عام الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، فإنه يشير في محدداته إلى نتيجة مهمة مفادها أن الحوار في المجال العام سرى باتجاهين، فثمة حالة امتزاج وانتقال للحوار بين ما هو مقدم في البرامج الحوارية في ساعة الذروة، وبين ما هو متداول عبر وسائل الإعلام الرقمية.
ما يقوله تقرير جامعة هارفارد هو ما يلاحظه المتابعون لوسائل الإعلام في الولايات المتحدة هذه الأيام، فلأول مرة منذ سنوات يذكر الرئيس الأميركي الصحفيين ويصفهم بألفاظ فيها تحدٍّ شديد. مقدم برنامج "ساعة الذروة" في "سي.أن.أن" دون ليمون هو "أكثر الإعلاميين ضحالة" بحسب ترامب، بل إن الرئيس نفسه هو نجم تلفزيون الواقع الذي يعتقد أكثر المتابعين أنه ساهم -بصورة أو بأخرى- في صناعة اسمه.
يرى جورج لي مارشال في كتابه "تاريخ البرامج الحوارية الأميركية" أن المشاهد الأميركي لا يهتم بحجم التغطية الميدانية المقدمة في البرامج أكثر من اهتمامه بالضيوف الذين تستضيفهم. ويرى مارشال أن مشاهدي الشبكات الأميركية الوطنية يبحثون عن الضيوف الذين يحظون باهتمام مشترك معهم، بينما يرغب مشاهدو الشبكات المحلية في متابعة التغطيات الميدانية التي تستهدف مواقع في الولايات والمدن التي يقطنونها.
انفتاح جمهور التلفزيون -أكثر من أي وقت مضى- على المجال العام الرقمي، أتاح الفرصة لخلق منصات جديدة إلكترونية وآليات بث رقمية عبر يوتيوب، دخلت ضمن دائرة ضوء البرامج الحوارية التلفزيونية التقليدية، وأصبحت تعليقات أليكس جونز عبر قناته الإذاعية التي تنشر مقاطعها على يوتيوب أيضا، من بين سياقات التحليل في برامج ساعات الذروة الحوارية، وهو شكل من أشكال التداخل غير المسبوق بين المحتوى التلفزيوني والرقمي في الولايات المتحدة.
التلفزيون وانعكاسات الحرب الثقافية
تتبع ستيلتر ما أحدثته هذه البرامج في المجتمع الأميركي في السياقين السياسي والاجتماعي، وفي إجابته عن سؤالي: أين نحن الآن؟ وما دور مقدم البرامج في هذه اللعبة؟ تحدث عن لاري كينغ المقدم الشهير لبرامج ساعات الذروة الحوارية سابقا على شبكته.. وسألني: هل تعرف أنه الآن يقدم برنامجا على قناة "روسيا اليوم"؟ أومأتُ برأسي إيجابا بينما ضرب هو على الطاولة ممتعضا وهو يقول "لا أكاد أصدق!.. أهذا هو لاري كينغ؟!.. قاطعتُ فكرته مباغتا: لكن "سي.أن.أن" ليست "سي.أن.أن" أيام لاري كينغ أيضا!.. صمت ستيلتر هنيهة ثم قال: كلامك صحيح وخاطئ في آن.. أعرف أن هذه هي الحجة التي يسوقها كينغ في حديثه عن سبب التحاقه بقناة "روسيا اليوم".. هو يقول إنه لا يواجه أي شكل من أشكال الرقابة، وإن الرقابة بالنسبة له هي القيود التي يفرضها سوق الإعلام بنزعته التنافسية الراهنة التي تعتمد على السرد والسرد المضاد، لكنني أعتقد أن المعضلة هنا في تخلي لاري كينغ عن محوه اللحظة التاريخية لاعتزاله باعتبارها نهاية تاريخية بهذا البرنامج الذي يقدمه. ستيلتر ذكر كينغ ليحدثني عن صفات البرامج الحوارية في الولايات المتحدة، وكيف يمكن لساعة الذروة أن تعصف بحجم المشاهدة وتضع قناة في المقدمة. هذه الكلمات على لسان ستيلتر:
دون ليمون هو مقدم ساعة الذروة الأهم الآن على "سي.أن.أن"، كان مقدما مساندا في الصباح ثم مساندا في المساء ثم منفردا لاحقا بعد رحيل بييرز مورغن.. كنا في اجتماع التحضير لإطلاق البرنامج، وحين علمنا أن ليمون أسند إليه تقديمه تفاجأنا، بل إنه نفسه تفاجأ. المرحلة هي التي أتت بليمون. كانت حركة "أرواح السود مهمة" قد صعدت، وكان السرد المضاد لأول رئيس أميركي من أصل إفريقي على "فوكس نيوز" قد تصاعد. ليمون عاش تقريبا نفس ظروف أوباما الاجتماعية.. بالنسبة لقناة تنافس "فوكس نيوز" لم يكن هناك اختيار أفضل.. طبعا حديثي عن هذا السياق لا يخفي النجاح الذي حققه ليمون للوصول إلى هذا المكان.
حديث ستيلتر يحمل في طياته دلالات عدة على قرار أشبه بمنافسة سوقية بين منتجين.. هذا هو حال وسائل الإعلام الأميركية هذه الأيام.
يصف معهد "بيو" في التقرير السنوي لحالة الإعلام الأميركي السنوات العشر الماضية بأنها "إعادة بزوغ برامج ساعات الذروة الحوارية"، ويقول إن عودة الحياة مجددا للبرامج التلفزيونية الحوارية في ساعات الذروة بعد انحسارها عام 2008 مرتبط بتغيرات ديمغرافية تمر بها الولايات المتحدة، خلقت حالة من الاضطراب لدى الأميركي الأبيض الذي يرفض التسليم بأن لون بشرة أرض المهاجرين غدا داكنا أكثر من أي وقت مضى.
هذا التغير الديمغرافي ترك أبعادا اجتماعية وسياسية على المجتمع، وأعاد المشاهدين مجددا إلى التلفزيون كوسيلة يطلون بها على الحكومة المركزية ويشاهدون عن طريقها الصراع بين السرد والسرد المضاد، على اعتبار أنه كلما ارتفعت نسبة التوجس لدى الأميركيين أصبحوا أكثر تتبعا لأخبار واشنطن وأكثر اهتماما بالسياسة، كما خلص باحث الأنثروبولوجيا الشهير كونراد فيليب كوتاك في كتابه "مجتمع ساعات الذروة.. دراسة في أنثروبولوجيا المشاهد".
يشير أحدث تقرير لمعهد "نيلسن" إلى أن الأميركيين الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاما، شاهدوا أسبوعيا 15 ساعة و36 دقيقة من البرامج الحوارية في ساعات الذروة، بمعدل ساعتين وربع في اليوم، وهو ثاني أصغر انخفاض في السنوات الثلاث الماضية. هذه العودة للجمهور الشبابي في الولايات المتحدة إلى التلفزيون التقليدي مجددا، مرتبطة -حسب التقرير- بثقة هذه الفئة العمرية في أن مركز القرار السياسي والفاعلية الاجتماعية والتأثير مرتبطة جميعها بحجم التغطية التي تقدمها هذه الوسيلة.