يستوقفني انبهار بعض الزملاء العرب بالصحفيين الغربيين بشكل مبالغ فيه، وأتصور أن الأمر كاشف لغياب القدرة على تكوين صورة مركبة، تقوم على إدراك خلفية وسياق العمل اليومي في عالمين متناقضين من حيث الإمكانيات المتاحة للصحفي عربيا وغربيًا، بالإضافة إلى عدم الإلمام بأن منتج الطرف الآخر ليس جيدًا طوال الوقت.
لا نحتاج للكثير من البحث كي نثبت أن صحفيين غربيين تورطوا لسنوات طويلة في فبركة تفاصيل سلسلة من القصص حصل بعضها على جوائز، بل واحتفت بها صحفنا العربية وترجمتها من الوسيط الغربي.
وأقصد هنا بالتحديد حالة كلاس ريليوتيس، المراسل الشهير الحائز على عدة جوائز والذي استقال من عمله في مجلة "دير شبيغل" الألمانية نهاية عام 2018، بعد الكشف عن اختلاق 14 قصة من أصل 60 نصًا كتبه، منها مادة عن طفلين عراقيين اختطفهما متطرفون، وقصة عن معتقل يمني في غوانتنامو، والمعنونة بـ "404".
يغفل المنبهرون أن زملاءهم الغربيين يعملون في ظروف مهنية مريحة إذ يتوفر لديهم كنز معلوماتي متاح للعامة وليس فقط الصحفي، عبر أرشفة كل البيانات وتوثيق ما يتعلق بتدبير الشأن العام، يمكن لأي مواطن الاطلاع عليه في أي وقت، وهو ما كان سندًا كبيرًا لإتمام سلسلة من أهم التحقيقات المعاصرة. فريق مؤسسة "بوسطن غلوب" المعروف بـ "سبوت لايت" تمكن من تتبع القساوسة المتورطين في الاعتداءات الجنسية على الأطفال عبر عدة طرق ومصادر مفتوحة منها الأرشيف الخاص بالكنائس التي اشتغلوا فيها والمحتوي على اسم القسيس وصورته وتاريخ عمله.
في عالمنا العربي، يغيب الأرشيف وتغيب ثقافة الأرشفة في المؤسسات العامة والخاصة. وإن توفر، فالولوج إليه يمر عبر موافقات أمنية في بعض الأحيان، بالإضافة إلى تغييب العديد من الوثائق بحجة المساس بالأمن القومي. وأستحضر في هذا السياق، ما اشتكى منه أكثر من مرة، أستاذ التاريخ بجامعة هارفارد، خالد فهمي، والذي حاول توثيق أسباب الهزيمة المصرية في حرب 1967، موضحًا في تصريحات صحفية، بأنه لا يمكنه تقديم إجابات واضحة للعديد من الأسئلة الجوهرية، طالما لا يمكنه الاطلاع على الوثائق ذات الصلة، المحفوظة في اﻷرشيف دون رفع الحظر عنها.
الأرشيف جزء من عمل الصحفي، وحتى لو وجدت في العالم العربي أن القوانين مثالية لكن الممارسة تخبر بعكس ذلك، حيث تخضع لمزاجية السلطات، وربما قد تكون السبب وراء توقيف الباحث عن المعلومة واعتقاله. هذا بالتحديد ما جرى مع الخبير القانوني الأردني مؤيد المجالي في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2019، إذ تقدم بطلب حق الحصول على المعلومات مستفسرًا عن أراض سجلتها حكومة رئيس الوزراء السابق علي أبو الراغب باسم الملك قديمًا، فاعتقلته السلطات الأردنية بتهمة إطالة اللسان على الملك رغم أن قانون ضمان حق الحصول على المعلومات لسنة 2007، ينص في المادة 8 منه على أنه: "على المسؤول تسهيل الحصول على المعلومات، وضمان كشفها دون إبطاءٍ وبالكيفية المنصوص عليها في القانون".
وفي ظل هذا الواقع المعتم عربيًا، وعن تجربة، يمكن القول إن تونس هي الأفضل في تفعيل هذا الحق بعد أن وافق البرلمان التونسي على مشروع قانون لتداول المعلومات يتيح ويمنح الحق لكل المواطنين في الحصول على المعلومات من المؤسسات العامة في مارس/آذار 2016، وهو ما يبدو مثلًا في القرار الصادر في فبراير/شباط 2018، بتسليم الجمعية الوطنية لحماية قطاع النقل "التاكسي" محضر الاجتماع الذي تمت فيه مناقشة إجراءات إسناد رخص النقل.
في المقابل، فإن تلك النوعية من القوانين نافذة ومعمول بها في الدول الغربية، ما يخلق بيئة سلسلة ومساعدة للصحفي، تسهل عليه الوصول إلى المعلومة الموثقة حكوميًا ليخضعها لعمليات التحقق والتأكد المختلفة، بينما نظيره العربي يطارد سرابًا يحسبه الظمآن ماءً.
لا يقف الأمر عند ذلك الحد، إذ يتعاطى المسؤول العربي مع الوسيط الإعلامي الغربي ويمنحه بكل بساطة السبق وحق الرد، لتنقل عنه بعد ذلك وسائل إعلام بلد المسؤول، بدلًا من أن تكون هي مصدر المعلومة.
وعلى هذا الأساس، صارت الشعوب تعتقد بأن البحث عن المعلومة الموثوقة لابد أن يكون في الوسيط الغربي. ويتفق الطرفان على تجاهل إعلامهم المحلي وقت الجد وهو ما تبدى بشكل واضح في أزمة الأردن الأخيرة التي بدأت تفاصيلها من بي بي سي وواشنطن بوست لتنقلها فيما بعد وسائل الإعلام المحلية والعربية.
إلى جانب ما سبق، يبقى عدم اعتراف بعض الدول العربية بالصحفي إلا عبر آلية قانونية تقوم على التعيين في منصة محلية، وهو أمر شاق ويحرم العديد من المهنيين مزايا العمل القانوني ويجعلهم تحت طائلة التوقيف في أي لحظة بجرم انتحال صفة. هكذا يصبح هؤلاء الزملاء غير قادرين على العمل إلا عبر آلية التعاون بالقطعة مع وسائط مختلفة، ما يحرمهم من حضور مؤتمر صحفي لجهة حكومية أو دخول البرلمان لمتابعة الجلسات، على عكس ما يتوفر لنظيرهم الغربي والذي يمكنه ببساطة، الوصول إلى جميع المسؤولين والتسجيل لحضور مختلف الفعاليات الرسمية دون تعقيدات.
وكما تقول الزميلة العراقية ميمونة الباسل في تعليق على منشور بهذا المعنى نشرته على "فيسبوك": "الصحفي العربي يكفيه معاناة بأنه يخشى حتى الكتابة باسمه الحقيقي؛ بل إن المساحة التي يعمل فيها هي الأكثر بؤسا في العالم بالرغم من أنها مصدر الأخبار والمادة الدسمة على صفحات الصحافة الغربية التي تتغذى مثل البعوض على دمائنا، فيما لا يستطيع الصحفي العربي الوصول الى المعلومة بسهولة ويسر؛ لأنه يعيش بواقع مرير (رشاوى، تهديد بالقتل، إقصاء...إلخ)، ولاشك أنّ هذا الواقع ملهم وخصب بإنتاج المبدعين من رحم تلك المعاناة وليس من وراء الغرف المكيفة كما هي بعض وسائل الصحافة الغربية".
الأفظع من ذلك، أن بعض الحكومات العربية حولت الصحفي إلى عدو للشعب أو طابور خامس، حتى إن بعض الزملاء يخشون النزول إلى الشارع بالكاميرا ليس خوفًا من الأمن بقدر ما يمكن تسميته بـ "رعب الجماهير" التي تستوقفهم وتطلب رؤية ما يصورونه. وإذا لم تعجبهم تغطية الصحفيين، يعتدون عليهم ويحطمون ما يملكون من أدوات تشكل مصدر رزقهم الوحيد ولا يمكنهم الحصول على بديل عنها. وفي حال تطور الموضوع قد يصل إلى الشرطة، أما الصحفي الغربي فيشتغل في بيئة سليمة ومحفزة على حرية الصحافة.
لا يمكن هنا إغفال خطر السجون والمعتقلات، كما يظهر في مسح أجرته منظمة "مراسلون بلا حدود" نهاية العام الماضي، والذي كشف أن 387 مواطنًا يقبعون في السجون حول العالم بسبب عملهم في مجال الصحافة، وأكثر من نصف هؤلاء المعتقلين موزعون على 5 دول فقط، وهي الصين والسعودية ومصر وفيتنام وسوريا.
وعلى الرغم من ذلك سجل صحفيون عرب كثر نجاحات عديدة وتمكنوا من النحت في الصخر ببطولة، وإنتاج قصص وتحقيقات محلية بأقل الإمكانيات وفي ظل شح الموارد المهنية والمادية، لا سيما وأن الصناعة تذوي يومًا بعد يوم بسبب إغلاق المجال العام وحرمان المهنيين من فرص العمل.
على عكس ازدهار وتطور صناعة مكتملة الأركان انتقلت من المكتوب إلى الإلكتروني وحاليًا صارت في العهد الرقمي وستتجاوزه قريبًا إلى ما بعده، فإن الحكومات تؤمن بقاعدة: "دعه يعمل دعه يمر مدموغًا بتزايد الرقباء وحراس البوابة في بلادنا".