بالتزامن مع اليوم العالمي لحرية الصحافة، وفي غمرة الاهتمام بالتقرير السنوي الصادر عن منظمة "مراسلون بلا حدود"، صدر تقرير عن الاتحاد الوطني الأمريكي للكتاب (NWU)، يوثق تعرض حوالي 100 صحفي وصحفية لإجراءات انتقامية من قبل مؤسساتهم، بسبب مواقفهم من الحرب الإسرائيلية الجارية على قطاع غزة، وانتقادهم العلني لفشل الإعلام الغربي السائد في تغطية هذه الحرب.
وبحسب التقرير، فإن أكثر من ثلث الصحفيين المستهدفين كانوا مسلمين أو من أصول عربية، والضغوطات والملاحقات التي تعرضوا لها كانت إما من داخل المؤسسات التي يعملون لديها أو يسهمون فيها، وإما من جماعات ضغط مؤيدة لإسرائيل، وإما من كلتا الجهتين. وهو تطوّر ترى فيه الجهة المعدة للتقرير نمطا مثيرا للقلق يهدد حرية الصحافة ويكشف عن مشكلات عميقة في بيئة الإعلام والمؤسسات الثقافية في الولايات المتحدة وأوروبا.
أكثر من ثلث الصحفيين المستهدفين كانوا مسلمين أو من أصول عربية، والضغوطات والملاحقات التي تعرضوا لها كانت إما من داخل المؤسسات التي يعملون لديها أو يسهمون فيها، وإما من جماعات ضغط مؤيدة لإسرائيل.
كذلك يرى التقرير -الذي جاء في 34 صفحة، واشتمل على تفصيلات بشأن أنماط التحيز وازدواجية المعايير في الصحافة الغربية السائدة خلال الأشهر الماضية- أن قادة تلك المؤسسات تصرفوا مع موظفيهم على نحو يقمع حرية التعبير. ويتجلى ذلك بترصّد أي محاولات لتسليط الضوء على الرواية الفلسطينية أو التعبير عن القلق من الانتهاكات الحقوقية الجسيمة الواقعة على الفلسطينيين في قطاع غزة أو الضفة الغربية، وهو سلوك يراه التقرير متسقا مع حالة تشهد فيها عدة عواصم غربية تحركا حثيثا يسعى إلى ترهيب الأصوات الداعمة للفلسطينيين، وصل إلى حد الدفع باتجاه تغييرات تشريعية تجرِّم انتقاد إسرائيل، عبر توظيف تُهَم مثل معاداة السامية أو دعم الإرهاب.
ورغم أن التقرير ليس شاملا في نطاقه، بل تناول عبر التقصي والتوثيق 44 واقعة انتقامية بحق صحفيين، حدثت بين 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي وحتى مطلع فبراير/ شباط من العام الجاري، فإنه يفتح نافذة على ما يعتقد معدوه أنه ظاهرة "ممنهجة وواسعة النطاق"، يتحول فيها التزام المبادئ المهنية السامية لمهنية الصحافة إلى خطر يهدد الصحفيين.
وإزاء هذه الظاهرة التي تفاقمت خلال الشهور الماضية، نشأ حراك مناهض لها وواع لمخاطرها على الممارسة الصحفية المسؤولة؛ ففي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وجه عدد من الصحفيين من هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) رسالة إلى الجزيرة تعبر عن موقفهم الرافض للسياسة التحريرية التي تنتهجها الهيئة البريطانية في تغطية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، واتهموها بالتحيز وعدم الاتزان في تقدير قيمة حياة الضحايا المدنيين، وقد تضمنت تلك الرسالة تحفظات أساسية من طرف الصحفيين الثمانية، تدل على أوجه القصور في تعامل القناة البريطانية مع الرواية الفلسطينية وتهميشها، وتعمد إسقاط السياق على نحو يمنع من فهم الظرف الذي وقعت فيه هجمات السابع من أكتوبر، إلا أن الصحفيين الموقعين على الرسالة طلبوا عدم نشر أسمائهم خوفا من تعرضهم لردود فعل انتقامية من طرف الإدارات التي يعملون بها، ولقناعتهم بأن نشر الأسماء في هذه المرحلة سيلحق بهم ضررا بالغا بسبب أشكال التهديد والابتزاز المختلفة التي قد تمارسها المؤسسة بحقهم، وهي تخوفات يؤكد التقرير دقتها.
وتشير مادة التقرير في هذا السياق إلى التحقيق العاجل الذي أطلقته الهيئة البريطانية بحق ستة من الصحفيين المتعاونين معها، وتعهّدها في بيان منشور بعدم التعامل معهم في أي مهام صحفية جديدة، قبل أن تتراجع الهيئة عن قرارها في وقت لاحق، وتخلص إلى عدم لزوم اتخاذ أي إجراءات تأديبية.
من الأمثلة الأخرى التي رصدها التقرير حالة الصحفية زهراء الأخرس، التي كانت تقضي إجازة الأمومة حين اتخذت شبكة "غلوبال نيوز" الكندية قرارا بفصلها على خلفية منشورات على حسابها الشخصي استخدمت فيها وسوما تدعو إلى نصرة فلسطين، وتشير إلى آثار الحرب الواقعة على الفلسطينيين في غزة. وقد تكررت مثل هذه الحالة مع الصحفية الأسترالية لبنانية الأصل، أنطوانيت لطوف، التي ألغت شبكة أي بي سي الأسترالية عقد التعاون معها لمجرد نشرها تقريرا صادرا عن منظمة "هيومان رايتس ووتش" يتهم إسرائيل بتجويع المدنيين في غزة.
كذلك ينقل الاتحاد الوطني للكتاب في تقريره شهادة الصحفية شانتي جوزيف التي تعرضت لحملة تشويه ومضايقات أعقبت مقالا لها ومنشورات شخصية تتضمن نقدا لإسرائيل وتأكيدا على حق الشعوب الرازحة تحت الاحتلال بالمقاومة بمختلف أشكالها. ورغم اضطرار الصحفية جراء الضغوطات والمضايقات إلى حذف منشوراتها، فإن الغارديان البريطانية أعلنت وقف التعاون معها، وإلغاء برنامج بودكاست أسبوعي كانت تشرف عليه، وتبعتها في ذلك مجلة ذا ستايلست البريطانية، التي قررت قطع العلاقة المهنية مع الكاتبة استجابة لحملة التحريض عليها.
ضمن هذا السياق، حدّثت مؤسسات إعلامية عديدة سياساتها الخاصة باستخدام منصات التواصل الاجتماعي، على نحو يمنح الإدارة نفوذا اعتباطيا غير مسبوق للرقابة على الصحفيين العاملين لديها عبر اعتماد عبارات فضفاضة يمكن تجييرها لصالح تفسيرات ذات مضمون قمعي. وتهدف هذه الإجراءات - بحسب التقرير - وشهادات صحفيين فيه إلى الحيلولة دون تشكيل جبهة ناقدة ضمن الجسد الصحفي للتحيز الحاصل في تغطية الحرب الإسرائيلية على غزة.
حدّثت مؤسسات إعلامية عديدة سياساتها الخاصة باستخدام منصات التواصل الاجتماعي، على نحو يمنح الإدارة نفوذا اعتباطيا غير مسبوق للرقابة على الصحفيين العاملين لديها عبر اعتماد عبارات فضفاضة يمكن تجييرها لصالح تفسيرات ذات مضمون قمعي.
وإلى جانب الضغوط الهائلة التي يتعرض لها الصحفيون الذين يمانعون حالة التحيز السائدة، والتي تخالف بحسب شهاداتهم المعايير المهنية السائدة والقيم الإنسانية الأساسية، فإن التقرير نوه إلى أن ذلك كله يحصل في ظل الحظر الإسرائيلي الكامل لدخول الصحافة الأجنبية إلى القطاع، إلا إذا كانت "مرفقة" مع وحدات الجيش الإسرائيلي لمحاولة حجب ما يحصل على الأرض هناك عن المجتمع الدولي.
كذلك يلفت التقرير الانتباه إلى محاولات صحفيين في مؤسسات إعلامية بارزة، مثل سي أن أن وبي بي سي وغيرها، إثارة هذه القضية عبر التوقيع على عرائض تطالب السلطات المعنية بالضغط من أجل إتاحة الفرصة للصحفيين للدخول إلى قطاع غزة وممارسة العمل إلى جانب الصحفيين الفلسطينيين، الذين قُتل منهم زهاء 145 منذ بدء الحرب.
تقرير متأخر وغير كاف
في تعليقه على تقرير "الاتحاد الوطني للكتاب" أشار الصحفي محمد شما، مراسل منظمة "مراسلون بلا حدود" في الأردن، إلى أن التقرير جاء متأخرا، لكنه مع ذلك طرح تساؤلات أساسية عن استقلالية الإعلام ودق ناقوس الخطر بشأن دائرة استهداف الصحفيين ومداها ومغبة التغاضي عنها. ويضيف شمّا في حديث إلى "مجلة الصحافة"، أن الدعوات التي تضمنها التقرير لن تترتب عليها تغييرات جذرية في الموقف التحريري الذي تتخذه بعض المؤسسات الإعلامية من الحرب الجارية على قطاع غزة، إلا أنها قد تسهم في تعزيز الوعي العام بالتحيزات الحاصلة في سياق تغطية هذه الحرب، والتأكيد على ضرورة التصدي للإجراءات التي تهدف إلى ملاحقة الصحفيين في حال تعبيرهم عن مواقف مضادة لها.
من جهة أخرى، يرى شمّا أن التحول المأمول في الرأي العام بين فئات مجتمعية واسعة ومؤثرة، قد يساعد على تشجيع مزيد من الصحفيين على تغطية ما يبدو أنها "خطوط حمراء" ضمن مؤسسات الإعلام الغربية السائدة، وذلك عند إدراك أن التورط في أنواع مفضوحة من التحيز سيلحق ضررا بسمعتهم المهنية ويعرضهم للانتقادات من قاعدة معتبرة من الجمهور.