لم تكن الشهيدة شيرين أبو عاقلة تدرك، وهي تكتب للزملاء في غرفة الأخبار رسالتها الأخيرة، "سأوافيكم بتفاصيل الخبر بعد قليل"، أنها ستصبح "بعد قليل" هي نفسها الخبر.
برصاصة باردة وقاتلة، اغتال الاحتلال صوتا آخر من أصوات فلسطين الحرة، ظل لعقود ينقل للعالم مأساة الفلسطيني الذي يعيش تحت نير الاحتلال. دخلت كل الأحياء والأزقة والحواري، واقتربت من الناس وسمعت قصصهم، وسارت في المسيرات وتحدت واقع أن تكون صحفيا يواجه نظاما عنصريا يوزع الموت بالعدل على الجميع.
استشهدت شيرين في الميدان، المجال الحيوي للصحفي لتمحيص الأكاذيب والروايات الزائفة، ورواية الاحتلال أنه هو الضحية. هنا تألقت شيرين صحفية ميدانية توثق بالصوت والصورة والمهنية العالية انتهاكات الاحتلال في حق أبناء شعبها غير العابئ بالاختلافات الدينية والعمرية...
إلى آخر نزف من حياتها، بقي الميدان هو الفاصل بين شيرين والاحتلال: احتلال يحاول أن يسوق للعالم وجهه البشع بمساحيق تسقط عند أول تغطية صحفية لقناة الجزيرة، وشيرين الصحفية مسلحة بمهنيتها وانتمائها البيولوجي لأرض فلسطين.
سيخرج الاحتلال ليبرر جريمته بنفس المسوغات القديمة وسيسخر آلته الدعائية للدفاع عن "بشاعته"، ولن يخبر العالم أنه منع سيارة الإسعاف والزملاء من الوصول إلى شيرين لإنقاذ روحها قبل أن تسلمها لبارئها.
لقد لاحقوا الجزيرة، ولاحقوا صحفييها في كل مكان: طاردوهم في الشوارع، هددوهم، واعتقلوهم، ومنعوهم من الوصول إلى الميدان، وقصفوا مقرها في غزة بالصواريخ الموجهة. كانت الجزيرة وما تزال هدفا حربيا "مشروعا" للاحتلال. لماذا؟
لأنه منذ أن ظهرت قناة من هذه البيئة العربية تفهم سياقها الثقافي والسياسي وتتبنى بمهنية قضاياها الجوهرية، بدا واضحا أن سردية وسائل الإعلام الغربية لانتهاكات الاحتلال "مشوهة" تخفي جرائم نظام يقتات من الدماء.
لا يحتاج المرء إلى جهد كبير كي يكتشف تهافت وسائل الإعلام الغربية في التعامل مع قضية فلسطين، فهاهي نيويورك تايمز وواشنطن بوست ووسائل إعلام عالمية تكتب عن خبر قتل زميلة لهم بحياد "مزعوم" ينتصر للاحتلال. إنهم ينتمون، كما يقول إدوارد سعيد، ينتمون إلى فصيلة (PEP) Progressives Except for Palestine، "تقدميون إلا في حالة فلسطين".
استضفنا قبل أسابيع فقط الشهيدة شيرين أبو عاقلة للنقاش حول محاصرة الرواية الفلسطينية، ورغم أنها تكتوي مثل كل أبناء شعبها بجمر الاحتلال إلا أنها كانت حريصة على حث الصحفيين على استعمال قاموس ينهل من "القانون الدولي" لإيصال الرواية الفلسطينية إلى العالم.
تعرف شيرين كما يعرف جميع الفلسطينيين أن لغة الاحتلال هي لغة القوة والدم والسلاح، لا لغة القانون، كما بشر بها دعاة التطبيع. سيفلت الجناة من القانون الدولي، وسيواصل الاحتلال استهداف الصحفيين بدم بارد، لأنه يتوفر على غطاء دولي ما لبث يقدم الدعم والمساندة لاحتلال بلد ثم يقدم الدروس في الديمقراطية وحقوق الإنسان.
رحم الله شيرين، شهيدة الكلمة الحرة، والقضية الفلسطينية، التي تتوارثها الأجيال، أما الذين يراهنون على إخراس الصحافة بشكل عام والجزيرة بشكل خاص، فهم واهمون.