عزيزي القارئ، تطالع هذا المقال وقد تم حسم هوية الرئيس المقبل للولايات المتحدة، في معركة لم تكن باليسيرة لا على السياسيين ولا بالهينة على الصحفيين، الذين تعاملوا مع كمّ غير مسبوق من الأرقام والمعطيات والإحصائيات والنسب. وهي ظاهرة يمكن أن نطلق عليها اسم "انفجار البيانات" في لحظة عدم يقين صاخب تعيشها الولايات المتحدة.
مع بداية ظهور أرقام الولايات، كانت صورة النتائج النهائية تزداد غموضًا، وبدا أن استطلاعات الرأي التي ركنت إليها الحملات الانتخابية والمؤسسات الإعلامية طوال الأشهر الماضية في بناء التحليلات وصياغة السياسات، صارت محل تساؤل ومثار جدل، تتنازعها رغبتان: الاعتراف بالقصور، وإيجاد تبرير للهوة الشاسعة بين توقعاتها والنتائج المعلن عنها رسميا، وإن كان التوجه العام يسير نحو تأكيد نبوءة هذه الاستطلاعات بفوز جو بايدن في الانتخابات.
لكن لم يكن كافيا أن تقدر نتائج الاستطلاعات وتصيب، فليس ذاك رهانا تكسب فيه أو تخسر، كما لن يكون كافيا للمجتمع الأميركي أن يفوز بايدن ويغادر ترمب البيت الأبيض، فهذه ليست انتخابات تقليدية يستبدل فيها رئيس برئيس. لقد كانت أقرب إلى استفتاء على الديمقراطية نفسها، إذ اختار الأميركيون بايدن بعد نزال طويل.
لكن المتفحص لحجم الأصوات التي حصدها ترمب وللمساحات الجغرافية والعرقية والاجتماعية التي ما زال خطابه يحتلها، يدرك أيضا حجم الأخطاء التي وقعت فيها استطلاعات الرأي وقد صنعت في مخيالها كتلة ناخبة مفارقة للواقع الأميركي المتحرك، وبدت بعيدة عن أمزجة الناخبين المتقلبة، ومنفصمة عن أهواء العامة التي لا تطابق بالضرورة أفكار الخاصة. تلك الأخطاء يبدو أن مؤسسات استطلاعات الرأي مدعوة إلى رتقها بعناية علمية شديدة بعد هذه التجربة.
في سجل استطلاعات الرأي خلال السنوات الأربع الماضية، يمكن أن نلاحظ أربع سقطات -أو لنقل أخطاء- تاريخية زادت من حدة الانتقادات الموجهة للمؤسسات التي تضطلع بهذه الاستطلاعات. كانت الانتخابات الأميركية عام 2016 بداية الشك، حيث ذهبت جل التوقعات إلى ترجيح كفة هيلاري كلينتون على حساب ترمب، بينما كانت السقطة الثانية في استفتاء "البريكست"، حيث رجّحت الاستطلاعات تصويت الأغلبية لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي، لكن الصناديق فاجأت الجميع بالعكس. أما السقطة الثالثة فكانت مع الانتخابات البريطانية التي لم يتوقع أي استطلاع رأي ما حدث فيها، بعد أن مني حزب العمال بخسارة مؤلمة وظفر حزب المحافظين بأغلبية كاسحة بقيادة بوريس جونسون. أخيرا، كان امتحان هذه المؤسسات العسير في هذه الانتخابات الرئاسية الأميركية، وقد وضعت صناعة استطلاعات الرأي الآن في حرج حقيقي، وباتت مجبرة على تقديم أجوبة مقنعة لكل هذه الأخطاء في التقدير والقصور في رؤية خواتيم أحداث تغيّر وجه العالم.
تجد المؤسسات الإعلامية نفسها معنية بهذا الجدل، فهي من أكثر العاملين بالمادة الإحصائية التي تنتجها شركات الاستطلاع، بل وتقع بعض الشبكات الإخبارية في فخ تبني هذه النتائج، وبناء تغطيتها الإخبارية حسب مخرجات هذه الاستطلاعات.
فلماذا تكررت هذه الأخطاء؟ وهل من خلل يعتري منظومة الاستطلاع وجب الانتباه له؟ وكيف يؤثر على المزاج العام وعلى التوجه التحريري للمؤسسات الإعلامية؟
السقوط في الفخ
تجد الشبكات الإعلامية الكبرى نفسها معنية بالأخطاء المتتالية لمؤسسات استطلاع الرأي، فهي مستهلك نهم لهذه النتائج، وكاد بعضها لا يفرق بين نتيجة الاستطلاع ونتيجة الصناديق. ذلك ما بدا لدومينيك كامينغز كبير مستشاري رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون مبعثَ سخرية وتندر بعد ظهور نتائج الانتخابات نهاية 2019، منحت الانتخابات حينها لجونسون أغلبية مطلقة عكس كل التوقعات ومنيت تقديرات استطلاعات الرأي ووسائل الإعلام بخيبة ثقيلة.
حينها وصف كامينغز وسائل الإعلام البريطانية بأنها "بعيدة عن الواقع وتعبّر عما تتمناه هي لا عما يريده الناس"، مطالباً الصحف بالاستماع للشارع عوض الاستعانة باستطلاعات الرأي، ونصحها بالابتعاد عن الطرق التقليدية في سبر آراء الناس.
كانت تصريحات كامينغز بمثابة تصفية حساب مع الصحف البريطانية، ولكن على الهامش، كان هناك صامتون يحتفظون برأيهم لأنفسهم لا لاستطلاعات الرأي. فبعيدا عن المركز هناك نقاشات أخرى تدور لا تهم النخب ولا الساسة، وخلف الشاشات هناك أمزجة تصنع وتتقلب، وتقبض على الجريدة أياد تتلمس الأفكار والوعود وتجرها إلى اختبار الواقع الصعب. هؤلاء من يجب أن يعي الإعلام أنهم موجودون، وأنهم على الأغلب من يرجحون كفة الانتخابات.
الناخب الخجول
الطابع الآلي لاستطلاعات الرأي خصوصا في المحطات الانتخابية، يجعلها مختلفة عن تلك المعتمدة في الأبحاث العلمية، حيث تتم الأخيرة عن طريق المقابلات مباشرة أو عبر الهاتف ومن خلال استمارة، حينها تكون العينة معروفة، ولدى الباحث الفرصة لملاحظة سلوكها. أما استطلاعات الرأي التي تركز على الانتخابات، فتكون غالبا عبر المواقع والتطبيقات، مما يفقدها بعدها الإنساني، ويجعلها تقتل العامل النفسي في هذه العملية.
يبقى العامل النفسي مهما في استطلاع الرأي للتعامل مع حالة الحرج التي قد يجدها شخص في التصريح بعزمه التصويت لترمب، فالرجل ذاع صيت مواقفه الشعبوية اليمينية والعنصرية في أحيان كثيرة، وأن تبدي رغبة في التصويت له قد لا يعني ذلك إلا تماهيا مع تلك الأفكار، لذا فقد يصرح كثيرون بأنهم سيصوتون لصالح بايدن تجنبا لهذا الحرج، وحين يتوارون خلف الستار وينفردون ببطاقة الاقتراع، تُرفع الكلفة ويفصحون عما كانوا يضمرون.. ببساطة سينتخبون ترمب.
ولا يمكن وصم هؤلاء بالكذب، لأن طبيعة الناخب الأميركي -وفق دراسة لمجلة "بسيكولوجي توداي"- طبيعة مزاجية ومتقلبة لا تستقر على حال، فقد يغير الناخب رأيه في آخر لحظة من التصويت، وقد يبني قراره على معطيات لم يأخذها أحد في الحسبان. هنا تصبح مهمة مؤسسات الاستطلاع عسيرة، تبحث عن ترجمة سلوك يغير الواقع إلا أنه ثاوٍ في خلفية ذهنية ليس من السهل فك شِفراتها.
وحتى لا يتم تضخيم من يطلق عليهم "shy Trump voters"، والانطلاق منها إلى تفسير فشل استطلاعات الرأي في توقع نتائج استحقاقات انتخابية مهمة، فإن الكتلة الناخبة لترمب صوتت وبكثافة كما أظهرت الأرقام، ولا تجد غضاضة في التعبير عن دعمها له.
وهنا يجب التمييز بين ثلاث تقنيات تعتمد لإجراء استطلاع الرأي، أولاها الاستطلاع عبر الهاتف، إذ أظهرت جل الاستطلاعات التي تمت بهذه الطريقة قربها من الواقع، والثانية الاستطلاعات الآلية التي تتم هي الأخرى عبر الهاتف، والثالثة تلك التي تتم عبر المواقع الإلكترونية. وهذه الأخيرة كانت بعيدة عن النتائج المعلن عنها، ووقعت في فخ الاستخفاف بقدرة ترمب على التقدم في الكثير من الولايات.
من يتفحص بعناية طبيعة العينات المختارة المعتمد عليها في استطلاعات الرأي التي تمت في الولايات المتحدة، سيقف عند مكمن الخلل وسبب الخطأ، الذي مرده ببساطة إلى تركيبة العينات في الإنترنت، والتي ينقصها التنوع والحرص عليه، إضافة إلى وجود عدد كبير جدا من مؤسسات استطلاع الرأي تعتمد على عينات صغيرة جدا، لا تقدم صورة واضحة عن التوجه العام في أي ولاية من الولايات. رغم ذلك، تقوم مؤسسات استطلاع أكبر بتجميع نتائج كل هذه الاستطلاعات الصغيرة، وتحتسب المعدل منها. وبطبيعة الحال، ما بني على خطأ قطعا نتيجته ستكون خاطئة. وهكذا تصبح عينات الإنترنت التي أظهرت نجاعة كبيرة في دول أخرى -مثل كندا- في التعبير عن ميول وخيارات الفئات المستطلعة، قاصرة في الولايات المتحدة وتشكل مبعث ارتباك وشك.
هناك إشكال آخر تعاني منه بعض مؤسسات استطلاع الرأي الأميركية، وهي أنها متحزبة ومؤدلجة، ولها أهداف تحيد عن غرض التقصي والاستقصاء. فمثلا مؤسسة "راسموسن" معروفة بدعمها لترمب، وهي من أكبر مؤسسات الاستطلاع في الولايات المتحدة. هذه المؤسسات جزء من النسق السياسي الأميركي ومن طرائق تفكيره ووعيه وهي فاعلة فيه، وليست فقط مراقبة له.
اليد الخفية
وجدت مؤسسة "يو غوف" (YOU GOV) التي تعد أكبر مؤسسة استطلاع بريطانية، نفسها مجبرة على تبرير خطأ توقعاتها مباشرة بعد إعلان نتائج خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فأصدرت وثيقة ربما تعتبر من أهم ما صادر لتفسير خطأ استطلاعات الرأي.
تعترف المؤسسة على مضض بأن استطلاعاتها أخطأت التقدير بأربع نقاط، ولكن كان في جعبتها مسوغ لتبرير الخطأ، فنسبة المشاركين في استفتاء "البريكست" كانت أعلى مقارنة مع الانتخابات العامة. ويبدو أن الهفوة التي وقعت فيها المؤسسة، هي تعاملها مع الكتلة الناخبة المعنية بالانتخابات وكأنها هي نفسها المعنية بالخروج من الاتحاد الأوروبي، في حين أن الواقع يقول بوجود كتلة غير معنية بالعملية الانتخابية وتقاطعها لكنها متحمسة لمشروع الخروج من الاتحاد، خصوصا في أوساط أنصار اليمين الشعبوي.
ولعل هذه الكتلة هي التي خلقت المفاجأة لدى مؤسسة الاستطلاع، ورفعت حجم المشاركة في الاستفتاء، وأحدثت الارتباك في النموذج الحسابي لاستطلاع الرأي. هؤلاء يختلفون عمن دأبت هذه المؤسسات على استكشاف نواياهم وإحصاء خياراتهم، وهذا خطأ وقعت فيه مؤسسات استطلاع كثيرة، إذ تتعامل مع نفس جمهورها التقليدي دون إدخال تغيير عليه، رغم الصعود المتنامي لأصوات أخرى، أبرزها صوت اليميني الشعبوي الذي ما عاد يجد حرجا في التعبير عن مواقفه والدفاع عنها.
والمثير في وثيقة مؤسسة "يو غوف"، أنها تتحدث عن تحذيرها المتكرر من أن النتائج بين معسكر الخروج والبقاء متقاربة جدا، لكنها تشتكي من صم آذان الأسواق المالية وأسواق المراهنات وحتى بعض وسائل الإعلام عن هذه التحذيرات.
في لحظات الشك هذه، لا بد من البحث عن "اليد الخفية"، لا اليد المتآمرة العابثة التي يركن إليها من يفسر كل مشهد معقد بنظرية مؤامرة تبسيطية، بل اليد القابضة على محرك الاقتصاد والمال التي يهمها ترسيخ نتيجة معينة لاستطلاعات الرأي، لأن هذه النتيجة تتسق ومصالحها. وفي حالة "البريكست"، فإن مصلحة شركات المراهنة والأسواق المالية، بل وطيف كبير من وسائل الإعلام، كانت في تسليط الضوء على النتائج القائلة بفوز خيار "البقاء"، وذاك كاف لإحداث حالة من الارتياح لدى أنصار هذا المعسكر، وربما يدفعهم إلى عدم المشاركة ما دامت النتيجة محسومة، بينما يدب الاستنفار في صفوف معسكر المغادرة ويستثار للمشاركة بأكبر عدد ممكن لترجيح كفتها.
وتقر مؤسسة "يو غوف" بضرورة فهم الآليات الجديدة والدقيقة للتعامل مع الفئة التي يتم استطلاعها بعض الوقت، معتبرة ما حدث بمثابة خطأ تاريخي، لكنها لا تتحمل لوحدها مسؤوليته، بل تتقاسمه مع مؤسسات المال، وحتى مع مؤسسات الإعلام.