تعيد إسرائيل، منذ قرابة تسعة أشهر، إنتاج المجزرة ذاتها؛ مرة لكسر صدمة الدهشة الأولى التي تخلّفها الجرائم المروعة لدى الضمير العالمي، وأخرى ليصير تكرار الحدث نفسه "ممارسة عادية" تحت السقف المرتفع الذي خلقته في المرة الأولى. وبعد ذلك، لا عين تلتفت إلى المجزرة الجديدة.
أن يُقتل طفل أعزل، أو تُقصف خيام نازحين بقنبلة من طائرة "إف 16"، جريمة كبرى، سرعان ما ستستدعي مشاهد الدماء والأوصال المقطعة المنتشرة في إثرها ردود فعلٍ غاضبة أو متضامنة، بينما ستطوف صورها شاشات التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي، وربما تُنظم بعد ذلك حملات مناصرة ومظاهرات غاضبة، وتتدفق المواقف السياسية التي "تشجب" و"تدين" و"تستنكر". غير أن مشهد الجريمة التالية، ولو كان من الصنف نفسه، لن يكتسب الزخم ذاته؛ إذ يبدو الأمر أشبه بإلقائك حجرا في بركة مياه راكدة، بينما الفارق بين تأثير الصورتَين يشبه الفارق بين دائرتَي الماء الأولى والأخيرة؛ ذلك لأن الاعتياد يقود إلى التأقلم، ثم تطبيع المشهد الصادم الذي يصير عاديا ومألوفا.
والسؤال الذي يُطرح هو: ما مسؤولية الصحفي أمام هذا المشهد؟ وكيف يمكنه تفادي هذا التطبيع الذي يقود بالضرورة إلى الانتقال بالفظاعة، من خانة الدهشة والصدمة، إلى مصاف المألوف والنمطي؟
هنا، تبرز القصة الإنسانية بوصفها أهم حقول العمل الصحفي على الإطلاق، وتعبيرا عن مسؤولية الصحفي تجاه الناس؛ أي أن يكون أمينا على قصصهم.
ما مسؤولية الصحفي أمام هذا المشهد؟ وكيف يمكنه تفادي هذا التطبيع الذي يقود بالضرورة إلى الانتقال بالفظاعة، من خانة الدهشة والصدمة، إلى مصاف المألوف والنمطي؟
القصة الإنسانية تمنح الصحفي مساحة للاحتفاظ بفرادة كل حكاية بوصفها ترجمة لفرادة صاحبها، وتحفر نفسها عميقا في وجدان المتابعين وضميرهم، وتنقلهم من حالة الاستهلاك السلبي إلى التفاعل والتأثير؛ لأنهم يقرؤون قصصا لأشخاص مثلهم.
هكذا، يتضح أن الأزمة تبدأ دائما عندما يقتنع الصحفي بالمستوى الأسهل من نقل الحدث، المتمثل في الإفادة العددية ونقل الصورة المكررة، بينما هو يتعرض لقصص إنسانية تمتلك كل واحدة منها بصمتها الإنسانية الخاصة. ولعلّ ذلك هو الفارق بين من يختار عرض الصورة المكررة -حتى وإن كانت لطفل لم يتجاوز عامه الأول وقد مزقته القذائف الإسرائيلية أشلاء- ومَن يذهب إلى ما هو أبعد من الصورة؛ مثل قصته وحسرة أمه التي أنجبته بعد عشر سنوات، وما الذي تعنيه تلك الخسارة لها بعد سنوات طويلة قضتها في عمليات زراعة الأنابيب، فكانت ولادته المحاولة الوحيدة الناجحة فيها؟
تجربة العمل في الحرب الراهنة مختلفة جدا، بالنظر إلى حجمها وعدد الشهداء المهول الذي خلفته، ومست الناس في أمنهم وسلامتهم الجسدية والنفسية ومآويهم ومصالحهم وأرزاقهم وطموحاتهم، وحتى في نظرتهم إلى الحياة. وأمام هذا القدر الواسع من الأذى، لا مناص من الإحساس بالمسؤولية تجاه كل تلك الحكايات التي يجب أن تُسمع وأن تُروى. يتساءل بعضهم: كيف يقتنص الصحفي قصصه في أثناء هذه المرحلة؟
الحال أنه لا حاجة لأن يكون بارعا أو استثنائيا في شيء، سوى أن يتتبع التفاصيل الصغيرة المختبئة وراء الصورة المكررة، وينتقي أسئلته بعناية، ويراقب المفارقات بين ما كان عليه الناس قبل تسعة أشهر فقط، وما أضحوا عليه الآن.
يتضح أن الأزمة تبدأ دائما عندما يقتنع الصحفي بالمستوى الأسهل من نقل الحدث، المتمثل في الإفادة العددية ونقل الصورة المكررة، بينما هو يتعرض لقصص إنسانية تمتلك كل واحدة منها بصمتها الإنسانية الخاصة.
في سوق أبو إسكندر في حي الشيخ رضوان، شمال غرب مدينة غزة، مثلا، وفي ذروة الحرب، ثمة بائع ذهب كان يمتلك سلسلة من المحلات الكبيرة، وضع ثلاث خشبات على حجرين، وعرض عليها بضاعته، بينما يقف قبالته صبية وشاب، يبدو أنهما زوجان أو مخطوبان. ألا يثير هذا المشهد التساؤل؟ هل جاء الزوجان لشراء محبس الزواج في هذا الوقت القاسي، أم جاءا لبيعه بغرض شراء ما يمكن أن يؤكل؟ على بعد أمتار منه أيضا، يتزاحم الناس أمام رجل محظوظ يمتلك ثلاجة يشغلها على ألواح طاقة شمسية مهشمة، هي كل ما تبقّى له من قصف مخازنه بوصفه أكبر بائع أجهزة كهربائية في شمال القطاع، في حين يبيع الآن الماء المبرد من تلك الثلاجة اليتيمة.
كل تلك التفاصيل وغيرها، تبدو شديدة الإدهاش، خصوصا إذا قورنت بنمط الحياة العادية. أما الناس، فإن طريقتهم في خوض عراك الحياة فأكثر إدهاشا. هم عاديون في نهاية الأمر، لكن قدر ما أبدوه من صبر وجلد وتأقلم تجاه كل المحن والفقد الذي عايشوه، جدير بتجديد شهقة المرة الأولى دائما. هذه الحرب مختلفة أيضا؛ لأننا أمام معركة تخوضها دولة الاحتلال على نحو وجودي. إنهم يزعمون أنهم يدافعون عن وجودهم الذي لا يستقر ويستقيم إلا بإنهاء وجودنا نحن الفلسطينيين، سياسيا وحضاريا وديموغرافيا. وأمام المعادلة المتقدمة، تهيمن على مشهد التغطية واحدة من ثيمتين: ثيمة البطل الخارق، حينما يسلَّط الضوء فقط على بطولات المقاومة في الميدان، وثيمة الضحية المنكوبة المكسورة وقتما تُفرد المساحة كاملة للمجازر والخسارات والمآسي. أما فرادة عرض المشهد المكتمل، فهي مزيج من الصورتين؛ ذلك أن البطل يمكن أن يكون مجروحا ومقهورا ومظلوما، وفي الوقت نفسه كريما، وعزيزا، ومتمسكا بأرضه وحقه. وفي هذا النسق، لا تخلع المعالجة الإعلامية عن المقاوم وشعبه السمة العادية فحسب، بل تغلف دوافع المقاومة بالمسحة الإنسانية الفطرية لردة فعل تكفلها وتدعو إليها كل الشرائع السماوية والمواثيق الدولية.
يتزاحم الناس أمام رجل محظوظ يمتلك ثلاجة يشغلها على ألواح طاقة شمسية مهشمة، هي كل ما تبقّى له من قصف مخازنه بوصفه أكبر بائع أجهزة كهربائية في شمال القطاع، في حين يبيع الآن الماء المبرد من تلك الثلاجة اليتيمة
بيد أن ما هو مختلف في هذه الحرب أيضا، أن أكثر الصحفيين يتقاسمون مع أبطال قصصهم الشعور ذاته؛ شعور الفقد والنزوح، الخوف وخراب البيت، وخسارة كل ما حصّلوه في الحياة دفعة واحدة. يعني ذلك أنه سيشعر بأن كل من يحكي عن فقد صديق أو أخ أو عزيز، يتحدث نيابة عما يعيشه هو، إلى حدّ قد يحسّ معه بدموعهم تسيل على خده، وأن انقباض أجسادهم يتسلّل إلى أطرافه حينما يستذكرون لحظات ذروة آلامهم. باختصار، صحفيو زمن الإبادة يحكون قصصهم الشخصية في وجوه عديدة؛ لذا، يصير الشعور بالمسؤولية تجاه تلك القصص مضاعفا ومحركا لسماعها وروايتها وحفظ وجود أصحابها.