ربما شاهد كثير منكم تلك المقابلة المصورة التي أجريت مع أحد المعتقلين السوريين وقد خرج لتوه من زنزانته في سجن صيدنايا. كان المعتقل في حالة صدمة، لا يستطيع أن يتحدث، يتلعثم أمام الكاميرات، وربما لم يكن مدركا لفترة طويلة ماذا يجري خارج زنزانته. يقف مذهولا أمام صحفي يحمل في يده ميكروفون، ويسلط الكاميرا فوق رأسه، يطرح عليه مجموعة أسئلة بينما لا يزال في حالة صدمة.
ربما شاهد كثير منكم تلك المقابلة المصورة التي أجريت مع أحد المعتقلين السوريين وقد خرج لتوه من زنزانته في سجن صيدنايا. كان المعتقل في حالة صدمة، لا يستطيع أن يتحدث، يتلعثم أمام الكاميرات، وربما لم يكن مدركا لفترة طويلة ماذا يجري خارج زنزانته. يقف مذهولا أمام صحفي يحمل في يده ميكروفون، ويسلط الكاميرا فوق رأسه، يطرح عليه مجموعة أسئلة بينما لا يزال في حالة صدمة.
ليس هذا الفيديو الوحيد الذي يوثق مثل هذه المشاهد، بل ضجت وسائل التواصل الاجتماعي بصور ومقابلات صحفية مع المعتقلين/ات بعد تحريرهم/ن من سجون النظام السوري المخلوع. حملت هذه المقابلات صورا صادمة وكاشفة لحقيقة السجون، وجسدت مشاعر الفرح نتيجة تحرير السجناء والسجينات.
غير أن المشهد لم يكن ورديا بتحريرهم/ن كما بدا للوهلة الأولى، بل جسد القسوة في معظم أجزائه، وهنا بدأت أصوات كثير من الصحفيين والصحفيات وعائلات الضحايا تتعالى لتعبر عن غضبها ورفضها لطريقة إجراء مثل هذه المقابلات التي لم تلتزم بالمعايير المهنية والإنسانية، معبرين عن استنكارهم لطريقة التعامل الإعلامي غير المسؤول مع ملف المعتقلين، ومن هؤلاء فدوى محمود، ناشطة وسياسية ومن مؤسسات رابطة عائلات من أجل الحرية؛ إذ نبهت وحذرت عبر فيديو من نشر الصور والوثائق بطريقة غير واعية ومؤلمة لعائلات المعتقلين/ات.
جاءت المقابلات الصحفية مع المعتقلين/ات في معظمها كرد فعل لدى البعض بهدف البرهنة على إجرام النظام السوري المخلوع، على الرغم من أن الاعتقال القسري بحد ذاته يعدّ انتهاكا، ومن غير المبرر تقديم إثباتات لجرائم النظام السوري المخلوع تأتي على حساب كرامة وإنسانية المعتقلين/ات وعائلاتهم/ن.
جاءت المقابلات الصحفية مع المعتقلين/ات في معظمها كرد فعل لدى البعض بهدف البرهنة على إجرام النظام السوري المخلوع، على الرغم من أن الاعتقال القسري بحد ذاته يعدّ انتهاكا، ومن غير المبرر تقديم إثباتات لجرائم النظام السوري المخلوع تأتي على حساب كرامة وإنسانية المعتقلين/ات وعائلاتهم/ن.
كذلك عمدت بعض المؤسسات الإعلامية لنشر صور الجثث من دون تشفيرها، مع محاولة التركيز على أدوات التعذيب التي استخدمها النظام السوري المخلوع في السجون.
على هذا الأساس، أصدرت مؤسسة شبكة الصحفيات السوريات دليلًا بعنوان: "دليل إرشادي، المقابلات الإعلامية مع الناجين والناجيات من المعتقلات" في استجابة سريعة للحدث، يتضمن مجموعة خطوات وتوصيات لكيفية إجراء مقابلات صحفية مهنية تضمن حماية كرامة الناجين/ات وخصوصيتهم/ن، وتراعي حساسية ظروفهم/ن النفسية والصحية الحالية، مع ضمان توصيل أصواتهم/ن.
لا بد من موافقتهم/ن..
معظم الاجتهادات الفكرية المتفق عليها إعلاميا تشير إلى احترام خصوصية الضيوف، وعدم تعرضهم لأي نوع من أنواع الإساءة، ولا سيما في القضايا الحساسة كقضية المعتقلين/ات، ومن هنا جاء الدليل الإرشادي بهدف تقديم نصائح واضحة لرفع كفاءة الإعلاميين/ات في إنتاج تغطيات عادلة وإنسانية، تسلط الضوء على الحقائق من دون التسبب بمزيد من الأذى للمعتقلين/ات وعائلاتهم/ن، ومع الالتزام بمعايير الحماية والكرامة لهم/ن ولعائلاتهم/ن.
من أولى التوصيات التي يقدمها الدليل الإرشادي وأهمها الحصول على الموافقة التامة والواعية من قبل المعتقل/ة، التي أغفلها كثير من الصحفيين، وكان ذلك واضحا من خلال السرعة والعشوائية في إجراء المقابلات؛ إذ يشير الدليل إلى أهمية الحصول على "الموافقة المستنيرة" من قبل المعتقلين، أو عائلاتهم/ن من دون محاولة الصحفي استغلال الحالة النفسية العاطفية العامة بوقتها.
كذلك نلاحظ وجود مجموعة مبادئ عامة يدعو الدليل من خلالها وبصورة أساسية إلى أنسنة المقابلات، والتركيز على التجربة الإنسانية للمعتقلين/ات، مع ضرورة الانتباه من تحول المقابلة إلى محاولة سريعة للحصول على الإثارة من دون الحفاظ على الكرامة الإنسانية للمعتقلين. ويدعو الدليل أيضا إلى تجنب إعادة نشر الفيديوهات التي تمت في ظروف غير مناسبة صحيا ونفسيا للمعتقلين والمعتقلات والتركيز على الحد من انتشارها.
وبشأن هذه المبادئ، تشير الصحفية وإحدى المُشاركات في إعداد الدليل، رولا عثمان، إلى "ضرورة التزام الصحفيين/ات والعاملين/ات في القطاع الإعلامي بالمعايير المهنية والأخلاقية للإعلام في هذه المرحلة الحسّاسة في سوريا على الصُعد الإنسانية، والاجتماعية، والسياسية والأمنية كافة، عند تغطية موضوع الاعتقال ومقابلة الناجين/ات من الاعتقال؛ فهذا الملف أحد أعقد الملفات الإنسانية والسياسية في البلاد التي ما لبثت تشهد مرحلة انتقالية بعد سقوط نظامها المجرم السابق".
كذلك يشير الدليل إلى أهمية تنبيه الجمهور بوضوح وصراحة في بداية المقابلة على وجود محتوى عنيف وصادم، سواء في المقابلة المرئية أو المسموعة أو المكتوبة.
صحتهم/ن النفسية أولا
وترى ندى الجندي، منسقة برنامج الحماية ضمن شبكة الصحفيات، وإحدى المشرفات على كتابة الدليل، "أن عددا من المعتقلين والمعتقلات كانوا/ن في حالة نفسية وجسدية صعبة جدّا، ولم تأخذ هذه المقابلات في الحسبان الحالة النفسية للمعتقلين والمعتقلات، وتضمنت أسئلة تفتقر إلى المهنية والحساسية تجاه أوضاعهم/ن الإنسانية والنفسية، بل والجسدية".
لذلك، حسب الجندي، يتحمل الصحفي أو الصحفية مسؤولية تقدير الحالة النفسية والجسدية للمعتقل أو المعتقلة قبل إجراء المقابلة؛ إذ ينبغي بدايةً سؤال الشخص إن كان يرغب أو يستطيع المشاركة في المقابلة، وفي حال رفضه أو عدم قدرته على الإجابة، فينبغي اتخاذ قرار بعدم إجراء المقابلة احتراما لظروفه، وينطبق هذا الأمر أيضا على مقابلات أهالي المعتقلين والمعتقلات.
تنسحب هذه المعايير أيضا على "المقابلات اللاحقة مع المعتقلين/ات، فيجب الالتزام بالمعايير المهنية والأخلاقية نفسها، بغض النظر عن الفترة الزمنية التي مرت منذ تحريرهم/ن، لضمان احترام أوضاعهم/ن النفسية والإنسانية".
ويسلط الدليل الضوء على أهمية إلمام الصحفيين بأساسيات الدعم النفسي من خلال التواصل مع المختصين/ات النفسيين/ات، والاطلاع على مصادر موثوقة لتعزيز معرفة الصحفيين/ات بكيفية التعامل بحساسية مع الحالات النفسية للمعتقلات والمعتقلين، وهذه أبرز الإرشادات التي ننصح بها:
- أهمية تقديم معلومات عن خدمات الدعم المتاحة إن أمكن، مثل البحث عن الخيارات والخدمات المتعلقة بالدعم النفسي والطبي والاجتماعي المتوفرة للمعتقلات والمعتقلين، والعمل على توصيلهم/ن بتلك الخدمات لمساعدتهم/ن في الحصول على الدعم اللازم.
- العمل على بناء ثقة مع الناجين والتأكد من توفير بيئة مريحة للمقابلة، بما يشمل إعطاء الحرية للمعتقل/ة لطلب استراحة أو إيقاف المقابلة فورا إذا ظهرت علامات ضغط نفسي أو انهيار. إضافة إلى طمأنتهم والتعبير عن تفهم الصحفي، والابتعاد عن إظهار الشفقة المفرطة بل التعاطف، والانتباه بخصوص التلامس الجسدي مع المعتقل/ة لأنهم/ن قد يكونوا/ن اختبروا/ن تجارب جسدية مؤلمة.
المقابلة ليست سبقا صحفيا
إن السعي لإجراء مقابلة مع المعتقلين ليس سبقا صحفيا أو "ترند" كما قد يعتقد البعض؛ ذلك أن قضية المعتقلين تحتل أهمية خاصة على مدى سنوات، وتُعَدّ من القضايا الحساسة والشائكة في الوقت نفسه؛ إذ يُبرز الدليل أنّ من أولى خطوات إجراء المقابلات هو التحضير الجيد للمقابلة، والقدرة على تفهم ظروف الفئات الاجتماعية كافة ولا سيما النساء ممن تعرضن للاعتقال، ويؤكد أهمية تقييم المخاطر المحتملة نتيجة المقابلة.
فكثير من المعتقلات ممن تعرضن للاعتقال عانين لاحقا من الوصم الاجتماعي، الذي يعدّ من أهم المخاطر التي لا بد من أخذها بالحسبان عند إجراء أي مقابلة صحفية مع الناجيات. وتحتم المسؤولية الأخلاقية للصحفيين تقييم احتمال تعرض المعتقلة للوصم أو الملاحقة أو تهديدهن بمعية عائلاتهن، ومن أجل ذلك يوصي الدليل بالتحضير المسبق والجيد للمقابلة قبل البدء بها، وامتلاك خبرة واسعة بالسياقات المختلفة، ولا سيما السياقات المحلية بما يساعد على تقييم المخاطر المحتملة.
كثير من المعتقلات ممن تعرضن للاعتقال عانين لاحقا من الوصم الاجتماعي، الذي يعدّ من أهم المخاطر التي لا بد من أخذها بالحسبان عند إجراء أي مقابلة صحفية مع الناجيات.
كذلك يحذر الدليل من توجيه الأسئلة المباشرة والتوجيهية عن الاعتداءات الجنسية في المعتقلات، مع ترك مساحة للمعتقلات والمعتقلين للحديث إذا أردوا ذلك. وتوضح ندى الجندي في هذا السياق أن "النساء اللواتي خرجن برفقة أطفالهن، طُرحت عليهن أسئلة قد تؤدي إلى وصمهن اجتماعيا أو تعرضهن للخطر، وهو ما يعد انتهاكا للمعايير المهنية والأخلاقية وافتقارا إلى احترام كرامتهن وإنسانيتهن وسلامتهن". ويوصي الدليل من أجل مقابلة مهنية تحترم المعايير الأخلاقية:
- عدم مقابلة أطفال المعتقلات.
- عدم سؤال الأمهات عن أصل الأطفال ونسبهم/ن.
- مراعاة الحساسية وعدم الضغط على الأمهات لتقديم تفاصيل عن حياة الأطفال في المعتقل أو تفاصيل عن كيفية حياتهم/ن فيه.
هل يوجد ضرورة لذكر تفاصيل التعذيب؟
ربما كانت من أكثر اللقطات المروعة هي اللحظة التي سأل فيها الصحفيون المعتقلين/ات عن تفاصيل تعرضهم/ن للتعذيب في السجون السورية، تلك اللحظات التي كانت قاسية وصادمة سواء للمعتقلين وعائلاتهم وللمتلقين أيضا.
ولعل من أبرز التوصيات التي يقدمها الدليل، والتي تعبر عن مدى إنسانية الصحفيين/ات وتفهم/ن لحالة المعتقلين/ات النفسية وعائلاتهم/ن، هو عدم سؤالهم/ن عن تفاصيل التعذيب الذي تعرضوا/ن له، كي لا تصبح المقابلة عبارة عن محادثة لإشباع الفضول، أو عبارة عن لقطة هدفها إثارة الانتباه أو التعاطف أكثر من كونها لخدمة القضية عينها.
كذلك يوصي الدليل بتجنب سؤال المعتقلين الذين حرروا ودفعهم للحديث مباشرة عبر الإعلام لذكر أسماء معتقلين آخرين في حال توفوا أم لا، الأمر الذي قد يسبب صدمة لعائلاتهم، مع التنويه إلى أن الكشف عن مصير المعتقلين/ات هو مهمة المؤسسات والمنظمات المختصة.
في النهاية، يحاول الدليل الإرشادي التشجيع على طرح الأسئلة المفتوحة، ولا سيما فيما يتعلق بحياة المعتقل قبل السجن، وعدم اختزال تجربته في الاعتقال، وفتح مساحة للناجين للتعريف بأنفسهم من خلال تجاربهم الإنسانية المتنوعة وليس من خلال تجربة الاعتقال فقط.