في مساء الثالث والعشرين من أكتوبر/ تشرين 2023، تواصلتُ للمرة الأولى مع حسام. في تلك الفترة وصلت حرب الاحتلال الإسرائيلي على غزة إلى ذروته، وخاصة في منطقة الشمال. بعد أن أُجبر على مغادرة بيت حانون، كان حسام حاضرا في مستشفى الإندونيسي مواصلا تغطيته الإعلامية من هناك. أبلغته – حينها - بأن لدينا مهمة عاجلة لتكوين شبكة ميدانية تتوفر لها إمكانيات التغطية، وتتغلب على انقطاعات الإنترنت والاتصالات؛ حتى تبقى الجزيرة في قلب الحدث، والحقيقة أنه لم يتردد لحظة وكان يتمتع بجسارة وشجاعة كبيرتين، وبدأ من اليوم الأول في إمداد غرفة الأخبار بالصور والمعلومات بشكل مكثف.
أبلغته – حينها - بأن لدينا مهمة عاجلة لتكوين شبكة ميدانية تتوفر لها إمكانيات التغطية، وتتغلب على انقطاعات الإنترنت والاتصالات، حتى تبقى الجزيرة في قلب الحدث. والحقيقة أنه لم يتردد لحظة، وكان يتمتع بجسارة وشجاعة كبيرتين، وبدأ من اليوم الأول في إمداد غرفة الأخبار بالصور والمعلومات بشكل مكثف.
لم يعرف حسام الراحة؛ فما إن توقفت الحرب للمرة الأولى في نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 2023 لمدة 7 أيام، حتى خرج يتجول بين مواقع القصف والأماكن التي ارتكب الاحتلال فيها جرائم بحق المدنيين. كان يتقصى الحقائق بأسلوب غير متوقع لصحفي ما زال يشق طريقه؛ يوثّق الشهادات ويلتقط أدلة وصورًا تظهر حجم جرائم الحرب في عمليات الإعدام الميداني والقتل الجماعي.
إن أبرز ما يميز حسام سرعة حركته ومبادرته وتطوره السريع في الميدان، وكان يتمتع بقدرة فائقة على "استنطاق" الناس والحديث معهم تحت الإبادة والقصف، يُراعي مشاعرهم ويوثّق رواياتهم، يواسيهم ويمضي.
نموذج حسام شبات - ومن قبله إسماعيل الغول ومصطفى ثريا وقافلة الشهداء الصحفيين الذين كانوا أهدافا مباشرة لإسرائيل - شكّل جبهة إعلامية صلبة فاجأت كبرى المؤسسات الإعلامية في العالم، ودشّنت مدرسة إعلامية حديثة تجاوزت الحدود والتقليد، وواجهت الرواية الإسرائيلية المضلِّلة فيما يخص المجازر، لذلك قرر الاحتلال استهداف هؤلاء الصحفيين؛ ليصل عدد الشهداء من الزملاء حتى اليوم إلى 208 صحفيين، وهي حصيلة مروعة وغير مسبوقة في الحروب التي عرفها العالم.
كان حسام يحدثني دومًا عن شعوره بالتهديد والخطر في ظل استهداف الصحفيين ومعاناتهم من الجوع والتشرد في مناطق شمال قطاع غزة، ولعل الجميع يدرك ما عاشته تلك المناطق. ورغم حرصي الدائم على نصحه بأن يكون حذرا، فقد امتلك عزيمة وإصرارًا كبيرين على استكمال رسالته، بل زاد من جهده ومستوى تغطيته، حتى أصبح مراسلًا رئيسيًا في شبكة الجزيرة.
كان حسام شاهدا على تغطيات صعبة ودفع فاتورة عالية من المخاطر واستنزاف الجهد النفسي والبدني، انطلقت بالتحديد من المستشفى الإندونيسي الوحيد المتبقي في شمال القطاع آنذاك، والذي تعرّض للاستهداف والاقتحام.
وبعد نجاحه في الهروب من الحصار الإسرائيلي للمستشفى، انتقل إلى مدارس الإيواء في جباليا، ثم عاد ليغطي المجاعة والتهجير في بقية مناطق الشمال. ثم ومرة أخرى إثر تهجير سكان شمال القطاع بالكامل انتقل إلى مدينة غزة، واستمر في التغطية من تخومها حتى عاد مجددًا إلى الشمال. كان يضطر للبقاء في سيارته، وعند اشتداد الخطر ينام فيها أو داخل محلات تجارية، أو بين النازحين في الأماكن العامة.
لم يترك حسام موقع قصف أو جريمة إسرائيلية إلا وكان من أوائل الحاضرين لتغطيتها. كان دائمًا السبّاق؛ صورته دائما الأولى وصوته الذي كان يتجاوز عمره وتجربته كان الأشدّ شجاعةً بجدارة.
نموذج حسام شبات، ومن قبله إسماعيل الغول ومصطفى ثريا، وقافلة الشهداء الصحفيين الذين كانوا أهدافا مباشرة لإسرائيل، شكّلوا جبهة إعلامية صلبة فاجأت كبرى المؤسسات الإعلامية في العالم، ودشّنت مدرسة إعلامية حديثة تجاوزت الحدود والتقليد، وواجهت الرواية الإسرائيلية المضلِّلة للمجازر.
الصحفي الإنسان
مع استمرار الحرب وانخفاض وتيرتها قليلًا في مطلع فبراير/ شباط 2024، توطدت علاقتي الشخصية بحسام، وكان – ككل شاب في القطاع - يحن للحياة الطبيعية؛ فلا يكف عن الحديث عن حياته السابقة قبل الحرب، ونشاطاته الإعلامية والاجتماعية في بيت حانون. تملّكه الحلم والشغف لتحقيق النجاح رغم الصعوبات الكبيرة التي واجهها في حياته، كما هو حال كثير من شباب غزة.
لقد بدأت أكتشف جانبًا آخر في شخصية حسام؛ ذلك أن شجاعته لم تقتصر على مهنته، بل تجلّت أيضًا في إنسانيته ومبادرته لمساعدة الآخرين. أذكر جيدًا حينما استهدف قصف إسرائيلي منزلا تمرّ من جانبه والدتي في مخيم جباليا، نجت بأعجوبة لكن أغمي عليها. اتصلتُ به فسارع بسيارته ليؤمّنها وينقلها إلى مدرسة الإيواء. وفي اليوم التالي عاد إليها بأرغفة الخبز، في وقت كانت فيه المجاعة شديدة، ورغيف الخبز شحيح!
وعندما ينقضي وقت التغطية الإعلامية للأحداث، يتأهب للخروج إلى مخيمات النازحين وتقديم المساعدة لهم، خاصة في بيت حانون المدينة المنكوبة، أما شهادات الناس فتقول إنهم كلما رأوا حساما هناك شعروا بالاطمئنان دائمًا، حتى استشهد على أعتابها بعد حصارها وتهجير أهلها مجددا.
أذكر جيدًا حينما استهدف قصف إسرائيلي منزلا تمر من جانبه والدتي في مخيم جباليا، والتي نجت بأعجوبة لكنه أغمي عليها. اتصلتُ به، فسارع بسيارته ليؤمّنها وينقلها إلى مدرسة الإيواء. وفي اليوم التالي، عاد إليها بأرغفة الخبز، في وقت كانت فيه المجاعة شديدة، ورغيف الخبز شحيح!
يحدثني في الليل عن أحلامه - كأي شاب من غزة - حالما بالزواج، وهي أمنية ليست بالسهلة لأي شاب يعيش هناك. وكان يتمنى أن تنتهي الحرب وأن نلتقي خارج غزة؛ ليحظى بفرصة سفر لرؤية بقعة أخرى بعيدة عن البؤس والقتل والتجويع.
كان حسام يشعر بتعب كبير من فكرة بُعده عن والدته وإخوته؛ إذ نزحوا إلى جنوب القطاع، ليلتقي بهم للمرة الأولى بعد وقف إطلاق النار في يناير/ كانون الثاني الماضي، في مشهد مؤثر كحال آلاف مشاهد التقاء العائلات في غزة. من ذلك اللقاء، ومن دفء تلك الأحضان أدركت مكانة أخرى مرموقة لحسام، قيمته الكبيرة عند أفراد عائلته الطيبة التي كانت ترى النور بين عينيه.
بعد استئناف الحرب مؤخرًا، شعرت أن الخطر يقترب من حسام أكثر. مع اشتداد القصف وعشوائيته أرسلت له قبل ليلة من استشهاده أوصيه بنفسه، وكان رده بأن الله خير حافظٍ. كان يصول ويجول بين كل قصف ومجزرة ليوثقها للعالم مُلحّا على الناس أن يحكوا قصصهم، ويحث الجميع على نقلها لتصير صوت غزة فيلتفت العالم لمعاناة أهلها. لكنّ حساما رحل قبل أن ينعم ولو بتحقيق بعض أحلامه.
أخيرًا، أنا عاجز عن رثائك يا حسام، كنت أتمنى أن أودعك وأقبل جبينك الطاهر، وها أنا الآن لا أستطيع رؤيتك حتى وأنت ممدد في نعشك محمولًا على الأكتاف. لا أتصور ولا أصدق أنك رحلت. استعجلت الرحيل كثيرًا يا صديقي، وكان للحلم وللقصة وللقاء بقية. لم تكتمل الحكاية... لكنك ستبقى في ذاكرتي، وستبقى رسالتك في أعناقنا ما دمنا أحياء.
وداعا صديقي