في منتصف يونيو 2024، كان قد مضى أكثر من عام على بدء المعارك في العاصمة السودانية الخرطوم. لم أتوقع طوال حياتي أن أعيش تحت القصف وأرى مشاهد الجثث والمقابر الجماعية والعديد من مشاهد الدمار، وقد استطعتُ أن أصف جزءا من واقع الحرب لمن لا يعرفها عبر سلسلة تحقيقات أسميتها "القصة لم تنته بعد". فبعد مغادرتي السودان انتابني شعور بتأنيب الضمير تجاه ما يحدث من قتل وتهجير للسودانيين رغم أنهم لم يكونوا طرفا في هذا الصراع، ولكنهم أصبحوا حطب الحرب ووقودها الذي استحال إلى دمار.
لم أتصور أن تكون أوضاع الناس بهذا السوء الذي عايشته معهم بعد عودتي إلى مدينة أمدرمان -وهي إحدى مدن العاصمة السودانية الخرطوم-، ورغم كل القصص والروايات المحْكِية فإن الواقع كان أشد قسوة "ومن رأى ليس كمن سمع".
كنت شاهدا على أحداث عديدة في محيط مدينة أم درمان، وغطيت جزءا منها في شكل تحقيقات استقصائية لصالح تلفزيون السودان الرسمي. في أبريل/ نيسان 2024، ومع تصاعد المعارك، تمكنت قوات الجيش من فرض سيطرتها على أجزاء من وسط أم درمان وجنوبها، بما في ذلك حي الشهداء ومحيط الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون ومنطقة ود نوباوي. وبعد عام من العمليات العسكرية، لم يكن حجم الدمار الهائل الذي لحق بالمنازل والمؤسسات العامة هو ما صدمني، بل كانت الصدمة الأكبر في معرفتي بصمود أربعة أشخاص تجاوزت أعمارهم الخمسين عاما، تحدوا شبح الحرب الذي دمر كل ما حولهم إلا صبرهم. من بين هؤلاء، روى لي مصطفى قصته التي لم يعرفها أحد من قبل، وكيف كانت قوات الدعم السريع تعاملهم؛ فقد اضطر مصطفى إلى حفر 27 قبرا بيديه، ليدفن فيها جيرانه وبعض المجهولين الذين سقطوا ضحايا لعمليات النهب المتكررة.
"لم أتصور أن تكون أوضاع الناس بهذا السوء الذي عايشته معهم بعد عودتي إلى مدينة أمدرمان -وهي إحدى مدن العاصمة السودانية الخرطوم-، ورغم كل القصص والروايات المحْكِية فإن الواقع كان أشد قسوة "ومن رأى ليس كمن سمع".
أسئلة ليست للإجابة!
أيقظت هذه الفظائع المستمرة سؤالا قديما متجددا، عن حماية المدنيين وحماية الصحفيين؛ فمنذ اندلاع هذه الحرب في أبريل/ نيسان 2023، تحمل المدنيون فقط كل فظاعاتها، ولأنها لا تشبه أي حرب، فإنك تجد الجثث ملقاة على الطرقات تنهشها الكلاب الضالة، وفي كل منزل تركه أصحابه تجد قبورا كُتِبت على شواهدها أرقام بدلا من أسمائهم.
أدى الصراع إلى نشوء واقع دفع عددا من الصحفيين إلى مغادرة مناطق الحرب، لتغيب الحقائق ويُمارَس تعتيم على المعلومات والأخبار. أصبحت المعلومات الصادرة عن أحد أطراف الصراع هي المصدر الوحيد الذي يصل إلى الوسائط الرقمية، ويُنظر إليها على أنها تعكس الواقع الميداني، مما أسهم في انتشار الأخبار المضللة والدعاية الإعلامية بدلا من نقل الحقائق على الأرض. ومع انقطاع خدمات الإنترنت والاتصالات، أصبح من الصعب علينا نحن الصحفيين التحقق من مصادرنا أو التواصل مع زملائنا في مواقع الأحداث. فعلى سبيل المثال، أصبحت ولاية الجزيرة، حيث تسيطر قوات الدعم السريع على عاصمتها ود مدني، خالية تماما من الصحفيين، بينما التزم الآخرون منازلهم وتجنبوا العمل الصحفي، ومع ذلك لم يسلموا من الاعتقالات والتهديدات.
بوصفنا مجتمعا صحفيا وإعلاميا سودانيا، نتعرض باستمرار للمضايقات والمنع من قبل السلطات الأمنية، خصوصا عند محاولتنا الوصول إلى المراكز الإيوائية أو المناطق المتأثرة لنقل الأوضاع الإنسانية شديدة التعقيد.
تهديدات ومخاطر الميدان
يواجه الصحفيون في السودان تهديدات ومخاطر كبيرة تتعلق بسلامتهم الشخصية والنفسية، وتحيط بهم مخاطر من كل جانب، تشمل الإصابة بشظايا، أو انفجار قذائف، أو استهدافهم المباشر، أو التهديد بالاغتيال. كذلك يتعرضون أحيانا لحملات منظمة من أحد أطراف الصراع عبر الوسائط بهدف اغتيالهم إعلاميا.
من هؤلاء الصحفيين، شهدي نادر، الذي يعمل لصالح مؤسسة إعلامية عربية. منذ بدء الحرب في أبريل 2023، بقي صامدا داخل مدينة أم درمان، ولكنه تعرض بعد انتهاء عمله في أحد أحياء المدينة لقصف مدفعي، ما دفع بعض الناشطين إلى شن حملات تتهمه بالعمل لصالح قوات الدعم السريع. من جانبها، وصفت نقابة الصحفيين السودانيين هذه الاتهامات بأنها غير صحيحة ومشينة.
مرت علي أيام شعرت فيها أنني قد أكون أحد الضحايا المحتملين. كان خوفي يزداد مع كوني وحيدا في المنزل بعد نزوح أهلي إلى منطقة آمنة. وما كان يبعث في نفسي قليلا من الطمأنينة هو تفقد الجيران لي بين حين وآخر. ظللت أتساءل كيف يعيش زملائي في مناطق الخرطوم الأخرى، وكنا نحرص على الاطمئنان على بعضنا باستمرار، رغم شعور الإحباط الذي اجتاحنا منذ بداية الصراع المسلح في السودان.
وعلى الرغم من أن تغطية الحرب في السودان صارت خطيرة بشكل متزايد على الصحفيين، ولكنها تظل "واجبا مقدسا".
في بداية رحلة العودة إلى تغطية الحرب، تواصلت معي إدارة التغطيات بمكتب التلفزيون الرسمي، إذ طلب منى متابعة التطورات الميدانية إضافة إلى زيارات المسؤولين للمناطق التي تقع تحت سيطرة قوات الجيش السوداني. ومع مرور الأيام، لم يتغير نمط تغطيتنا، واستمر تجاهل الأوضاع الإنسانية التي يعاني منها المواطنون والقصف الذي تتعرض له الأحياء السكنية، تحت ذريعة أن ذلك قد يُفسر بوصفه نوعا من الانتصار الإعلامي للطرف الآخر. ولكن بعد محاولات متكررة، تمكنت أنا وفريق من التلفزيون من إقناع إدارة مكتب التغطيات بضرورة تسليط الضوء على الانتهاكات التي يتعرض لها المواطنون من خلال سلسلة من التحقيقات المصورة، غير أن إدارة المكتب أوقفت السلسلة بعد فترة قصيرة، من دون توضيح الأسباب. تضيّق المؤسسات الرسمية وغيرها من المؤسسات الإعلامية على الصحفيين لفرض روايتها وخطها من دون أي مراعاة لما يحدث من حقائق على الأرض.
لم يتغير نمط تغطيتنا، واستمر تجاهل التلفزيون الرسمي للأوضاع الإنسانية التي يعاني منها المواطنون والقصف الذي تتعرض له الأحياء السكنية، تحت ذريعة أن ذلك قد يُفسر بوصفه نوعا من الانتصار الإعلامي للطرف الآخر.
وهكذا، فقد آلاف الصحفيين والإعلاميين وظائفهم بعد توقف مؤسساتهم عن العمل، بينما اختارت قلة منهم الانخراط في حملات دعائية لطرفي النزاع وحلفائهم. أما الغالبية العظمى، فقد فضلت الابتعاد عن هذه التجاذبات، واضطر كثير من الصحفيين والصحفيات إلى مغادرة مناطق إقامتهم والنزوح إلى أماكن أخرى داخل السودان أو اللجوء إلى دول الجوار بحثا عن الأمن والحماية في ظل التهديدات المستمرة التي تواجههم.
تتمثل أوجه القصور في تغطية أحداث السودان في أن الإعلام الرسمي يسعى لخدمة روايته الخاصة، متجاهلا الانتهاكات والأوضاع الإنسانية الصعبة التي يواجهها الناس. وبدلا من أن تكون محطة تلفزيونية تعكس مستجدات الأحداث بموضوعية، تحولت إلى منصة للتوجيه المعنوي لصالح الجيش. أما القصور بالنسبة للإعلام الخارجي فهو أكبر بكثير؛ فعندما تفتقر وسيلة إعلامية إلى مراسلين على أرض الواقع للتحقق من صحة مزاعم المصادر المحلية، تحدث أخطاء مهنية كبرى، لا ينفع الاعتذار عنها لاحقا. الحرب مستمرة، ولكن أعداد الصحفيين تتناقص في الميدان إما بسبب التهديدات الأمنية وإما نتيجة لحالة الإحباط والحالة النفسية بسبب مشاهد المعاناة ومخاطر الموت التي يتعرض لها الصحفيون في اليوم أكثر من مرة.
تتمثل أوجه القصور في تغطية أحداث السودان في أن الإعلام الرسمي يسعى لخدمة روايته الخاصة، متجاهلا الانتهاكات والأوضاع الإنسانية الصعبة التي يواجهها الناس. وبدلا من أن تكون محطة تلفزيونية تعكس مستجدات الأحداث بموضوعية، تحولت إلى منصة للتوجيه المعنوي لصالح الجيش.
في العاشر من نوفمبر/ كانون الأول 2024، أجلت كل المحطات التلفزيونية الموجودة في العاصمة الخرطوم طواقمها الصحفية عبر رحلة طويلة إلى مدينة أم درمان. شمل هذا الإجلاء طواقم قنوات الحدث، والجزيرة مباشر، والغد الإخبارية، وTRT التركية، ومنهم الصحفيون: محمد سليمان (الجزيرة مباشر)، محمد إبراهيم (الغد الإخبارية)، طارق التيجاني (TRT التركية)، والمقداد حسن (الحدث)، إلى جانب مجموعة من المصورين. وبهذا، أصبحت مدينة الخرطوم خالية تماما من الصحفيين.