قبل نحو شهرين ونصف من سقوط الأسد، كنت أضع بمعية زملائي اللمسات الأخيرة على تحقيقٍ شاركتُ فيه ضمن مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد OCCRP ووحدة سراج للصحافة الاستقصائية. يفكّك التحقيق أكبر منظومة تزوير في تاريخ الرياضة السورية، التي وقعت في عهد الأسد الأب أولًا، ثم ابنه بشّار الذي ورث الحكم بعده ثانيًا.
عشيّة نشر التحقيق، أغرقت زملائي باتصالاتٍ ليلية أُبدي لهم خوفي وعدم قدرتي على النوم، من عواقب نشر هذا التحقيق على أسرتي التي تعيش في سوريا، رغم أني صحفيٌّ منفي، ولن تصل إلي يد المخابرات، ولكن الخوف لم يفارقني ولم أنم تلك الليلة. كان محور الاتصالات مع زملائي الذين شاركوا في التحقيق يتنوّع بين التطمينات والتحذير من أن منظومة الرياضة السورية يمسكها جنرالات في الجيش والأمن بقبضة أمنية حديدية، ولا بد من أخذ الأمور بجدّية.
مضت تلك الليلة، ونُشر التحقيق، وفي الأيام التي أعقبت النشر، كنت مسكونًا بالخوف، وتتسارع نبضات قلبي في كل مرّة يرن فيها هاتفي، خشية خبر سيئ يصلني من سوريا.
هذا الخوف والاضطراب، لم يكن سوى موقف واحد من عشرات المواقف التي عايشتها خلال السنوات الماضية كما عاشها العشرات، بل المئات من الصحفيين السوريين غيري، الذين توزعت مخاوفهم بين مخاطر الاعتقال والرمي في أحد السجون الدموية، أو الانتقام من أسرهم أو التنكيل بهم واتهامهم بالخيانة والعمالة.
هذا الخوف والاضطراب، لم يكن سوى موقف واحد من عشرات المواقف التي عايشتها خلال السنوات الماضية كما عاشها العشرات، بل المئات من الصحفيين السوريين غيري، الذين توزعت مخاوفهم بين مخاطر الاعتقال والرمي في أحد السجون الدموية، أو الانتقام من أسرهم أو التنكيل بهم واتهامهم بالخيانة والعمالة.
قبل اندلاع الثورة في سوريا، لم يكن هناك أي وجود للإعلام المستقل، باستثناء محاولاتٍ واعدة سارعت أجهزة المخابرات إلى وأدها. كان السوريون يقرؤون الصحف الرسمية الثلاث ويشاهدون التلفزيون الرسمي، علاوة على بعض الصحف والفضائيات والإذاعات الخاصة، التي كانت متوائمة مع السردية الرسمية للأسد، انطلاقًا من التناغم التاريخي بين رأس المال والسلطة. هكذا سيطرت الدولة على الإعلام كليًّا، وأحكمت قبضتها على كل المنافذ الإعلامية، وكان الترخيص لمنفذ إعلامي جديد يستغرق سنواتٍ طويلة من الدراسات المخابراتية التي لا ترخص لأحد إلا بعد التأكد من ولاء المتقدّمين المطلق.
صحيح أن بشار الأسد سقط في لحظاته الأخيرة، هاربًا بطائرةٍ خاصّة إلى العاصمة الروسية موسكو قبل دخول مقاتلي المعارضة إلى العاصمة بساعاتٍ قليلة، إلّا أن الإعلام السوري المستقل، لعب دورًا محوريًّا في عملية التغيير هذه على مدار 13 عامًا من عمر الثورة.
بعد اندلاع الثورة، ونهج سياسة ضرب الصحفيين بيد من حديد، غادر القسم الأكبر منهم خارج البلاد، في حين قُتل أو اعتُقل أو أقلع عن ممارسة العمل الصحفي من لم ينج منهم. فقد 180 صحفيا حياتهم على يد قوات النظام السوري؛ منهم 161 قُتلوا مباشرة من قبل قوات النظام السوري أو خلال التعذيب في سجونه، و17 صحفيا قتلهم الطيران الروسي المتحالف مع الأسد. والحال أن منظمات أخرى وثقت أعدادا أكبر من الصحفيين القتلى على يد النظام، وهذا الرقم لا يشمل الصحفيين الذين قُتِلوا على يد أطراف النزاع الأخرى، ليدفع الصحفيون تكلفة عالية ثمنا للكلمة.
صحيح أن بشار الأسد سقط في لحظاته الأخيرة، هاربًا بطائرةٍ خاصّة إلى العاصمة الروسية موسكو قبل دخول مقاتلي المعارضة إلى العاصمة بساعاتٍ قليلة، إلّا أن الإعلام السوري المستقل، لعب دورًا محوريًّا في عملية التغيير هذه على مدار 13 عامًا من عمر الثورة.
لم تتوقّف الانتهاكات عند القتل، بل ارتكب النظام السوري أنواعًا مختلفة من الانتهاكات مثل اعتقال الصحفيين المستقلين، وإخفائهم قسريا كما حصل مع الصحفي الأمريكي أوستن تايس الذي لا يُعرف مكانه حتّى الآن، وتفجيرهم بالعبوات الناسفة كما حصل مع المصور الصحفي خالد العيسى، وتعذيبهم في السجون، إضافةً إلى القنص والقصف المباشر لمقارّهم كما حصل مع الصحفية ماري كولفن. قيّد النظام كذلك حرّية التعبير، عبر إغلاق المنصات التي لا تتماهى مع روايته، وفرض رقابة وسيطرة على محتوى الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، فضلا عن ترهيب الصحفيين نفسيا وتشويه سمعتهم.
بالنسبة للصحفيين الذين غادروا، نجح معظمهم في تأسيس نواة لصحافة مستقلّة لا تعرف القيود، ولم تخبر سوريا سابقًا هذا النوع من الصحافة. تميز الصحفيون السوريون بالشجاعة على الجبهات؛ فكانوا يغطّون مناطق فيها مستويات غير مسبوقة من الخطورة لنقل ما يجري في سوريا، وفي بعض الحالات كانت التغطية تصلنا من على الخطوط الأولى من الجبهات.
صحافة بديلة
أسهمت الصحافة الاستقصائية المستقلة التي انبثقت بعد اندلاع الثورة، في تفكيك منظومة الفساد التي يقودها النظام: كشفت حقائق عنه لا يمكن إنكارها حتّى أمام مؤيديه، استخدمت أنواعا/ أنماطا صحفية لم تكن مألوفة في سوريا أصلا، وطوّرت أدواتها إلى الحد الذي باتت فيه تخاطب العقل، لا العاطفة فقط، وذلك على الرغم من أن معظم وسائل الإعلام المستقلّة والبديلة التي ظهرت في سنوات الثورة كانت تعمل من المنفى، الأمر الذي صعّب مهمّتها وحتم عليها أن تطوّر أدواتها أمام ماكينة إعلام الأسد التي كانت تمتلك أموال السلطة والأرض والميدان.
ومن التجارب الواعدة في الإعلام السوري المستقل، خلق أرشيف كامل لما جرى في سوريا، لمنع مواقع التواصل الاجتماعي من حذفها أو التصرّف فيها بصورة تؤثّر عليها بوصفها أدلة مستقبلية لمحاكمة الجناة؛ إذ أُرشِفت كل مقاطع فيديو الاعتقال والتعذيب وإطلاق الرصاص على المتظاهرين والأدلة على استخدام أسلحة محرمة دوليا.
ظهرت تجارب جديدة وواعدة لخلق رواية مختلفة عن الرواية "الخشبية" التي يتبناها إعلام النظام السوري. ظهرت صحافة مستقلّة تخاطب الجمهور بعقله بعيدًا عن عواطفه، وتأسست تجارب في مجال الصحافة الاستقصائية، اعتمدت على تقديم أدلّة موثقة على جرائم النظام، كذلك ظهرت للمرّة الأولى صحافة المصادر المفتوحة (OSINT)، التي كسرت احتجاز النظام السوري للمعلومات والوثائق وإبعادها عن أعين الصحافة؛ إذ نُشرت تحقيقات ضخمة بالاعتماد فقط على المصادر المفتوحة.
ومن التجارب الواعدة في الإعلام السوري المستقل، خلق أرشيف كامل لما جرى في سوريا، لمنع مواقع التواصل الاجتماعي من حذفها أو التصرّف فيها بصورة تؤثّر عليها بوصفها أدلة مستقبلية لمحاكمة الجناة؛ إذ أُرشِفت كل مقاطع فيديو الاعتقال والتعذيب وإطلاق الرصاص على المتظاهرين والأدلة على استخدام أسلحة محرمة دوليا.
كذلك تعزّزت فكرة صحافة الحلول والبودكاست والقراءات المعمّقة غير الخبرية، وغيرها من الأجناس والتقنيات الصحفية الحديثة، وكل ذلك بفضل الانفتاح على العالم الذي كانت تملكه وسائل الإعلام السورية المستقلّة، التي عمل معظمها من المنفى.
وعلى الرغم من أن الجزء الأكبر من وسائل الإعلام البديلة والمستقلّة التي ظهرت بعد عام 2011 في دول المنفى انتهى مصيرها بالإغلاق بسبب مشكلات التمويل وغياب الحلول التحريرية للظهور أكثر على الساحة، فإنّ ما بقي من هذه الوسائل نجح في خلق هيكلية إدارية قوية، ووسائل تمويل مستدامة، وصحافة مهنية.
في هذا الوقت كان الإعلام السوري الرسمي في دمشق، قد اختار منذ عام 2011 الحلول السهلة لمواجهة الثورة، واعتمد على نموذج (رفع الصوت للأعلى وضخ البروبوغاندا) لكي "يستمتع" بهذا النهج من دون الاستماع لما يُنشر ويُذاع في وسائل الإعلام المستقلّة بسبب غياب حلول المنافسة وعدم اتخاذ هذا الإعلام أي دور لتطوير أدواته.