كانت أصوات الأعيرة النارية، ورشقات الرصاص، تحوّل فجر دمشق، في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر 2024، إلى أشبه بلوحة ملغّزة مليئة بالتساؤلات: هل بدأت معركة الشوارع، ووحشية بحر الدماء أم إنّها أهازيج الاحتفال على طريقة "عرس" ابن شيخ القبيلة، أو مراسم استقبال زائر كريم، يضرب على شرفه 21 طلقة مدفع؟!
في الوقت نفسه، كانت وسائل الإعلام السورية من إذاعات وفضائيات لا تزال تبثّ برامجها الاعتيادية، وتتحدث أخبارها عن الصمود والتصدي، ناقلةً تصريح وزير داخلية النظام السابق عن الطوق "العصي" حول العاصمة. ولكن مع تعالي تكبيرات شوارع دمشق ومآذن مساجدها، وتوافد الأخبار من نافذة الفضائيات المختلفة، والمواقع الإلكترونية، مؤكّدة تحرير الثوار لدمشق، وهروب الرئيس المخلوع، انقلبَ الإعلام المحليّ إلى عرض الأغاني الوطنية لدقائق، قبل أن يتوقّف نهائيا عن البثّ، مكتفيا بشرائح تشير إلى التغيير الجديد عبر كلمات "سوريا حرّة.." وعلم الاستقلال يزيّن الشاشات، لحينِ الإعلان عن البيان الأول، الذي بُثَّ عبر الفضائية السورية".
أصول الانتقال الإعلامي
يعيدُ "جاكوب سيزر (Jacob.C."(1 جذور مصطلح الإعلام الانتقالي إلى الحرب الأهلية الأمريكية لعام 1860، بالتزامن مع نشوء المكاتب الصحفية، الواجب عليها الانتقال من مجتمع متصارع إثنيّا، وفكريّا، ووجوديّا، إلى أمّة عظمى تستعدّ لتزعّم العالم والسيطرة على مقدَّراته. ورغمَ أنّ "التلغراف" ببدائيته عام 1837، كان الوسيلة الوحيدة المتوفرة لنقل الأخبار عبر ميادين الصراع، لكنّه استطاع التحوّل إلى مؤسسات ووكالات أنباء ضخمة، واكبت التغيير.
وتجدّدت دورية هذا المصطلح خلال الحرب العالمية الثانية، عبر ما طرحَه وزير إعلام هتلر، جوزيف غوبلز، من أسلوب دعائي؛ إذ كان لزاما بعد سقوطه حمل المجتمع من كذب الإعلام المضلّل وخداعه إلى إعلام مهني، يسهم قاموسه في مواكبة الانتقال الديمقراطي، وتهيئة المنظومة القانونية والتشريعية، مُتخلّصا ممّا سمّاه إريك فروم، (E.Fromm"(2 الغرائز الصحفية القمعية".
إذا كانت المرحلة الانتقالية حسب رؤية سوريا الجديدة وخريطة طريقها(3) فرصة لإرساء أسس نظام سياسيّ جديد لا يتجاوز نظام الاستبداد فحسب، بل يمنع أي نزوع استبدادي مستقبلي، استنادا إلى مبادئ الحكم الرشيد، والمشاركة الشعبية، واحترام حقوق المواطن، فإنّ(4) روبرت دال Robert Dahl
عرّف ضمن بحثه: "المدينة في مستقبلِ الديمقراطية" مفهوم الإعلام الانتقالي لشؤون المجتمع العامّة بـ"آلية التحول المرتبطة بالانتقال من وضع إعلامي جامد، إلى ديناميكي متحرك، يواكب التغيير، ويساير الانتقال الديمقراطي، وذلك ضمن ضوابط وتشريعات قانونية معيارية". وهذا ما أعاد طرحه "ميشيل روبنسون(Michele.J.R"(5 في دراسته "إعلام الشؤون والعامة وتنامي القلق السياسي" متفقا مع فطين حفصيّة (6) الذي يحدد وفق صامويل هانتينغتون تراتبيّة كلاسيكية لموجات ترسيخ الديمقراطية، يحكمها أصحاب السلطة، ومنظومتهم التشريعية، وخبراء الإعلام وممارسيه، ما يعني عدم وجود نموذج وحيد فريد يقاس عليه الانتقال الديمقراطي، وموازاته لخطوط الانتقال إعلامي.
بالمقابل، يصف "وليم روو، (William.R (7، الأنظمة "الانتقالية"، بالسائرة إلى الديمقراطية الناجزة، من دون اليقين بنجاحها، ومدة استقرارها، ومن هنا فالإعلام الانتقالي حسب التجربة السورية نظام خليط، ستحكمه قوانين القوة السياسية، ورقابة الصحفي الذاتية.
يعتقد باريرون شافر وريتشارد لارسونByron.S. & Richard.L (8) أن الصحافة هي الخالق الرئيسي لانتماء سياسي مغاير، إن لم يكن لعصر سياسي مختلف، خصوصا في مرحلة انتقالية سبقتها مرحلة سياسية معقدة، ما يجعل الإعلام في مراحل التغيير يتطلب مدة زمنية محددة، يعاد فيها بناؤه الهرمي من الأعلى إلى الأسفل، أو العكس، ومن ثَم يحدد طبيعة الانتقال الناعم، أو المتدرّج، أو مرحليّ التفكيك، أو الهدم الكلي، وفق مشهدية الانتقال. ولعل هذا يتوافق مع التجربة السورية، التي لا يمكن لإعلامها الانتقالي إلا التحول الكلي، من أقصى القطب السالب إلى أبعد نقاط الموجب؛ لأن ما كان سائدا لا يمكن تعديله إلا بانقلاب كلي، يتوافق مع طريقة تغيير النظام السياسي، بعد ثورة مداها 13 عاما، كانت فاتورتها باهظة بلغت مئات ألوف الضحايا، والمفقودين، والمهجرين، واللاجئين، وبنية تحتية منهارة، وخدمات أساسية مفقودة.
يعتقد باريرون شافر وريتشارد لارسون أن الصحافة هي الخالق الرئيسي لانتماء سياسي مغاير، إن لم يكن لعصر سياسي مختلف، خصوصا في مرحلة انتقالية سبقتها مرحلة سياسية معقدة، ما يجعل الإعلام في مراحل التغيير يتطلب مدة زمنية محددة، يعاد فيها بناؤه الهرمي من الأعلى إلى الأسفل، أو العكس، ومن ثَم يحدد طبيعة الانتقال الناعم، أو المتدرّج، أو مرحليّ التفكيك، أو الهدم الكلي.
إعلام المزاج الحاكم
عاش الإعلام السوري قبل سقوط نظام البعث شكلا هيكليا واحدا سيطرت عليه الدولة كليا، وأحكمت قبضتها على منافذه كافة، وإن اختلفت طبيعته بين مرحلة الأسد الابن، والأب. فحافظ الأسد خلال حكمه السلطوي (1970-2000) اعتمد على الإعلام الحكومي ذي اللون الواحد، ووأد الإعلام الخاص، ما خلف إعلاما مريضا، ولكن الابن بشار سمح بعده بالقطاع الخاص، والتعددية الإعلامية، إلا أنه أبقى الترخيص لأعوانه، وتابعيه، كما أخضع المنظومة لمزاج سلطته واستبدادها، فحين تغاضى في بداية حكمه –مؤقتا- عن ربيع دمشق، فسح المجال لإعلام استقصائي يتنفس "ملفات حارة"(9)، بيد أنه حين لوحق السياسيون، وهُجروا وقُتلوا وسُجنوا، ضُرب الإعلام بقوة، ولعل ما يدل على "هوائية" الإعلام الاستبدادي أن كل الإذاعات السورية الخاصة غير مرخصة بدرجة تسمح بتقديم الأخبار، بل بث الأغاني والإعلانات فقط. ومع ذلك، كان يطلب منها بصيغة الأمر، تغطية أنشطة النظام، أما من "يعصي الأوامر" فيحاسب بمخالفة قوانين المشرّع، ويُخوّن، ويُشيطن، ويُتهم بالإرهاب.
ملامح أولى للانتقال الإعلامي
أمام هذه الواقع المظلم، بمرآته الإعلامية، كان طبيعيا أن تشهد المرحلة الانتقالية السورية، بعد أكثر من شهرين على إسقاط الأسد، تلون الإعلام بخصوصيتها، ليسير على الخطى التالية:
- في الأيام الأولى ولدت مرحلة الانفلات "غيبوبة إعلامية"؛ فلم يدرك الكثير من الإعلاميين حدوده المهنية والأخلاقية، مقابل حقوقه وواجباته، فغاب الإعلام الوطني، وحلت مكانه المحطات العربية والأجنبية الوافدة، التي بث بعضها البرامج الإخبارية الحية من مبنى الإذاعة والتلفزيون السوري الحكومي، وأطلق بعضها الآخر مكاتبه من الفنادق المطلة على ساحات دمشق، ولم يحضر من الإعلام الوطني السوري إلا مَن كان يعمل معارضا خارج حدود الوطن.
- مع دخول مرحلة تسيير الأعمال، حجبت وسائل الإعلام المحلية جميعها، تحت شعار التقييم، والتصنيف الإعلامي، خوفا من "شركاء الإجرام"، خصوصا المراسلين الحربيين، الذين تباهوا في عهد النظام بتعابير وصور مسيئة لجثث الثوار المنكّل بها، ليصبح الصحفيون قيد الدراسة، للاستعانة، أو للتأهيل، أو للطرد، أو للمحاسبة، ريثما يعاد إطلاق عجلة الإعلام المحلي.
- مع تحول الإدارة العامة للقيادة المنظمة، (وهو ما بدأ فعلا مع طروحات الإنقاذ السريع)، سُمح للإذاعات بالعودة للعمل، كي لا تسقط القيادة الجديدة في الديكتاتورية السابقة نفسها، مع الترخيص الفردي عبر البطاقة الإعلامية، المخولة صاحبها بالعمل. وتزامن ذلك مع المساءلة الفعلية لصناع المحتوى عن أي مضمون ضارّ يؤجج الكراهية، في محاولة لـ"إطفاء الحرائق الإعلامية".
- مرحلة المحاسبة، وهي المرحلة التي تدعى خلال الفترة الانتقالية "بالعدالة الانتقالية"، وقد خرج بعضها عن المسار الديمقراطي، عبر المطالبة بالمحاسبة الفردية، وإصدار الأحكام خارج العدالة القانونية، ومعاقبة الصحفيين المتورطين في العهد السابق.
- مرحلة الهيكلة والتنظيم النهائي، حين تصدر التشريعات وتحدد طبيعة العمل الإعلامي النهائي، وهي مرحلة لم تدخلها الحالة السورية بعد.
- مرحلة السياسة الإعلامية العمومية الواضحة، وهي تأتي بعد مرحلة الهيكلة والتنظيم.
غاب الإعلام الوطني، وحلت مكانه المحطات العربية والأجنبية الوافدة، التي بث بعضها البرامج الإخبارية الحية من مبنى الإذاعة والتلفزيون السوري الحكومي، وأطلق بعضها الآخر مكاتبه من الفنادق المطلة على ساحات دمشق، ولم يحضر من الإعلام الوطني السوري إلا مَن كان يعمل معارضا خارج حدود الوطن.
القانون.. بين النص والتأويل
إن متطلبات المرحلة الانتقالية تقع بين "سلطة صاحبة قرار، ومشرّع بهيئاته الدستورية والتنفيذية والتشريعية المختلفة، وإعلاميين مستقلين، وحزبيين، وممثلي جمعيات أهلية، ومدنية، وخبراء". هذه المتطلبات، لا بد أن تحتمي تحت مظلة عنوانها الأساسي: "خطاب إعلامي وطني جامع لكل السوريين، بعيدا عن الكراهية، والمصالح الشخصية". بالنسبة للطرف الأول بوصفه بنية سياسية تتحمل مسؤولية تدبير المرحلة، بتناقضاتها وإيجابياتها وسلبياتها، وصراعاتها وتحالفاتها، والأهم الإيمان بحرية الصحافة، وإدراك حساسية تداول المعلومات، وحق نقد النظام وقيادته القادمة، وکشف الفساد، وحرية التعبير والتفكير، والسماح بالتعددية، وضمان سلامة الصحفيين وأمنهم، ورفض القوانين المؤطرة، بعيدا عن عقلية النظام البائد، حتى لا يتسم "الإعلام الانتقالي" بسمات التابع السياسي، الذي يركز على التفسير والتبرير، أكثر من دوره في المساءلة والرقابة، فيفقد جزءا كبيرا من سلطته وتأثيره، بدل دعمه مسار الديمقراطية، والعدالة الانتقالية، وإبراز قصص الضحايا و"بطولات" الناجين.
بالمقابل، يجب على الطرف الثاني متمثلا في الإعلاميين، عدم استغلال المناخ الديمقراطي، للتعارض ضد مبدأ الصالح العام ومواثيق الشرف المهنية؛ ذلك أن القوانين لم تكن يوما مشكلة الإعلام الوطني، فحتى الدستور المصوغ على هوى النظام السابق سنة 2012 نصت مادته الثانية على أن السيادة للشعب، ولا يجوز لأحد ادعاؤها؛ فهل كانت فعلا السيادة للشعب؟! كذلك نصت المادة 33 على أن الحرية وحق التعبير مقدسان وأن الدولة تكفل للمواطنين حريتهم الشخصية، وكان ذلك ستارا يخفي ديكتاتورية الممارسة. في حين زعمت المادة الثامنة أن نظام الدولة يقوم على التعددية السياسية، وكذلك أقر قانون الإعلام لسنة 2012 في جل مواده بحرية الرأي والتعبير والترخيص، فالمادة 3 "رسالة القانون"، تقر أن الصحفي يؤدي رسالته بحرية واستقلال ووسائله مَصونة، أما المادة 4 المعنونة بـ "مرتكزات القانون" فتشير إلى أن التعبير والحريات الأساسية للدستور السوري، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مصادق عليها، بينما تؤكد المادة الخامسة على حق الإنسان في الحصول على المعلومات، وتؤكد المادة السابعة ألّا تكون المعلومة التي يقدّمها الإعلامي أو رأيه سببا للمساس بحريته، بينما يناقض واقع السجون الأمنية ذلك. وحتى المجلس الأعلى للإعلام المشّرع والمرخص لمؤسساته، كان أعضاؤه يُعيّنون مباشرة، بينما كان انتخابهم يشبه المسرحية، ما جعل تراخيصه لا تخرج عن استبدادية النظام. معنى ذلك أن المشكلة لم تكن تكمن في القوانين، بل في تطبيقها.
وهكذا، إذا كان الجميع ينتظر في المرحلة الانتقالية عدالة القوانين والتشريعات، ومنهجية منظومتها، فهو انتظار غير مؤسس؛ لأن التطبيق سيد التجربة، التي تبشر ملامحها الأولية حاليا بالتفاؤل، رغم بعض الشوائب؛ إذ يبث الجميع من قلب دمشق، من دون مساءلة، أو تعدٍّ على حرية إعلامي، حتى الآن.
إذا كان الجميع ينتظر في المرحلة الانتقالية عدالة القوانين والتشريعات، ومنهجية منظومتها، فهو انتظار غير مؤسس؛ لأن التطبيق سيد التجربة، التي تبشر ملامحها الأولية حاليا بالتفاؤل، رغم بعض الشوائب؛ إذ يبث الجميع من قلب دمشق، من دون مساءلة، أو تعدٍّ على حرية إعلامي، حتى الآن.
تميزت المرحلة السابقة، بإغلاق منافذ الوصول إلى المعلومات وقتل الصحافة الاستقصائية، وغياب إعلام الرأي، وعدم تمثل دور الصحافة بوصفها سلطة رابعة مراقبة ومسائِلة. أما المرحلة الحالية فتتمثل أبرز تحدياتها في:
- صعوبة الوصول إلى المعلومات في ظل الوضع غير المستقر، وغياب الدعم الهيكلي، وضعف مؤسسات الدولة، وتخلخل الثقة بين أطراف المجتمع.
- توقف عدد من وسائل الإعلام نظرا لتبعيتها الحكومية، أو لانتهاء دعمها المادي، في ظل واقع خدمي مزرٍ.
- صعوبة العمل الإعلامي في ظل عدم الاستقرار الأمني لمرافق الدولة الأساسية، وغياب عدالة القانون، نتيجة غياب تشريعاته، ومؤسساته الناظمة.
- المحاسبة الشخصية للإعلاميين بعيدا عن القانون، نتيجة مواقفهم السابقة، ودراسة وضع آخرين، ووضع ثلاثة مستويات لتقييمهم ضمن المرحلة الانتقالية يندرج تحتها: "رموز إعلام النظام السابق، والإعلاميون الرماديون، وإعلاميو الثورة".
- اصطدام شغف الطموح الإعلامي العالي بعد سقوط الأسد بواقع مجتمعي أولوياته ضبط الأمن العام قبل أي شيء، وهو ما يدعى في عرف الإعلام الانتقالي بـ"الصدمات الديمقراطية".
- حضور صناع المحتوى على مواقع التواصل الاجتماعي، لملء الفراغ الإعلامي المهني، وما يعكسه ذلك من غياب المصداقية وانتشار الشائعات. وفي تأكيد لهذا الحضور، خصّ الرئيس السوري "أحمد الشرع" - قبل تنصيبه رسميا كرئيس لسوريا- صانع محتوى عربيّا هو "جو حطاب" بلقاء في قصر الشعب بدمشق.
محاذير جدية
يرنو الإعلام الانتقالي السوري إلى تعويض حقبة إعلام تكميم الأفواه من خلال توثيق المظالم وواقع الناس وحقوق الفئات المستضعفة، فتمارس دورها الوظيفي بمسوؤلية اجتماعية، ترافقها أمانة نقل المعلومات، ودقة عرضها. وأرى أن أبرز المحاذير في المرحلة الحالية تتجلى في:
- ممارسة خطاب الكراهية والتحريض عليها، سواء باختيار الوقائع، أو بانتقاء التعبيرات والألفاظ؛ إذ يلحَظ على سبيل المثال كثرة تداول مصطلحات من قبيل "حماية الأقليات"، وهو مفهوم يفترض أن يكون غريبا على المجتمع السوري.
في أحلك لحظات سوريا لم يستخدم هذا المصطلح، وفقا لـ أيمن عبد الله في كتابه "تاريخ سورية المعاصر"(10)، حين كان المندوب السامي الفرنسي يسأل زعماء الثورة السورية كالسلطان باشا الأطرش، والشيخ صالح العلي عن نسبة طوائفهم، كانوا يجيبون: "ليس لطوائفنا وجود على الخارطة الوطنية، لأننا في سورية تربينا على أن كل الشعب يصبح سنّة حين يتعرض السنّة لخطر، ويصبحون دروزا حين تواجههم مصائب، ويتحولون علويين حينما يصابون بضائقة، ومسيحيين حين يكونون في ضائقة".
أظهرت تغطية مظالم سجن صيدنايا والمعتقلات الأمنية ضعفا كبيرا في احترام أخلاقيات المهنية مثل تصوير "المؤثرين" مراحل البحث عن المفقودين، ومبادرات قد تطمس الحقائق (طلي جدران السجون). وجرى التركيز على أساليب القص السردي، وأسلوبية العرض، على حساب أنسنة التغطية.
ولم يخرج الشيخ فارس الخوري عن هذا الطرح، حين قال لمندوب الاحتلال بعدما أخبره أنهم قدموا من أجل حماية الأقلية المسيحية: "لو أن وحدة وسلامة وحرية أراضي سورية تستدعي إسلامي لأعلنت الشهادتين على منبر الجامع الأموي"، ولكن هذه الروح بدأت تغيب عن طرح إعلامي تسود خلفياته عناوين ذات أغلبية إثنية، ونعرات طائفية من دون أي مبرر.
- "ماهر الأسد يعود إلى الساحل، وانسحاب القيادة العامة بعد تدخل الطيران الروسي". انتشر هذا الخبر على نطاق واسع على المنصات الرقمية، وهو نموذج واضح على ممارسة الخداع الإعلامي والتضليل، وإذا كان التصنيف الدولي للأخبار الزائفة يتراوح بين (مضللة، مخادعة، مغلوطة، وهمية، مزيفة، ملفقة، ملوثة، ملغومة، خبيثة، مضرة، مفبركة، لا أساس لها بالواقع)، فإن نوايا نشرها محليا يعود إلى ثلاثة أسباب؛ أولها الاعتقاد بصحتها، وثانيها عدم أخذ الوقت للتحقق منها، وثالثها التعمد في بثها، رغم التأكد من عدم مصداقيتها. وتكمن الخطورة في الحالة السورية، إذا ما اقتبسنا من "مايكل رادوتزكي"(11)، في أن الأخبار المزيفة، تشكل في جوهرها قصصا خاطئة مصطنعة ينشرها "مرتزقة إعلاميون"، ولكن لديها جاذبية شعبية، ويستهلكها الملايين، خصوصا مع الوضع الانتقالي الذي تبهت فيه المصداقية، ومرجعية المصادر، وتدقيق المعلومات، وتقصي الحقائق.
- إن تعددية الإعلام بين "حكومي" و"خاص" و"مشترك" و"حزبي" و"أهلي" و"مدني" يُخشى أن تتعارض مصالحه الخاصة مع المصلحة العامة. صحيح أن الإعلام بمجمله موجه، وليس مؤسسة خيرية أو حَمَاما زاجلا لا يتدخل بالرسالة التي يحملها، ولكن في الوقت نفسه على كل صحفي ألا يكون مرتبطا بمصالح فئوية أو لحزب سياسي، إنما نيابة عن الشعب، والصالح العام، والعدالة الأساسية، والانفتاح، والشفافية، والمساءلة.
- أظهرت تغطية مظالم سجن صيدنايا والمعتقلات الأمنية ضعفا كبيرا في احترام أخلاقيات المهنية مثل تصوير "المؤثرين" مراحل البحث عن المفقودين، ومبادرات قد تطمس الحقائق (طلي جدران السجون). وجرى التركيز على أساليب القص السردي، وأسلوبية العرض، على حساب أنسنة التغطية، ومتطلبات الميثاق الدولي لحق معرفة الحقيقة بما يتعلق بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان واحترام كرامة الضحايا(12)، فظهر معظم المساجين ضحايا ضعفاء جبناء بلا عقل، بدل أن يظهروا ناجين واجهت أعينهم مخرز الظلم، وخرجوا منتصرين.
بإمكان الصحفي أن يصور واقعا مريرا، ولكن من دون ابتذال أو إهانة للناس، ما يعني وجوب تأهيل الإعلاميين، بغض النظر عن اتجاهاتهم وولاءاتهم لأنسنة قصصهم، وللتمييز بين التغطية السياسية والإنسانية، بمداخلها المتعددة؛ "العنف والأزمات والصراعات والحروب والناجين منها، واللاجئين، والفضائح، وقضايا الصدمة، والقضايا ذات الحساسية الوجدانية"، فأينما وجدت الإنسانية وجدت الصحافة الجادة (13).
- من البديهي أن تؤدي المنافسة الشديدة بين القوى المنتصرة والمترنحة، وطروحات الديمقراطية الانتقالية، إلى التركيز على القصص السلبية والمثيرة، والمشاهد البصرية المؤذية للذات البشرية، بغض النظر عن أهميتها (14)، ولكن الإفراط في التغطية وتكرار سلبية الإثارة يدفع الجمهور إلى الإحباط، والتخدير، واللامبالاة، وتجنب أخبار المرحلة برمتها.
دفن المرحلة السابقة
من المؤكد أنه كلما قصرت المرحلة الانتقالية وتسارع نقل السلطة إلى قيادة منتخَبة من الشعب السوري، قلّ تشرذم المجتمع، وزادت قوة تدشين مرحلة الاستقرار والتنمية، على أسس ديمقراطية، وعدالة شاملة، ونظام يحظى بشرعية شعبية. من الملاحظ أن إعلام هذه المرحلة لا يؤمن بالموضوعية، بل بالإنصاف والتوازن؛ لذلك فإن ثالوث حرية التعبير، والمجتمع المنفتح، وحقوق الإنسان، يمثل ركائز الإعلام الانتقالي، الذي يجب أن يدرك كل عامليه أنه ليس مباراة كرة قدم يجب أن يربح فيها فريقك، بل أن يربح الناس والتوافق الأهلي في مجتمع يعيش لحظة -قـد لا تتكرر- لكتابة التاريخ.
المراجع
- Caesar, Jacob. "The Democratic Nation and Transitional Media Variables." Paper presented at the American Political Science Association, 1972.
- Fromm, Erich. On Disobedience and Other Essays. London: Routledge and Kegan Paul, Ltd., 1984.
- المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. "سورية الجديدة: خارطة طريق للمرحلة الانتقالية". تم الوصول في 11 فبراير 2025.
- Dahl, Robert. "The City in the Future of Democracy." American Political Science Review 61 (December 1967): 967.
- Robencon, Michele J. "Public Affairs Television and the Growth of Political Malaise." American Political Science Review 70 (1976): 409–432.
- حفصية، فطين. "انتقال إعلامي … حتى إشعار آخر." مجلة المفكرة القانونية. تونس. تم الوصول في 13 فبراير 2025. https://legal-agenda.com/.
- Rugh, William. Arab Mass Media: Newspapers, Radio, and Television in Arab Politics. London: Praeger, 2004.
- Shafer, Byron, and Richard Larson. "Did TV Create the Social Issue?" Columbia Journalism Review 11, no. 1 (1972): 10–17.
- "ملفات حارة،" برنامج استقصائي قدمه إبراهيم ياخور. عرض خلال العام 2001 وفترة الربيع العربي.
- عبد الله، أيمن. تاريخ سورية المعاصر. دمشق1987
- Bohle, Robert H. "Negativism as News Selection Predictor." Journalism Quarterly 64, no. 3 (1987): 789–796.
- UNESCO. Terrorism and the Media: A Handbook for Journalists. Paris: United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization, 2017. ISBN 978-92-3-100199-4.
- Beam, Randal, et al. "Changes in Professionalism of U.S. Journalists in the Turbulent Twenty-First Century." Journalism & Mass Communication 86, no. 2 (2009): 277–298.
- Edgerly, Stephanie. "Red Media, Blue Media, and Purple Media: News Repertoires in the Colorful Media Landscape." Journal of Broadcasting & Electronic Media 59, no. 1 (2015): 1–21.