منذ ما يقارب العامين، يعيش الصحفيون في قطاع غزة على خطّين متوازيين لا يلتقيان: خطّ الميدان حيث تتوالى المجازر الإسرائيلية وتتكدس الأحداث الميدانية، وخط المنازل أو الخيام التي تركوا فيها أطفالا يتشبثون بانتظار عودة قد لا تأتي قريبا. غياب مزدوج يثقل أرواحهم وهو مفروض بحكم المهنة، ومن الصعب على طفل صغير أن يستوعبه وهو يبحث عن الأمان في حضن أبيه، وحضور قاسٍ في واجهة العالم؛ بوصفهم شهودا على حرب لا تنتهي.
أشرف أبو عمرة -على سبيل المثال لا الحصر- نموذج حقيقي؛ حيث يعمل مراسلا لقناة الجزيرة في دير البلح وسط القطاع، هو أب لستة أبناء، أكبرهم في الخامسة عشرة وأصغرهم في الخامسة. بالكاد زار أسرته مرتين خلال عامين من الحرب، الأولى في هدنة "نوفمبر" عام 2023، والثانية خلال هدنة الـ 40 يومًا في يناير/ كانون الثاني 2025.
يقول أشرف إن التغطية الميدانية تفرض عليه العمل طوال الوقت، لكن السبب الأثقل الذي ربما لا يعرفه الجمهور من خلف الكواليس هو "أنني أعيش خوفا على عائلتي من الاستهداف المباشر لكوني صحفيا، خاصة أن استهداف الصحفيين وعائلاتهم بات مشهدًا مكررًا في الإبادة".
ولعل تجربة صحفيي الجزيرة تثبت هذا النمط المتعمد من الاستهداف؛ يستحضر أشرف قصص زملائه "التي بدأت بعائلة الزميل وائل الدحدوح ثم مؤمن الشرافي ومحمد أبو القمصان وأنس الشريف الذي فقد أباه قبل أن نفقده مع الزملاء محمد قريقع ومحمد نوفل ومؤمن عليوة وإبراهيم ظاهر ومحمد الخالدي بمجزرة استهدفت خيمة الصحفيين أمام العالم كله في مسلسل طويل وممتد".
يقف أشرف أمام الكاميرا ويروي قصص الناس، لكنه خلف الكواليس يسمع قصص أبنائه ويقرأ رسائل اشتياقهم، يخبرونه "كم نفتقدك يا أبي، كم نخاف من دونك ونتمنى أن تكون معنا" ويضيف أشرف "أنا أيضا أحتاجهم بصفتي أَبَا قبل أن أكون صحفيا. لا أحد مستثنى من الاستهداف في هذه الحرب، وهذا أكثر ما يرعبني ويرعبهم".
يقف أشرف أمام الكاميرا ويروي قصص الناس، لكنه خلف الكواليس يسمع قصص أبنائه ويقرأ رسائل اشتياقهم، يخبرونه "كم نفتقدك يا أبي، كم نخاف من دونك ونتمنى أن تكون معنا" ويضيف أشرف "أنا أيضا أحتاجهم بصفتي أَبَا قبل أن أكون صحفيا. لا أحد مستثنى من الاستهداف في هذه الحرب، وهذا أكثر ما يرعبني ويرعبهم".
عند انقطاع الكهرباء والاتصال عن غزة، أحيانا لا تبقى أي وسيلة للتواصل أمام العائلة إلا عبر شاشة "الجزيرة" وذلك حين تسمح البطاريات الممدودة على ألواح الطاقة الشمسية بذلك. حينها فقط يطمئنون أنه ما زال على قيد الحياة "وزوجتي أكثر من يدفع ثمن عملي". في لحظات الفراغ النادرة تحت الحرب، يسرق الصحفي دقائق لمشاهدة صور قديمة أو مقاطع جمعته بأطفاله. لكن حين يشتد القصف في محيط منزله بدير البلح يكاد ينهار. يقول أشرف "أشعر بالذعر وأقف أمام الكاميرا بقلب معلّق، لكنني أدرك أنني صوت لمليوني إنسان محاصر يعانون الجوع والقصف والقتل، هذه مسؤولية كبيرة وأنا حملتها منذ اليوم الأول ودائما ما أهيئ نفسي للخبر السيِّئ".
يافا أبو عكر وهي مراسلة صحفية أيضًا، أم لثلاثة أطفال، وتعمل ما لا يقل عن 10 ساعات يوميًا، تقول إن أصعب سؤال يطاردها كل صباح: "إلى أين ستتجه التغطية اليوم؟ بل من سيغطي غيابي إذا قررت أن أعمل لساعات أقل هذا اليوم؟ ففي كل آن مجزرة تحتاج التوثيق".
تخبرنا يافا بأن الناس جميعا يتألّمون في غزة، المعاناة ذاتها، إلا أن الصحفية تشعر بألم مضاعف؛ حيث تقف في الميدان لترصد النزوح وتجويع الناس وقتلهم بينما تعيش أسرتها الوضع ذاته. حين ترى الأطفال يتشبثون بأمهاتهم تحاول حبس دموعها وهي تستذكر أطفالها الذين يبكون ويتوسلون إليها ألّا تخرج صباحا إلى التغطية خوفًا من استهدافها.
أجبرت الصحفية يافا أبو عكر على إرسال ابنها أنس وعمره خمس سنوات إلى مصر، مع جدته المريضة في فرصة ظنت أنها نجاة له، لكنها لا تنفك عن استقبال رسائله الصوتية باكيًا وهو يقول لها "رأيت قصفا لصحفيين، لا أريدك أن تكوني التالية، لا أريدك صحفية يا ماما".
أجبرت الصحفية على إرسال ابنها أنس وعمره خمس سنوات إلى مصر، مع جدته المريضة في فرصة ظنت أنها نجاة له، لكنها لا تنفك عن استقبال رسائله الصوتية باكيًا وهو يقول لها "رأيت قصفا لصحفيين، لا أريدك أن تكوني التالية، لا أريدك صحفية يا ماما". وتعترف يافا أنه أصيب برهاب من مهنتها؛ إذ يراها مرتبطة بالخطر بالدرجة الأولى، يسألها في كل ساعة متى ستعودين؟ أرسلي لي صورة تثبت أنك عدت إلى المنزل. أما ابنتها التي تبلغ من العمر ثلاث سنوات فتتوسل إليها كل صباح دون ملل "ماما لا تذهبي؛ أنا خائفة وأريدك بجانبي، أخاف أن تموتي وتتركينا".
نزحت عائلة يافا مرات عديدة، وقُصف منزل ملاصق للبيت الذي لجأت إليه. خرج الجرحى والشهداء منه: "أنا التي اعتدت على هذه المشاهد أمام الكاميرا، وقفت للحظاتٍ مشلولة لا أعرف كيف أتصرف".
منذ اليوم الأول للحرب لم تغادر الصحفية الميدان، تنقلت من شمالي القطاع إلى جنوبه، نعت على الهواء مباشرة أخوالها وأبناء عمومتها، نساء وأطفالا وكبارا في السن، وفي كل لحظة انهيار حاولت التماسك.
عن محاولات الحصول على يوم إجازة تعقب يافا: "إن أخذت إجازة ليوم كي أعيشه مع أطفالي فسأظل أفكر: من سيغطّي مكاني وسط سيل المجازر هذا؟ وإن لم آخذ أفكرْ وأنا على الهواء مباشرة: هل يحتاجني أطفالي الآن أكثر من احتياج الميدان لي؟
وفي قرار البقاء حتى بضع ساعات مع أطفالها، تقر يافا بأنه أمر مرعب بالنسبة لها، في كل يوم يستهدف فيه الصحفيين وعائلاتهم، وهو أمر يُصوِّر لها أن العودة والاجتماع بالأسرة أمر محفوف بالخطر، صار الخوف عليهم سببًا إضافيًا لبقائها في الميدان أكثر مما تحتمل.
في الغياب الأبدي، كيف يبدو المشهد؟
في مايو/أيار 2025 قتلت قوات الاحتلال الإسرائيلي الصحفي حسن اصليح بغارة استهدفت الغرفة التي يخضع فيها للعلاج داخل مستشفى ناصر الطبي في مدينة خانيونس، على إثر إصابة قبلها باستهداف خيمته.
آلاء اصليح (30 عاما) زوجة الشهيد الصحفي حسن اصليح وأم أطفالهم الأربعة تسترجع بألمٍ الأيام التي عاشتها خلال فترة تغطيته وقبل استشهاده: "مرت علينا أيام قاسية، لم نره لشهر وأكثر. نتنقل من نزوح إلى آخر وهو بعيد يغطي قصص الناس بينما كنا نحن قصة بحد ذاتها".
آلاء اصليح زوجة الشهيد الصحفي حسن اصليح وأم أطفالهم الأربعة تسترجع بألمٍ الأيام التي عاشتها خلال فترة تغطيته وقبل استشهاده: "مرت علينا أيام قاسية، لم نره لشهر وأكثر. نتنقل من نزوح إلى آخر وهو بعيد يغطي قصص الناس بينما كنا نحن قصة بحد ذاتها".
منذ بداية الحرب، كان يسكنها شعور ثقيل بأنها ستفقده. تقول: "الوقت كان يمضي ببطء على قلبي وقلوب أطفاله. كانوا دائما يرددون: لو كان بابا معنا لاختلف حالنا؛ لكان وفر لنا الغذاء وسط المجاعة. يسألونني كل يوم: لماذا قتلوا بابا؟"
تشير آلاء إلى مدى ارتباط حسن بمهنته؛ إذ كان يعمل تحت كل ظروف الموت والتجويع والحصار، يخاطر بنفسه من أجل توثيق الصورة حتى اشتهر أنه صوت "الغلابة"، يبحث عنه الناس ويذهبون إليه لبث مناشداتهم من خلاله، كان دائما ما يخبرها بأن صوت الناس تحديدا في الحرب أمانة في عنقه.
في لحظات لقائه بأسرته، تؤكد زوجته أنها كانت عبارة عن دقائق معدودة؛ لخوفه من الاستهداف وهو معهم، يزورهم على عجل، يركض أطفاله نحوه ويعانقونه بقوة لكنه في كل مرة يفلت منهم ويبتعد حرصًا على حياتهم من القصف المباشر.
رغم الفقد، تحاول آلاء أن تُبقي ما بناه الصحفي الشهيد حاضرا، تبذل جهدها من أجل أن تظل قنواته الإخبارية على منصات التواصل موجودة، تتابع الأخبار مع اثنين من زملائه أولا بأول من الميدان ومن المصادر الرسمية وتنقلها للمتابعين.
ثمن الصحافة في قطاع غزة لا يدفعه الصحفيون وحدهم، بل يمتد أثره ليصبح حدثا فاصلا يُسجَّل في حياة عائلاتهم وأطفالهم. ولعل ما يعيشه أبناء الصحفيين اليوم من فقدان وخوف وغياب يختصر حجم التضحية التي تتحول فيها الكاميرا والقلم إلى عبء ثقيل على كتف أسرة بأكملها، لكنها في الوقت ذاته تَبقى شهادة حية على حقيقة لا يمكن محوها من ذاكرة العالم.