ترجمة: محمد زيدان
يتجه الأمريكيون إلى صناديق الاقتراع في الخامس من تشرين الثاني/ نوفمبر، وهو حدث عادة ما يتصدّر عناوين الأخبار في العالم وعلى مدى أسابيع عديدة. في الجزيرة بلس +AJ تنطلق مقاربتنا لتغطية هذه الانتخابات من اعتبار مجموعة من القيم الأساسية التي ترتبط باسم "الجزيرة" في مشهد الإعلام العالمي؛ وهي هوية تحريرية ليس مركزها في الغرب، بل في الجنوب العالمي.
ولفهم ما يميزنا عن كبرى وسائل الإعلام الغربية، يكفي أن نقارن تغطيتنا للإبادة الجارية في قطاع غزة بتغطيتها؛ فالإعلام الغربي يميل على نحو روتيني إلى نزع الأنسنة عن ضحايا القصف الإسرائيلي، وتبنّي روايات الاحتلال، وإسقاط السياق عن الحرب والصراع وجوهره الاستعماري. أما تغطيتنا، فهي تتميز بالاهتمام بأصوات المهمشين، وسرد القصص الإنسانية التي توثّق معاناة الفلسطينيين الذين يكابدون صدمة الإبادة المتواصلة ويتعمّد الاحتلال القضاء على حاضرهم وحرمانهم من مستقبلهم. كذلك نأخذ على عاتقنا مسؤولية تزويد الجمهور بالأدوات والمعلومات السياقية الأساسية الضرورية لفهم الأحداث واستيعاب تاريخها. إن مجرد تقديم القصة من منظور إنساني وفي سياقها، يشكل اختلافا عن السرديات التي تلتزم بها القوى الغربية التي تدعم هذه الإبادة، ووسائل الإعلام السائدة التي تساندها.
في الجزيرة بلس +AJ تنطلق مقاربتنا لتغطية هذه الانتخابات من اعتبار مجموعة من القيم الأساسية التي ترتبط باسم "الجزيرة" في مشهد الإعلام العالمي؛ وهي هوية تحريرية ليس مركزها في الغرب، بل في الجنوب العالمي.
ولكن ما علاقة كل هذا بمقاربتنا للانتخابات الأمريكية؟
في الواقع، للأمر علاقة كبيرة وجوهرية. فإذا كنا نشكك في رواية وسائل الإعلام الغربية السائدة في الولايات المتحدة بشأن فلسطين وعلاقة الولايات المتحدة بالمنطقة العربية، أفلا يكون حريّا بنا أيضا أن نتفحص بصورة نقدية أيضا روايات تلك الوسائل وتغطيتها للشؤون السياسية المحلية فيها؟
عند طرح هذا السؤال، فإننا ننطلق من نظرة غير انتقائية للواقع، وهو واقع يقول إن الولايات المتحدة التي تدعم الإبادة الجماعية في فلسطين وتتواطأ معها هي نفسها الدولة التي ستنتخب رئيسا جديدا في السابع من نوفمبر/ تشرين الثاني.
لقد كانت الإبادة الجماعية في فلسطين محور تركيزنا في التغطية والعمل على مدار العام الماضي، ولا بد أن تؤطّر نظرتنا إلى الانتخابات الأمريكية وقضاياها. على سبيل المثال نولي قدرا كبيرا من الاهتمام بالعبث الذي تمارسه الولايات المتحدة في الجنوب العالمي، بعيدا عن صناديق الاقتراع، على نحو يفوق اهتمامنا بغرائب قصص المرشحين المتنافسين في نظام انتخابي يتوافق خطابه وأسلوبه مع معايير.
نولي قدرا كبيرا من الاهتمام بالعبث الذي تمارسه الولايات المتحدة في الجنوب العالمي، بعيدا عن صناديق الاقتراع، على نحو يفوق اهتمامنا بغرائب قصص المرشحين المتنافسين في نظام انتخابي يتوافق خطابه وأسلوبه مع معايير الإعلام الترفيهي.
الإعلام الترفيهي
لكن، أليست هذه الانتخابات مؤشرا مهمّا أيضا على ما يمكن للعالم توقعه من قوّة عظمى في السنوات الأربع المقبلة؟ وهذا سؤال قد يكون وجيها لو كانت السياسة الخارجية للولايات المتحدة تمليها صناديق الاقتراع، إلا أن ذلك بعيد كل البعد عن الدقّة.
يقرر القادة الأمريكيون في البيت الأبيض سياساتهم الخارجية على نحو يختلف كثيرا عن الوعود التي كانوا يطلقونها في حملاتهم الانتخابية، وهي حملات ليست السياسة الخارجية أصلا عنصرا أساسيا فيها. ثمّة قضية أو قضيتان فاصلتان تقسم بين معسكرين للناخبين، وهما الإجهاض والهجرة، إلا أن الجزء الأكبر من الحملات يعتمد على لغة الدعاية وإثارة العواطف والمشاعر (الخوف/ الغضب/ التفاؤل/ الفرح)، ويستغل هذه العناصر صناع الدعاية لإلصاقها بصورة مرشّح بعينه، تماما كما يحاولون إثارة مشاعر معينة عند تصميم دعاية لمنتج استهلاكي؛ كسيارة جديدة أو شامبو.
إلا أن فوز ترامب أو هاريس لن يغيّر كثيرا في سيرة الخراب الإسرائيلي المدعوم من واشنطن الذي نرى آثاره اليوم في فلسطين ولبنان. كلا المرشحين يشتركان بالتزام عميق في دعم الحروب الإسرائيلية وانتهاكاتها حتّى لو كانت غالبية الناخبين يعارضون الجرائم الإسرائيلية في غزّة.
إلا أن الحياة في أمريكا نفسها قد يطرأ فيها اختلاف تبعا لفوز مرشّح على آخر. من ذلك مثلا طريقة التعامل مع المظاهرات المؤيدة لفلسطين، التي قد تشهد تضييقا كبيرا عليها في حال فوز ترامب، الذي يتوعّد أيضا بإجراءات ذات طابع عنصري شرس بحق السود والمهاجرين غير البيض، هذا إضافة إلى قضية الإجهاض والمخاوف بين النساء الأمريكيات بشأن فرض مزيد من القيود عليهنّ في هذا الجانب. كذلك فإن لترامب وهاريس مواقف متباينة بشأن الحرب الأوكرانية، بيد أن مخرجات هذه الحرب ليست ذات اهتمام كبير بين الناس في الجنوب العالمي. أمّا الأمر الثابت، فهو أنّه ليس هنالك أي سبب لتوقع أي اختلاف بينهما بما يتعلق بدعم إسرائيل.
أمريكا من الخارج
تقدم الجزيرة + تغطية مصممّة لمساعدة جمهورنا العالمي على فهم الكيفيات التي يعمل وفقها النظام في الولايات المتحدة، من دون الوقوع في فخ مقاربة سطحية لا ترى في الولايات المتحدة سوى "نموذج للديمقراطية"؛ فنحن نسلط الضوء على ذلك الانفصال الحاصل بين الخيارات التي يعبر عنها غالبية الناخبين، وبين نتائج الانتخابات ومخرجاتها.
في العام 2020، فاز جو بايدن في الانتخابات الرئاسية متفوقا على دونالد ترامب بواقع 7 ملايين صوت. ولكن، لو أن 120،000 ناخب فقط من هؤلاء في أربع ولايات رئيسية قرروا البقاء في بيوتهم عوض المشاركة في التصويت، فسيظلّ بايدن متفوقا على خصمه بواقع 6.9 ملايين صوت، ولكنه سيكون قد خسر أمامه. وهذه ليست حالة استثنائية ولا شاذة، بل هي نمط ناجم عن ذلك التصميم الغريب لنظام الانتخابات الأمريكي. لقد انتخب ترامب رئيسا عام 2016، رغم أنه حلّ ثانيا أمام منافسه، بفارق 3 ملايين صوت. أما جورج بوش الابن، فقد حلّ هو ثانيا أيضا عام 2000، وبفارق نصف مليون صوت. ليس ثمّة غش ولا تزوير هنا، ولكن هذا ما تقتضيه آلية "المجمع الانتخابي"، وهي آلية دستورية مصممة للتحكم بإرادة الناخبين.
أما في مجلس الشيوخ، فالحالة أكثر تطرفا؛ إذ يُمنح مقعدان لكل ولاية، بصرف النظر عن تعداد سكانها. هذا يعني أن صوتا واحدا فقط للمجلس من ولاية وايومينغ (584،000 نسمة) يعادل 70 صوتا من كاليفورنيا (40 مليون نسمة)؛ أي إنه يمكن السيطرة على هذه الهيئة التشريعية الوطنية بأقل من 20% من الأصوات على المستوى الوطني.
ولقد لَحِظنا عادةً كيف أن وسائل الإعلام الغربية تتعامل مع هذه الجوانب في النظام الانتخابي الأمريكي إذ تضخّم دور الأقليّة وتعزز من سيطرتها، بعدِّها جزءا عاديا من الديمقراطية الأمريكية العريقة لا ينبغي الوقوف عنده والتدقيق فيه. أمّا نحن فنرى أهمية بالغة في توضيحها لجمهورنا العالمي ومقارنتها بالمعايير الديمقراطية الأخرى؛ وذلك لأننا على قناعة بأن الناس يستحقون التعرض لتغطية أكثر عمقا ومسؤولية نقدية بشأن طريقة عمل النظام السياسي في الولايات المتحدة. هذا يعني التعامل مع كل الجوانب ذات التأثير، بدءا من الدور المتعاظم دوما للمليارديرات وأصحاب رؤوس الأموال في اختيار المرشحين، وصولا إلى تلمّس الإرث المستمر للآباء المؤسسين للولايات المتحدة، الذين كانوا مترددين إزاء الديمقراطية، فوضعوا دستورا يتيح ضبط إيقاعها.
نحن مدركون لحقيقة أنه إذا ما جرى تقييم الانتخابات الأمريكية وفق مسطرة المعايير الديمقراطية التي تفرضها المؤسسات الأمريكية عند تقييمها للانتخابات التي تحصل في الجنوب العالمي، فإنها قد تخفق في التقييم. يمكن مثلا النظر في إعلان المبادئ الخاصة بمراقبي الانتخابات الدولية التي وضعها مركز كارتر ويطبقها في عدد من الدول على مدار العقود الماضية. تلك المبادئ تنص على أن "الانتخابات الحقيقية" تتطلب ضمان "الحق والفرصة في التصويت بحرية، وأن يُنتخب المرشحون وفق آليات عادلة من خلال الاقتراع العام والمتساوي بين الناخبين، والتصويت السري أو أي آلية تصويت حرة مماثلة، وعلى نحو يجري وفقه عدّ الأصوات بدقة والإعلان عنها بنزاهة واحترام نتائجها".
ولكن هل يتمتع المواطنون الأمريكيون جميعهم بحق التصويت بحرية؟ الجواب هو لا، ليسوا جميعا؛ فالولايات المتحدة، بخلاف الدول الحديثة الأخرى، ليس فيها قانون تصويت موحّد على المستوى الوطني أو هيئة وطنية للانتخابات، بل هنالك عدة قوانين بحسب كل ولاية، ويمكن للسلطات في أي منها أن تضع عددا من الشروط التي من شأنها أن تعيق وصول المواطن الأمريكي الأسود الفقير إلى صناديق الاقتراع، أو غيره من المواطنين من غير البيض أو من القبائل الأصليّة، في حال كان ساد افتراض بأنهم سيصوّتون ضدّهم. وفي جعبة السلطة دوما إستراتيجيات تتيح ذلك، من ذلك مثلا قوانين الهوية الانتخابية، ونظام تسجيل مربك للناخبين، وتقليل عدد مراكز التصويت البعيدة أصلا عن أماكن سكن هذه المجتمعات. هنالك في الواقع قانون يجرّم مجرد تقديم الماء للناخبين الذين ينتظرون لساعات في الطوابير تحت أشعة الشمس الحارقة(1).
ما نسعى إلى تجنّبه في التغطية، فهو الابتعاد عن تناول الانتخابات الأمريكية وكأنّها "سباق خيول"، كما تفعل وسائل إعلام غربية؛ لأن مثل هذه التغطية محدودة القيمة تحريريا، لم تكن ذات بعد سلبي بالمعنى المهنيّ.
الأمر ذاته ينطبق على "التصويت المتساوي" الذي تخفق به الولايات المتحدة وفق النظام الراهن؛ فالفوارق التي يخلقها الاعتماد على "المجمع الانتخابي"[2] لتقرير الرئيس الجديد أو التجديد له، وتلك التي يخلقها مجلس الشيوخ في النظام السياسي في الولايات المتحدة، تقوّض من حقّ "التصويت المتساوي"؛ أي الحق في أن يكون لكل مواطن صوت ذو قيمة متساوية مع أصوات الآخرين.
يمنح النظام في الولايات المتحدة السياسيين إمكانية إعادة رسم المناطق (Districts)، في حال يضمن التحكم في الأصوات التي يتوقّع أن ينالها المرشّح المنافس. ورغم أنّ للمواطنين الحق في اللجوء إلى المحاكم والاعتراض، فإنه يلزم التنويه هنا إلى أن المحكمة العليا لا بد أن تنال موافقة مجلس الشيوخ، وهو مجلس- بحكم تصميمه الذي يمنح كل ولاية مقعدين- بات بمنزلة "فيتو" للأقلية الحاكمة؛ لهذا نرى اليوم أن المحكمة بأعضائها تميل إلى تبني مواقف سياسية تكاد تتناقض على نحو صارخ مع تلك التي يعبر عنها غالبية الأمريكيين.
بناء على ذلك، فإن مقاربتنا لكيفية تغطية الانتخابات الأمريكية تعتمد أساسا على هذا التفحّص التحليلي من الخارج، ومن منظور المجتمعات المهمشة عن مراكز السلطة، ولكنها متأثرة بعمق بها: من قطاع غزة إلى المكسيك، ومن مجتمعات المواطنين السود في الولايات المتحدة الذين يكافحون من أجل الحق في التصويت المتساوي، إلى المجتمعات العربية الأمريكية التي يغضبها تجريد العرب من إنسانيتهم في فلسطين ولبنان، وغيرها، على مدى عقود طويلة.
تعتمد مقاربتنا أساسا على هذا التفحّص التحليلي من الخارج، ومن منظور المجتمعات المهمشة عن مراكز السلطة، ولكنها متأثرة بعمق بها: من قطاع غزة إلى المكسيك، ومن مجتمعات المواطنين السود في الولايات المتحدة الذين يكافحون من أجل الحق في التصويت المتساوي.
أما ما نسعى إلى تجنّبه في التغطية، فهو الابتعاد عن تناول الانتخابات الأمريكية وكأنّها "سباق خيول"، كما تفعل وسائل إعلام غربية؛ لأن مثل هذه التغطية محدودة القيمة تحريريا، لم تكن ذات بعد سلبي بالمعنى المهنيّ، والجزيرة ليست بمعرض المنافسة في مثل هذا النوع من التغطية الترفيهية التي تكاد تحتكرها عدة وسائل إعلام نافذة؛ فنحن لا نرى أي قيمة تحريرية ولا سوقيّة باعتبار قاعدة جمهورنا في التقيّد بنمط التغطية السائد غربيا، وإغراق المتابعين بخطابات المرشحين، أو الجري وراء التحقق من صحة تصريحاتهم وكأنها أصلا تُلقى من دون رغبة في التوجيه أو التضليل أحيانا، كذلك لا نجد أي مسوّغ تحريري للانغماس في ما بات يعرف بـ"حروب الثقافة"، وهي معارك لا غاية منها غالبا سوى إلهاء الجمهور عن قضايا أعمق، فضلا عن كونها معارك لا تعني جمهورنا في الجنوب العالمي.
ولأن وسائل الإعلام الغربية المهيمنة قد طَبَّعت تلك التشوهات الديمقراطية المتأصلة في نظام "المجمع الانتخابي"، فإنها غالبا ما ستتجاهل التركيز على قضايا تمسّ "التصويت الشعبي"، أي اختيار غالبية الناخبين، وستعدّها ذات أهمية ثانوية، بينما نؤمن بأنه من الضروري تسليط الضوء على هذه المسألة، التي توضّح أن ما يختاره غالبية الأمريكيين الذين شاركوا في التصويت، قد لا يكون هو العنصر الحاسم بالضرورة في اختيار رئيسهم، بخلاف الحاصل في معظم الديمقراطيات في العالم. لذا، حتى وإن كانت الآليات الدستورية الأمريكية القائمة على حكم الأقلية تفرز نتيجة مختلفة، فإننا نختار التركيز على ما اختاره الناس.
المراجع