لم تختلف التغطية المتحيزة للإعلام الغربي للأحداث في سوريا عن حرب الإبادة الجماعية في غزة؛ ذلك أنها كشفت بوضوح عن مدى التماهي مع الرواية الإسرائيلية، التي تُقدم بصورة منتظمة بوصفها حقيقة غير قابلة للنقاش. مع تصاعد الضربات الإسرائيلية على سوريا وتوغل الجيش الإسرائيلي في الأراضي السورية، تطورت أساليب التأطير الإعلامي، لتُركز على الأرقام العسكرية والإحصاءات الجافة، مع تجاهلٍ شبه تام للضحايا المدنيين والخسائر الإنسانية ومخالفة القانون الدولي.
سيتطرق هذا المقال إلى التغطية المنحازة التي تتعمد طمس المخاطر التي يتعرض لها المدنيون في سوريا نتيجة القصف الإسرائيلي على المواقع العسكرية للجيش السوري، من خلال أمثلة عشوائية من سي أن أن ونيويورك تايمز.
سي أن أن.. نجاح عسكري أم مأساة منسية؟
في تقرير حديث بعنوان يحيل على "القوة العسكرية"، تناولت سي أن أن الضربات الإسرائيلية على سوريا واصفةً إياها بالأكبر منذ عقود. عنوان التقرير وأسلوبه يعكسان محاولة لتسليط الضوء على "إنجازات عسكرية" إسرائيلية، بينما تغيب بصورة لافتة أي تفاصيل تتعلق بالخسائر البشرية أو الأضرار المادية التي لحقت بالمدنيين.
التقرير يُفصّل في تنفيذ 480 ضربة في يومين، استهدفت أكثر من 350 موقعا، من ضمنها مطارات وقواعد عسكرية ومنشآت دفاعية، ولكن بدلا من طرح الأسئلة الجوهرية بشأن تأثير هذه الضربات على السكان أو عرض السياق القانوني لتلك العمليات، ينصبّ التركيز على دقة الاستهداف. في المقابل، يختفي صوت المدنيين، ولا يُشار إلى مقدار الضرر المادي والمعنوي الذي لحق بالسوريين وسيلحق بهم لعقود. ثم تأتي الإشارة إلى تدمير البحرية السورية كليّا، ليُعرض ذلك كـ"نجاح عسكري"، من دون اعتبار لما يعنيه هذا الفعل من تعطيل كامل لمنظومة دولة ذات سيادة، مع غياب التساؤلات النقدية عن حقوق السوريين في الدفاع عن أنفسهم، أو التأثير الذي يُمكن أن تُحدثه تلك الضربات في مجتمعاتهم.
التقرير يُفصّل في تنفيذ 480 ضربة في يومين، استهدفت أكثر من 350 موقعا، من ضمنها مطارات وقواعد عسكرية ومنشآت دفاعية، ولكن بدلا من طرح الأسئلة الجوهرية بشأن تأثير هذه الضربات على السكان أو عرض السياق القانوني لتلك العمليات، ينصبّ التركيز على دقة الاستهداف. في المقابل، يختفي صوت المدنيين، ولا يُشار إلى مقدار الضرر المادي والمعنوي الذي لحق بالسوريين وسيلحق بهم لعقود.
تعمل لغة التقرير على تبسيط الانتهاكات العسكرية من خلال التكرار المستمر لعبارات مثل "إزالة خطر وقوع الأسلحة في أيدي المتطرفين"، ما يُمهد الطريق لإضفاء الشرعية على العمليات، متجنبا أي ذكر لانتهاكات القانون الدولي.
نيويورك تايمز.. التبرير والإخفاء
على النحو ذاته، يُبرز تقرير نيويورك تايمز السردية الإسرائيلية بوضوح. يُقدم التقرير عمليات القصف بأنها تهدف إلى "منع الجماعات المتطرفة من السيطرة على الأسلحة"، ويبرز إسرائيل بوصفها حامية للاستقرار، بينما تغيب مأساة المدنيين وخسارة ممتلكات الشعب السوري.
كذلك يركز التقرير على هوية القوة المسيطرة على الواقع السياسي والعسكري في سوريا؛ باعتبار أنّ هيئة تحرير الشام مصنفة مجموعة إرهابية، لشرعنة الهجوم الإسرائيلي على المنشآت العسكرية واحتلالها للأراضي السورية في خرق واضح للاتفاقيات الدولية.
ومع وجود تقارير 1 2 3 متفرقة تفيد بوجود ضحايا ومصابين من المدنيين في الهجمات المتكررة أو نتيجة الاعتداء المباشر على المدنيين المطالبين برحيل الاحتلال من أراضيهم، ومع غياب إحصاءات نهائية للضحايا، فإن ذلك يطرح أسئلة مهنية وأخلاقية عن المغزى من تغييب ذكر أعداد القتلى المدنيين نتيجة هذا الاعتداء أو غياب ذكر الخسائر المدنية الناجمة عنها أو حتى عدم وجود تصريحات لأهمية السلاح الذي دُمّر والذي هو من حق الشعب السوري.
- الأرقام بوصفها وسيلة لتبرير العنف:
يشير التقرير إلى أن إسرائيل نفذت 450 ضربة جوية منذ سقوط الحكومة السورية، مستهدفة عشرات المستودعات والقواعد العسكرية. ومع ذلك، لا نجد أرقاما عن الضحايا المدنيين أو حتى تقديرات لخسائر البنية التحتية إلا بشكل خجول في المقدمة؛ باعتبار أنّه لا توجد إحصاءات تبين حجم الخسارة التي تعرض لها الشعب السوري. - إطار قانوني غائب:
التقرير يشير إلى أن القوات الإسرائيلية احتلت مناطق في جبل الشيخ وأجزاء من الحدود السورية، ولكنه يقدم هذه الخطوات بوصفها إجراءات "مؤقتة"، متجاهلا حقيقة أن الاحتلال يُعد انتهاكا صارخا للقانون الدولي. لا يطرح التقرير أسئلة عن حقوق السوريين في أراضيهم، أو مدى قانونية الوجود الإسرائيلي في المناطق السورية المحتلة. - إخفاء المعاناة السورية:
مثلما هو الأمر في تقرير سي أن أن، يختفي في تقرير نيويورك تايمز صوت المدنيين السوريين. لا وجود لتفاصيل عن الأسر التي فقدت منازلها، أو الأطفال الذين قُتلوا في منازلهم. تُختزل الأزمة الإنسانية إلى مجرد أضرار هامشية، بينما يُمنح الجانب الإسرائيلي مساحة واسعة لتبرير عملياته. - التلاعب بالأرقام: أداة لصياغة الرواية
في كلتا التغطيتين، تُستخدم الأرقام بصورة تُبرز القوة العسكرية الإسرائيلية، ولكن من دون ربطها بالسياق الإنساني؛ فعندما يُذكر أن إسرائيل نفذت "480 ضربة خلال يومين"، أو استهدفت "350 موقعا"، تبدو هذه الأرقام كإحصاءات تقنية، مع إغفال حقيقة أن كل رقم يمثل مأساة إنسانية محتملة.
مثلما هو الأمر في تقرير سي أن أن، يختفي في تقرير نيويورك تايمز صوت المدنيين السوريين. لا وجود لتفاصيل عن الأسر التي فقدت منازلها، أو الأطفال الذين قُتلوا في منازلهم. تُختزل الأزمة الإنسانية إلى مجرد أضرار هامشية، بينما يُمنح الجانب الإسرائيلي مساحة واسعة لتبرير عملياته.
لا يكتفي الإعلام الغربي هنا بتجاهل الأبعاد الإنسانية، بل يستخدم الأرقام أداةً لصرف الانتباه عن المأساة. التركيز على دقة العمليات وحجم الإنجاز العسكري يهمش الضحايا المدنيين، الذين يُعدّون "تفاصيل غير ضرورية" ضمن الرواية الكبرى للنجاح العسكري الإسرائيلي.
صورة الضحية في الإعلام الغربي
تُظهِر التقارير الإعلامية لـ سي أن أن ونيويورك تايمز صورةً أحادية للضحية؛ إذ تُصور إسرائيل كجهة تسعى لحماية نفسها من "تهديدات الإرهاب"، بينما يُغيب المدنيون السوريون كليا عن السردية. لا نجد أي قصص إنسانية تُبرز حجم الألم والمعاناة، ولا إحصاءات تُظهر أثر الضربات على المستشفيات أو المدارس أو المنازل.
في هذا السياق، لا يبدو الإعلام الغربي فقط متحيزا، بل يبدو شريكا في تبرير هذا الاعتداء. عندما تُقدّم الضربات على أنها خطوات ضرورية لحماية الحدود، وعندما تُستخدم الأرقام وسيلة لإبراز الإنجاز العسكري، يتحول الإعلام إلى أداة في يد القوى المهيمنة.
لا يبدو الإعلام الغربي فقط متحيزا، بل يبدو شريكا في تبرير هذا الاعتداء. عندما تُقدّم الضربات على أنها خطوات ضرورية لحماية الحدود، وعندما تُستخدم الأرقام وسيلة لإبراز الإنجاز العسكري، يتحول الإعلام إلى أداة في يد القوى المهيمنة.
في تقرير نيويورك تايمز وسي أن أن تظهر التطمينات المتبادلة بأن نتنياهو لن يدخل دمشق وإنّما سيدمر أسلحة وقوة عسكرية هي من حق السوريين بمليارات الدولارات ليحمي "المدنيين الإسرائيليين" ممن سماهم بـ"المتطرفين"، وهو الراعي الكبير لحماية العالم بتدميره الأسلحة الكيماوية والصورايخ العابرة للقارات الموجودة في سوريا، بينما تتحدث عن أنّ الشرع قائد العمليات العسكرية لهيئة تحرير الشام لن يدخل في حرب مع إسرائيل لإضفاء بُعد للمقالات يوحي بأن الضربات التي نفذها جيش الكيان لن تكون لها تبعات مستقبلية على الأمن الإقليمي.
تُظهر التغطية الإعلامية الغربية انحيازا واضحا للرواية الإسرائيلية؛ إذ يُبرّر العدوان ويُصوّر بوصفه إجراء وقائيا، بينما يُغفَل الجانبان الإنساني والقانوني للأحداث. لا نجد توجهات مهنية لإبراز قصص المدنيين المتضررين، ولا تُناقَش قضايا جوهرية مثل انتهاكات القانون الدولي، أو الخسائر البيئية 5، أو حقوق السوريين في أراضيهم. هكذا يتخلى الإعلام الغربي عن دوره في الإخبار لصالح صياغة رواية القوى المهيمنة.
المراجع
1. Al Jazeera. (2024, November 5). Syria condemns deadly Israel air strikes on civilian sites near Damascus. Retrieved from https://www.aljazeera.com/news/2024/11/5/syria-condemns-deadly-israel-air-strikes-on-civilian-sites-near-damascus
2. Al Jazeera. (2024, March 29). More than 30 killed in Israeli strikes on Syria’s Aleppo: Reports. Retrieved from https://www.aljazeera.com/news/2024/3/29/more-than-30-killed-in-israeli-strikes-on-syrias-aleppo-reports
3. Al Jazeera. (2024, December 20). Israeli forces fire at Syrian protesters in Deraa, wounding one. Retrieved from https://www.aljazeera.com/news/2024/12/20/israeli-forces-fire-at-syrian-protesters-in-deraa-wounding-one
4. Dunia Al-Watan. (2024, December 18). نتنياهو يتفقد الوضع الأمني في قمة جبل الشيخ ويؤكد استمرار الوجود الإسرائيلي. Retrieved from https://www.alwatanvoice.com
5. (blinxnow. (2024). لقطات جوية تُظهر مشاهد صادمة من ميناء اللاذقية حيث خلفت الغارات الإسرائيلية سفنا غارقة ودمارا هائلا [مقطع فيديو]. Instagram. https://www.instagram.com/reel/DDpc4-Ao5LA