في أبريل/ نيسان من عام 2013، كلفتني إدارة الأخبار بقناة الجزيرة بإعداد سلسلة تقارير من البيرو في أمريكا الجنوبية إعمالا لعرف مهني أصيل كانت الجزيرة سباقة لتكريسه في العالم العربي ضمن رؤية تروم الانفتاح على العالم وتعريف المشاهدين بثقافاته وحضاراته.
كان إتقاني للغة الإسبانية ومعرفتي الجيدة بالمنطقة تاريخا وحضارة مدخلا مثاليا لهذه المهمة التي امتدّت لثلاثة أسابيع وكانت محطتها الأخيرة في نهر الأمازون شمال شرق البلاد في تخوم الحدود المشتركة مع كولومبيا والبرازيل.
تعرفت خلال هذه الرحلة على قبيلة الموروي التي بات نمط حياتها مهددا بالاندثار بسبب عمليات التنقيب عن البترول والغاز وجشع شركات الخشب.
في ختام يومين من التصوير، رصدنا فيها يوميات هذه القبيلة وعاداتها ومعاناتها في توفير لقمة العيش، لم يبق أمامنا سوى تصوير الوقفة أمام الكاميرا لتكتمل عناصر القصة. كان خيار تصويرها وسط القبيلة بين الناس أمرا بديهيا إذ ستكون امتدادا طبيعيا للقصة وسياقاتها، ولكنها بدت لي خيارا سهلا لا يقدم رؤية إبداعية، فاستقر الرأي بعد نقاش مع زميلي قاسم القاسمي، مدير التصوير بالجزيرة على تصوير الوقفة أمام الكاميرا مع ربط مضمونها بنهر الأمازون وأهميته الحيوية لهذه القبائل، ثم اقترح أحد الصيادين استعمال قاربه الخشبي، الذي هو عبارة عن جذع شجرة محفور.
قفزت إلى القارب بعد تثبيت الميكروفون اللاسلكي، وشرعت في التجذيف بينما كنت أتلو مضمون الوقفة أمام الكاميرا وهذا نصها: "متضاربة هي مشاعر سكان الأمازون حيال هذا النهر؛ فبقدر ما يرون فيه خيطا رفيعا يمدهم بأسباب الحياة، يتوجسون منه ريبة لما يحمله من مخاطر قادمة من اليابسة". كانت تلك من أحسن الوقفات أمام الكاميرا التي أنجزتها في مساري المهني.
في ختام يومين من التصوير، رصدنا فيها يوميات هذه القبيلة وعاداتها ومعاناتها في توفير لقمة العيش، لم يبق أمامنا سوى تصوير الوقفة أمام الكاميرا لتكتمل عناصر القصة. كان خيار تصويرها وسط القبيلة بين الناس أمرا بديهيا إذ ستكون امتدادا طبيعيا للقصة وسياقاتها، ولكنها بدت لي خيارا سهلا لا يقدم رؤية إبداعية.
السياق والمتن والمصداقية
تعد الوقفة أمام الكاميرا امتدادا موضوعيا للقصة التلفزيونية سواء الإخبارية منها أو الإنسانية، وهي بهذا المعنى قالب فني يختزل جوهر القصة بوضعها في سياقاتها أو يكملها متى تضمنت عناصر إخبارية ومعلومات لم يتسع المجال لذكرها في متن التقرير إلى جانب تعزيز مصداقية القصة وجاذبيتها. كذلك تتضمن إحالة إلى موقع الحدث ومنشأ القصة (Plateau de situation) وتشير إلى ذلك بوضوح التسمية الفرنسية للوقفة أمام الكاميرا.
وللوقفة أمام الكاميرا ضوابط تحريرية وفنية عديدة يجب مراعاتها؛ فعلى المستوى التحريري، من المهم تحري الوضوح والدقة في صياغة النص، بما يسمح للمتلقي بالإحاطة، لفظا ومعنى، بمحتوى التقرير حتى وإن فاتته مشاهدته من بدايته.
ولعل من المفيد هذا السياق، تقطيع الجمل، وتحاشي الجمل الطويلة، والحرص على خلوها من الأسماء الموصولة (التي، الذي..) قدر المستطاع على نحو يجعل منها كتلة رشيقة ومتناسقة، مع الحرص على الاختصار لأن الهدف في النهاية هو إثراء القصة بالمعلومات لا الاستعراض. كذلك ينبغي تجنب تكرار ما ورد في نص التقرير من معلومات والنأي عن أحكام القيمة وكل صياغة من شأنها أن تُفهم على أنها تعكس موقفا أو قناعة شخصية للمراسل.
ولعل من المفيد تقطيع الجمل، وتحاشي الجمل الطويلة، والحرص على خلوها من الأسماء الموصولة (التي، الذي..) قدر المستطاع على نحو يجعل منها كتلة رشيقة ومتناسقة، مع الحرص على الاختصار لأن الهدف في النهاية هو إثراء القصة بالمعلومات لا الاستعراض.
يمتلك المراسل حرية صياغة نصه بما يتناسب مع طبيعة القصة، وله أن يضمّنه اقتباسات أو إحالات بما يتماشى مع المضمون دون إسراف أو مبالغة. أما على المستوى الفني، فثمة محددات كثيرة تؤطر تسجيل الوقفة أمام الكاميرا.
هنا يبرز التحكم في لغة الجسد لضمان تناسب الشكل مع المضمون، وحسن اختيار الخلفية المناسبة باعتبارها عنصرا مكملا للقصة، وعلاوة على ذلك يفضل تجنب تسجيل الوقفة أمام الكاميرا حيث يكثر الضجيج (وسط المظاهرات الصاخبة، أو المسيرات الاحتجاجية، أو أصوات محركات العربات، أو إطلاق النار.. الخ) إلا في حالات استثنائية، بما يجعل صوت المراسل غير مسموع وهو ما يضطره في غالب الأحيان إلى رفع صوته بصورة منفرة تبعث على الإزعاج.
الوقفة الاستهلالية
يمكن للوقفة أمام الكاميرا أن تتخذ، من حيث الشكل، صيغا ونماذج فنية مختلفة.
يمكن في بعض الحالات أن تكون الوقفة أمام الكاميرا استهلالية؛ أي في مطلع التقرير الإخباري أو القصة الإنسانية، وهو أسلوب متبع خصوصا في القنوات الأمريكية وعلى نطاق واسع. ويتعلق الأمر باختيار فني صرف، وليس بالضرورة بقاعدة تحريرية يجب اتباعها بصورة ممنهجة. ولعل الغرض من مثل هذه الصيغة هو استفزاز فضول المشاهد وحثه على متابعة فصول القصة، وهي لا تنطبق بالضرورة على جميع القصص الإخبارية أو الإنسانية.
وفي هذه الحالة لا يجب تضمين الوقفة الاستهلالية كل العناصر الخبرية للقصة، بل بعضها فقط، تلافيا للتكرار ولضمان عنصر التشويق كما لو تعلق الأمر بعنوان النشرة الإخبارية؛ ذلك لأنها الواجهة التي تطل عبرها على القصة من خلال لغة مباشرة وواضحة. لكن ثمة من لا يتحمس كثيرا لهذه الصيغة على اعتبار أن ظهور المراسل في مطلع التقرير يجعل منه بطل القصة وليس القصة في حد ذاتها أو شخصياتها، كذلك ثمة من يرى فيها عنصر تشويش أكثر من كونها عنصر تجديد(1).
ويمكن أن تكون الوقفة الاستهلالية وصفية على نحو تستعرض فيه مكان القصة أو سياقاتها أو شخصيتها الرئيسة، مثل:" تظهر آثار القصف في كل مكان.. في جميع الزوايا والجدران.. وهذه الشظايا شاهدة على شراسة المعركة في باخموت".
في هذا المثال، اختارت المراسلة بدء تقريرها عن عمليات أمنية في دمشق بوقفة استهلالية وهي ترافق قوات الأمن، ما أضفى ميزة تشويق من شأنها شد انتباه المشاهد وحمله على متابعة ما تبقى من فصول القصة.
ثمة من لا يتحمس كثيرا للوقفة الاستهلالية على اعتبار أن ظهور المراسل في مطلع التقرير يجعل منه بطل القصة وليس القصة في حد ذاتها أو شخصياتها، كذلك ثمة من يرى فيها عنصر تشويش أكثر من كونها عنصر تجديد.
وقد تستوعب الوقفة الاستهلالية معلومات ومعطيات صرفة لتقودك إلى جوهر القصة منذ البداية من خلال استعراض بيانات أو أرقام، مثل: " سجلت في نيكاراغوا 384 حالة قتل للنساء منذ مطلع العام، ولم تجر السلطات التحقيقات إلا في 197 حالة فقط".
وضمن الخيارات المتاحة، بالإمكان كذلك البدء بسرد قصة مكان أو شخصية مثل: "كانت الضحية في طريقها الى أحد الفنادق حين اعترضها مسلحون مجهولون وأطلقوا عليها وابلا من الرصاص ولاذوا بالفرار".
وثمة الصيغة السردية التي تعتمد على سرد الأحداث وقصص الشخصيات بما يجعل المشاهد يستشعر أنه جزء من القصة مثل: "بعد تخلصه من خصومه وتعديل النظام الانتخابي، يبدو أن لا أحد سيقف في وجه مرشح الحزب الوطني".
الوقفة الارتجالية
ربما يتعلق الأمر بأقل أنماط الوقفات أمام الكاميرا استعمالا في التقارير التلفزيونية. ومرد ذلك إلى أن سياقات توظيفها تقتصر حصرا على التقارير ذات الصبغة الإخبارية الصرفة.
وفي مثل هذا النوع من الوقفات تحضر بديهة المراسل، وعليه أن يحسن التصرف والارتجال للاستفادة من لحظة عابرة قد لا تتكرر. وفي هذه الحالة، يتعين على المراسل ارتجال نص من وحي اللحظة لوضع المشاهد في الصورة إن تعلق الأمر مثلا بتغطية مظاهرات سلمية استعملت خلالها قوات الأمن العنف لتفريق المتظاهرين أو ساحة حرب، وهي مناسبات متقلبة بحكم طبيعتها ولا تسعف في صياغة نص وتدقيقه لغويا؛ لذلك ينبغي اعتماد لغة مباشرة تعتمد على الوصف.
في الأجواء المشحونة التي تلت الربيع الديمقراطي وسقوط نظام بن علي في تونس، كنت أغطي مظاهرة كبيرة في شارع الحبيب بورقيبة الذي يمثل مكانا رمزيا للثورة، قبل أن تتدخل قوات الأمن لتعنيف المتظاهرين. لم أجد طريقة أخرى سوى استخدام هذه الوقفة كخيار مهني مبني على اجتهاد لحظي.
الوقفة الختامية
قبل الوقفة الختامية هناك الوقفة الوسطية أمام الكاميرا أو البريدج BRIDGE (وهي نادرة) لتبرير الانتقال من موقع لآخر. ويضمن ظهور المراسل في وسط التقرير الانتقال السلس صوريا في ما بين محاور القصة. كما يمكن الاستفادة من البريدج للانتقال من محور إلى آخر والربط بين موضوعين.
أما الوقفة الختامية، فيظهر المراسل في نهاية التقرير ليجمل خلاصات القصة أو ليضيف معلومات لم ترد في متن التقرير. إجمالا لا يجب أن تتجاوز مدة الوقفة أمام الكاميرا الختامية ثلاثين ثانية في الحد الأقصى، وهي تختزل من حيث المبدأ الخطوط العريضة للقصة؛ فإذا شوهدت منفصلة عن التقرير يصبح مضمونها سهل الاستيعاب والإدراك، وإن كان لا يغني بطبيعة الحال عن مشاهدة التقرير كاملا، على أن اختيار موقع التصوير وتوقيتته وطريقته يشكل عناصر حاسمة من شأنها الإسهام في نجاح عملية التصوير.
يصلح هذا التقرير، عن استهداف حديقة الحيوانات من طرف الاحتلال الإسرائيلي في أثناء الحرب على غزة سنة 2009، أن يكون نموذجا جيدا نصا وصورة من الناحية المهنية المستندة إلى رؤية إبداعية.
تصوير الوقفة
لا أعتقد أنّ ثمة قاعدة عامة متفقا عليها بشأن طريقة تصوير الوقفة أمام الكاميرا؛ فهي مجال رحب مرتبط بظروف التصوير وموقعه وطبيعة القصة نفسها. فإذا كانت الوقفة أمام الكاميرا في التقارير الإخبارية نادرا ما تسمح بالاجتهاد وتوظيف الخيال، بسبب الطبيعة الاستعجالية للقصة الخبرية، فإن مجال الإبداع مفتوح على مصراعيه في التقارير ذات الصبغة الإنسانية Features stories.
والوقفة أمام الكاميرا على اختلاف أشكالها، ليست مجرد قطعة من التقرير الإخباري أو القصة الإنسانية يمكن تصويرها عشوائيا، بل هي الفقرة التي تعلق بذهن المشاهد أكثر من غيرها وتشكل بصمة المراسل الشخصية؛ لذلك ثمة قواعد من الضروري عدم إغفالها وأهمها تناسب موقع تصويرها مع مضمون القصة والتحكم في لغة الجسد.
طرق تصوير الوقفة أمام الكاميرا كثيرة، ولكن أكثرها شيوعا هي أن يكون المراسل في وضعية ثابتة مع خلفية تحيل على مكان الموضوع وطبيعته؛ كأن يكون مبنى الكونغرس في الخلفية حين يتعلق الأمر -على سبيل المثال- بتقرير يتحدث عن إقرار المجلس لتشريعات جديدة، أو برج إيفل في باريس في حال كانت القصة تعالج موضوعا عن فرنسا؛ على اعتبار أن برج إيفل هو المكان الأشهر في فرنسا... إلخ.
بيد أن الأهم هو استثمار روح المكان والإحساس به والتقاط تفاصيله وتوظيفه في تصوير الوقفة أمام الكاميرا. فإذا كان التقرير يتحدث عن الرياضة ومزاياها في تحسين الصحة، فيمكن للمراسل تصوير الوقفة أمام الكاميرا في قاعة رياضة بينما يتمرن أو في متنزه حيث يمارس الناس رياضة الجري أو المشي، وفي هذه الحالة يجب أن يتناسب الهندام مع طبيعة القصة إذ لا يجوز أن يكون المراسل مرتديا لبذلة رسمية بينما الطبيعي هو أن يرتدي زيا رياضيا.
ومن باب التنويع يستحسن تجنب اللقطة الثابتة لدى تصوير الوقفة أمام الكاميرا لإضفاء الحيوية عليها والحفاظ على توازن إيقاع التقرير؛ فعلى سبيل المثال يستطيع المراسل أن يصور الوقفة أمام الكاميرا جلوسا أو وقوفا أو وهو يتمشى في السوق إن كانت القصة تلامس -على سبيل المثال- ارتفاع الأسعار أو نقصا في المواد الغذائية، أو على متن قارب إن كانت القصة تتعلق بالصيد.
كذلك إن الوقفة أمام الكاميرا هي أفضل اختبار لحالة التناغم بين المراسل والمصور؛ لأن دور المصور مؤثر في اختيار الزوايا واقتراح شكل الوقفة أمام الكاميرا، ومن المطلوب تغيير زاوية التصوير لتجنب السقوط في دائرة التكرار والرتابة البصرية.
إن الوقفة أمام الكاميرا هي أفضل اختبار لحالة التناغم بين المراسل والمصور؛ لأن دور المصور مؤثر في اختيار الزوايا واقتراح شكل الوقفة أمام الكاميرا، ومن المطلوب تغيير زاوية التصوير لتجنب السقوط في دائرة التكرار والرتابة البصرية.
هكذا، فإن المصور المهني الذي يتقن لغة الصورة ويحسن اختيار الزوايا، بإمكانه ترجمة الفكرة إلى صورة، ويتحول الى شريك فعال في إنتاج تقارير مميزة. وفي هذا السياق، وعلاوة على تصوير الوقفة أمام الكاميرا في حالة حركة، يمكن توظيفzoom in وzoom out كلما تطلب الأمر ذلك أو تصوير الوقفة أمام الكاميرا أو ما يعرف في المدرسة الفرنسية للسمعي البصري Raccord en movement وذلك من خلال لقطتين wide and medium shot.
وفي الآونة الأخيرة، وبظهور تقنيات جديدة، باتت الطائرات المسيرةDrones تتيح خيارات فنية مميزة لتصوير الوقفات أمام الكاميرا بصورة غير تقليدية ومبهرة في التقارير الإنسانية والخبرية على حد سواء.
إن الوقفة أمام الكاميرا هي جزء أصيل من التقرير واختبار حقيقي لقدرات المراسل أمام الكاميرا في بيئة لا تخلو في كثير من الأحيان من التعقيدات، سواء تلك المرتبطة بطبيعة القصة نفسها أو بعوامل خارجية لا يمكن التنبؤ بها أو التحكم في مسارها، وهي أيضا امتحان لقدرته على التحكم في لغة الجسد وصياغة نص مقتضب يختزل جوهر القصة بلغة مبسطة من دون السقوط في الإسفاف والابتذال، مع اختيار الإطار أو الخلفية المناسبة التي تخدم التقرير وتعزز مصداقيته في عيون المشاهدين.
المراجع
(1)نموذج من المقدمات الاستهلالية الناجحة للزميل محمد البقالي: https://youtu.be/MWstaVV-qb4?si=tvXHGKdnjh23T6HQ