يخترق صوت مسيّرة "كواد كابتر" الأجواء، وبعد ثوانٍ يقف مصعب بين قنبلة انفجرت فأصابت صديقه الصحفي فادي بالشلل، وبين موت يحدق به هو الآخر وينجو منه بأعجوبة!
وسط أهوال الحرب يعلو صوت الناشط مصعب الشريف واصفًا مرارة الحرب في غزة، ونجاعة أن تكون مواطنًا صحفيًا فيها! يقول مصعب: "أدركت أن العالم لن يرى معاناتنا ما لم نوثقها بأنفسنا، هذه ليست مجرد كاميرا، إنها صوت غزة المكلوم".
مع بداية نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، تصاعدت وتيرة حرب الإبادة الجماعية التي شنها الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، ما أجبر عددا من الصحفيين والمؤسسات الإعلامية على مغادرة شمال القطاع والتوجه نحو جنوب وادي غزة، حيث صُنّفت بعض المناطق على أنها "أكثر أمانا".
وفي الأيام الأولى من الحرب، كان استهداف الصحافة واضحا ومتعمدا، فقد تعرضت مكاتب صحفية للقصف على الهواء مباشرة، وأسفر ذلك عن مقتل عدد من الصحفيين. هذا الواقع دفع المؤسسات الإعلامية للنزوح حفاظا على أرواح العاملين فيها، متسببا في شبه غياب للتغطية الإعلامية نتيجة انتقال معظم الصحفيين إلى جنوب القطاع، وتسبب هذا الغياب في حجب الصورة عن العالم بشأن الجرائم والمجازر التي ارتُكبت.
في ظل التحديات التي تواجه الصحافة التقليدية في مدينة غزة والشمال، اضطر المواطنون، ولا سيما من يمتلكون هواتف ذكية مدعومة بشرائح الإنترنت الإلكترونية "Esim" إلى توثيق الأحداث ونقلها بالصور ومقاطع الفيديو. جاء ذلك بعدما عمد الاحتلال إلى قطع خطوط الاتصالات والإنترنت، ما جعل من المواطنين مصدرا رئيسا للأخبار في شمال القطاع.
على هذا الأساس، برزت"صحافة المواطن" بوصفها وسيلة حاسمة لسد الفجوة الإعلامية ونقل الحقيقة، وأصبح الأفراد يوثقون الأحداث ويبثونها مباشرة عبر منصات التواصل الاجتماعي، لتصل أصواتهم إلى العالم رغم كل محاولات التعتيم.
وتحولت عدسات المواطنين العاديين إلى أدوات مقاومة ، توثق الجرائم التي يرتكبها الاحتلال بحق السكان، وأصبح شمال القطاع مسرحا للعنف والتدمير. وأدرك السكان في تلك اللحظات أن مسؤولية إيصال صوتهم إلى العالم تقع على عاتقهم وحدهم.
حمل المواطنون الكاميرات والهواتف لتوثيق كل لحظة من لحظات الحرب، ملتقطين مشاهد الدمار والقتل، ولا سيما أن إسرائيل تمنع دخول الصحفيين إلى قطاع غزة، لتصبح صحافة المواطن نافذة لا غنى عنها، تسرد قصصًا مأساوية من عمق المعاناة، وتكشف الحقيقة التي يسعى الاحتلال إلى طمسها بكل الوسائل.
ما هي "صحافة المواطن"؟
صحافة المواطن هي "اشتراك المواطن في نقل الصورة والأحداث واضطلاعه بدور الصحفي، حتى وإن كان لا يحمل شهادة الصحافة والإعلام، باستخدام أدوات بسيطة مثل كاميرا الهاتف وغيرها من الأدوات المتاحة للمواطنين العاديين".
يرى محسن الإفرنجي، أستاذ الصحافة، أن "صحافة المواطن ظاهرة مهمة، وقد تطورت على المستوى العربي خصوصًا بعد الربيع العربي"، مبرزا أن كل ما يلزم المواطن الصحفي هو "امتلاك هاتف بيده يستطيع التقاط صورة وكتابة منشور عبر منصات التواصل الاجتماعي، وبذلك يمارس العمل الصحفي لكن بمعايير ليس بالضرورة أن تكون مهنية". لقد أثبتت حرب الإبادة الجماعية على غزة، حسب الإفرنجي، قدرة المواطن على نقل الصورة مباشرةً من الميدان إلى غرف الأخبار.
في الميدان
خلال حرب غزة برزت مجموعة من الناشطين الشباب، بوصفهم وجوها لامعة على منصات التواصل الاجتماعي، أصبحوا صوتا حيّا ينقل تفاصيل القتل والنزوح والتشريد الذي يعيشه أهل القطاع يوميا. ومن هذه الأسماء عبود بطاح، الذي تميز بأسلوبه العفوي في تغطية الأحداث من قلب الشمال المحاصر.
تعرض عبود للتوقيف من قبل قوات الاحتلال لمدة 8 ساعات؛ إذ هدده الجنود بالقتل والدفن بسبب الفيديوهات والصور التي كان يوثقها عبر حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي التي كانت تعكس واقعا مريرا يعيشه الغزيون، هذا ما صرح به عبود على صفحته على إنستغرام.
خلال حرب غزة برزت مجموعة من الناشطين الشباب، على منصات التواصل الاجتماعي، أصبحوا صوتا حيّا ينقل تفاصيل القتل والنزوح والتشريد الذي يعيشه أهل القطاع يوميا. ومن هذه الأسماء عبود بطاح، الذي تميز بأسلوبه العفوي في تغطية الأحداث من قلب الشمال المحاصر.
كذلك ظهر الناشط مصعب الشريف بوصفه أحد أبرز وجوه صحافة المواطن في غزة، بعد أن وثق عددا كبيرا من الصور ومقاطع الفيديو التي لاقت انتشارا واسعا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، حتى تجاوز بعضها ملايين المشاهدات.
يقول مصعب: "أدركت أن العالم لن يرى معاناتنا ما لم نوثقها بأنفسنا، هذه ليست مجرد كاميرا، إنها صوت غزة المكلوم".
يسرد مصعب تفاصيل وصفها بالمرعبة، حينما كان يقف بجانب صديقه الصحفي فادي الوحيدي، والعدسة توثق مشاهد الدمار من حولهما، فجأة! اخترق صوت مسيرة "كواد كابتر" الأجواء، قبل أن تُسقط قنبلة على مقربة منهما، ليتحول المكان إلى كتلة من الدخان والغبار.
ويتابع بصوت يملؤه الأسى: "كانت القنبلة على بُعد سنتيمترات مني، شعرت حينئذ بأن الموت أقرب من أي وقت مضى. نجوت بمعجزة، لكن فادي أصيب بشلل كامل بعد أن اخترقت شظية رقبته واستقرت بها".
مع ازدياد حجم الجرائم الإسرائيلية ومحاولات التضليل الإعلامي التي يشنها جيش الاحتلال، تحولت هواتف هؤلاء الناشطين إلى أدوات تفضح الاحتلال وتنقل صوت المحاصرين إلى العالم، مؤكدين أن التكنولوجيا والعزيمة قادرتان على كسر الحصار الإعلامي.
لكن انقطاع الكهرباء والانترنت، ونقص المعدات، ومحاولات التضييق المستمرة، كانت تحديات توازي الخطر المحدق بالمواطنين الصحفيين في حرب غزة.
تحديات المواطن الصحفي في غزة:
- الخطر على الحياة:
تعرض المواطنون الصحفيون للاستهداف المباشر في أثناء تصويرهم للأحداث. كان بعضهم يوثق القصف بينما تتساقط القذائف حولهم، واضعين حياتهم على المحك لنقل الصورة الحقيقية. - نقص الإمكانات:
معظم الأدوات المستخدمة كانت عبارة عن هواتف محمولة قديمة أو كاميرات صغيرة، مع ذلك نجحوا في توثيق الأحداث بجودة كافية لنقلها عبر وسائل الإعلام الدولية. - انقطاع الخدمات:
فرض الاحتلال قيودا مشددة على الإنترنت والكهرباء، ما صعّب عملية رفع المواد الإعلامية أو نقلها بسرعة. - غياب التدريب الصحفي:
معظم المواطنين الذين انخرطوا في التوثيق لم يتلقوا تدريبا على إعداد التقارير أو التصوير الاحترافي، لكن عفويتهم ومصداقيتهم منحت موادهم تأثيرا استثنائيا.
لقطاتٌ تصور الأطفال المحاصرين تحت الركام، عائلات بلا مأوى، وجثث تحت الأنقاض، كلها كانت جزءا من سردية نجح المواطنون الصحفيون في نقلها لتواجه آلة الإعلام الإسرائيلي. هذه المواد لم تكن مجرد توثيق للانتهاكات، بل أسهمت في تدويل القضية الفلسطينية، ودفعت العديد من المنظمات الحقوقية والإعلامية إلى التحرك. لقد أصبحت الكاميرات البسيطة أدوات مقاومة فعالة، تكشف زيف رواية الاحتلال وتؤكد عدالة القضية الفلسطينية.
أسهم عمل المواطنين الصحفيين في تدويل القضية الفلسطينية، ودفعت العديد من المنظمات الحقوقية والإعلامية إلى التحرك. لقد أصبحت الكاميرات البسيطة أدوات مقاومة فعالة، تكشف زيف رواية الاحتلال وتؤكد عدالة القضية الفلسطينية
مصدر للإعلام الدولي
رغم قلة خبرتهم، تمكن المواطنون الصحفيون في غزة من التعاون مع عدد من وسائل الإعلام الدولية. الفيديوهات والتقارير التي أعدوها بثتها قنوات كبرى مثل الجزيرة ووسائل إعلام غربية، ما أثبت قدرة هذه المواد على إحداث تأثير عالمي واسع.
أصبحت وسائل الإعلام تعتمد بصورة متزايدة على صحافة المواطن بوصفها مصدرا لا غنى عنه، خصوصا في المناطق التي تعجز فرقها عن الوصول إليها. هذه الشراكات أسهمت في تسليط الضوء على حجم المأساة الإنسانية في غزة، وفي الوقت ذاته مكنت الصحفيين المواطنين من إيصال رسائلهم إلى جمهور عالمي.
عبد الله شهوان، الذي كان يعمل في مجال التصميم والمونتاج قبل الحرب، وجد نفسه أمام "واجب وطني وأخلاقي"، موثقا جرائم الاحتلال باستخدام كاميرا هاتفه، وسرعان ما أصبحت مشاهداته مصدرا لعدد من وكالات الأنباء، قبل أن ينضم مصورا مع قناة الجزيرة مباشر.
يقول عبد الله: "بعد نزوح العديد من الصحفيين، بدأت في توثيق ما نمر به رغم خطورة الحركة والتنقل. كنت أعمل بأقل الإمكانات، وفي كثير من الأحيان كنت أستلف معدات من زملائي بعد انتهاء عملهم لإكمال تغطيتي".
تميزت صحافة المواطن خلال تغطية طوفان الأقصى بدورها الحيوي في إيصال معلومات للنازحين عن أحوال بيوتهم وشوارعهم وأقاربهم في الشمال. أخذ بعض الناشطين على عاتقهم تصوير الشوارع والمحلات والأسواق الشعبية لأصحابها، علاوة على توثيق الجرائم المروعة التي وقعت في أماكن مثل مستشفى الشفاء والمستشفى المعمداني. في كثير من الأحيان، وصل صوت صراخ الجرحى إلى العالم قبل أن تصل الصحافة التقليدية إلى مواقع الأحداث.
اعتمدت القنوات الإخبارية والمنصات الرقمية على الصور ومقاطع الفيديو التي التقطها المواطنون في الشمال والجنوب، وهم يوثقون الحياة اليومية تحت القصف وفي الخيام. مشاهد تنقل بكاء طفل يتضور جوعا، أو أمنية طفلة في العودة إلى الشمال حيث والدها المحاصر، أو أم تودع عائلتها التي استشهدت قبل أن تعود إلى خيمتها لتكمل طبختها. كانت قصصا إنسانية مؤثرة نقلت رسالة أهل غزة بصدق وعفوية.
اعتمدت القنوات الإخبارية والمنصات الرقمية على الصور ومقاطع الفيديو التي التقطها المواطنون في الشمال والجنوب، وهم يوثقون الحياة اليومية تحت القصف وفي الخيام.
صحافة المواطن أصبحت عدسة الشعب التي لا تُغلق. بجهود بسيطة وأدوات متواضعة، تمكن المواطنون الصحفيون من توثيق المآسي وإيصال الحقيقة للعالم. أثبتوا أن الحقيقة لا يمكن طمسها، وأن صوت الشعب، مهما حاول الاحتلال إسكاتَه، سيظل يجد طريقه إلى العالم. في كل صورة ومقطع فيديو من غزة، كانت الرسالة واضحة: "نحن هنا، وهذه هي الحقيقة التي لا يمكن إنكارها".