أعادت عملية "ردع العدوان" العسكرية التي أطلقتها فصائل من المعارضة المسلحة، على رأسها هيئة تحرير الشام، ضد النظام في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني، الشأن السوري إلى الواجهة بعد سنوات من التواري. وفي الوقت نفسه، تصدّرت الادّعاءات المتعلقة بهذا الحدث منصات التحقّق العربية والأجنبية، لما رشح عن تبعات العملية من أخبار كاذبة ومضلّلة، انبرت لها إلى جانب منصات التحقق مواقع وحسابات جعلت شغلها الشاغل تفنيد الشائعات ودحض الأخبار الكاذبة.
كان تركيز المنصات العربية قبل هذا التاريخ منصبّا على حرب الإبادة الجماعية في فلسطين وحرب لبنان، وما يصدر من ادّعاءات تبثّها الماكينة الإعلامية الموالية لإسرائيل، حتى إن المنصات السورية والناشطين السوريين تحديدا تناولوا بكثرة ما ينسب إلى فلسطين ولبنان من صور وفيديوهات صُوّرت سابقا في سوريا، ولكن سقوط نظام الأسد وما أعقبه من أحداث أبعدهم فعليا عن الأمر وجعل تركيزهم كاملا ينصب على تفنيد الشائعات المتعلقة بالشأن السوري.
ومن خلال المتابعة، يُلحظ أن مؤسسات إعلامية كبرى وصحفيين يشهد لهم بالدقة في النقل قد وقعوا في تداول المعلومات المغلوطة، بسبب تسارع الأحداث وكثرتها؛ إذ إن مقاتلي المعارضة بعد أن سيطروا على حلب انطلقوا نحو بقية أرياف إدلب وسيطروا عليها، ولم توقفهم إلا أيام قليلة حتى وصلوا حماة وحمص والعاصمة دمشق. يضاف إلى ذلك عدم تأثر شبكات الكهرباء والاتصالات بالقتال، وكسر حاجز الخوف لدى السوريين بسبب التقدّم السريع للمعارضة، ما نتج عنه كثافة في النشر من قبل شريحة كبيرة لم يكن متاحا لها ذلك قبل سقوط النظام.
للشأن السوري خصوصية فريدة، ولا سيما فيما يرتبط بالأخبار المضللة؛ إذ إن نشر أي خبر أو صورة أو تسجيل مصور بشكل مضلل، قد يتسبب في إراقة كثير من الدماء لخصوصية البلاد العرقية والطائفية، إلى جانب ما سببته سنوات الحرب من شرخ كبير بين هذه المكونات. لقد جعلت هذه الأسباب تدقيق الحقائق لدى الصحفيين عملا إنسانيا لا يقلّ أهمية عن نقل المعاناة وتسليط الضوء على مكامن الفساد.
للشأن السوري خصوصية فريدة، ولا سيما فيما يرتبط بالأخبار المضللة؛ إذ إن نشر أي خبر أو صورة أو تسجيل مصور بشكل مضلل، قد يتسبب في إراقة كثير من الدماء لخصوصية البلاد العرقية والطائفية، إلى جانب ما سببته سنوات الحرب من شرخ كبير بين هذه المكونات.
انفلات الشائعات
يتفق القائمون على منصات تأكد وفارق وTrue Platform على أن حجم الأخبار الكاذبة التي تبعت سقوط نظام بشار الأسد لم يكن متوقعا. يقول المدير التنفيذي لمنصة "تأكّد" أحمد بريمو إن "المنصة تأسست عام 2016، ومنذ ذلك التاريخ واكبت العديد من الأحداث الكبرى على المستوى السوري والعربي والعالمي، لكن فريقنا لم يشهد سيلا من الأخبار المضللة كالذي نواجهه الآن".
لا يستبعد بريمو أن تكون هذه الأخبار المضللة تندرج ضمن حملة، تقف خلفها جهات مثل "الجيش السوري الإلكتروني" الذي يعدّ أحد أخطر الأجسام الموالية للنظام، وكان له سوابق عديدة بشنّ هجمات إلكترونية على المعارضة، ويرى أيضا أن كسر حاجز الخوف لدى السوريين أسهم أيضا في سهولة انتشار الأخبار الكاذبة وسرعتها؛ إذ بات الجميع ينشر من دون رقيب، يضاف إلى كل ذلك الفراغ الذي تركه هروب بشار الأسد وكبار المسؤولين، وتوقف أهم المصادر الرسمية عن النشر ولا سيما وكالة "سانا".
أخطر ما واجهه فريق التحقق تلك الادّعاءات المتعلقة بالتخويف الديني الطائفي، كالتي تتحدّث عن نية فرض الحجاب، ومنع غير المحجبات من التجوّل، إضافة إلى التأجيج الطائفي والترويج للانتقام.
ويحمّل الصحفي السلطة الجديدة مسؤولية وضع حد لهذه الشائعات من خلال الإعلان عن مواقعها الرسمية، ونشر كل ما هو رسمي عليها. ويرى في الوقت نفسه أن هوية السلطة الجديدة وتاريخها فتحت التكهنات حولها من قبل العديد من روّاد مواقع التواصل ووسائل الإعلام العربية والعالمية، التي لعب بعضها دورا في بث الشائعات، وهنا يشير إلى التحقيق الذي عملت عليه المنصة وكشف هوية ضابط لدى النظام، أجرت معه شبكة سي أن أن مقابلة على أنه أحد الناجين من الاعتقال.
يتحدث بريمو عن إستراتيجية جديدة اتبعتها "تأكّد" أخيرا بسبب سيل الأخبار الكاذبة، فقد لجأت إلى النشر أولا بأول على حسابات التواصل الاجتماعي، من دون النشر على الموقع الإلكتروني، وذلك اختصارا للوقت، وللحد من انتشار الشائعات بين متابعي المنصة، ويضيف سببا آخر هو أن أكثر المتأثرين بالشائعات يعيشون في سوريا حيث شبكة الإنترنت الضعيفة لا تمكن المتابعين من فتح الموقع الإلكتروني.
أكثر ما يخشاه المدير التنفيذي لـ"تأكّد" هو الانجرار وراء الشائعات التي قد تؤدي إلى أعمال انتقامية، وينصح روّاد مواقع التواصل والصحفيين بالتشكيك في كل ما يأتي أمامهم من أخبار وتسجيلات وصور، وعدم البناء عليها حتى الرجوع إلى المصادر الرسمية ومقاطعة المصادر الأولية بمصادر أخرى، أهمها المصادر المحلية التي تكون على دراية كبيرة بتفاصيل الحدث، محذرا في الوقت نفسه من بعض المؤسسات الإعلامية التي لها أجندات خاصة، وبخاصة تلك التي تناصر الحكومات الدكتاتورية وكانت تقف ضد ثورات الربيع العربي؛ فهي اليوم تخوض حربا لتشويه صورة المعارضة بعد سقوط النظام، وهدفها إثبات صحة وجهة نظرها، وفقا لتعبيره.
ينصح روّاد مواقع التواصل والصحفيين بالتشكيك في كل ما يأتي أمامهم من أخبار وتسجيلات وصور، وعدم البناء عليها حتى الرجوع إلى المصادر الرسمية ومقاطعة المصادر الأولية بمصادر أخرى، أهمها المصادر المحلية التي تكون على دراية كبيرة بتفاصيل الحدث.
الشائعات ذات مصدرين داخلي وخارجي
يرى الصحفي والمدير المشارك في منصة "فارق" غياث الجندي أن فريقهم بدأ المعركة مبكرا؛ إذ "شعر بالهجمة قبل سقوط النظام، عندما بدأت منصات وحسابات تروّج لمساعدات عسكرية روسية وإيرانية وعراقية لقوات النظام، وفي الوقت نفسه كانت هذه الحسابات والمواقع تنفي تقدّم المعارضة في مدينتي حماة وحمص، وأرياف درعا ودمشق".
كل ما سبق من شائعات لا يراها الجندي خطرة، ويشير إلى أن أخطر ما واجهه الفريق تلك الادّعاءات المتعلقة بالتخويف الديني الطائفي، كالتي تتحدّث عن نية فرض الحجاب، ومنع غير المحجبات من التجوّل، إضافة إلى التأجيج الطائفي والترويج للانتقام، مؤكّدا أن مثل هذه الشائعات تجبر كثيرين على التمترس، وشنّ هجمات استباقية مبنية على دعاية جهات مغرضة، قد يقف وراءها فلول النظام السابق، وفقا لقوله.
يرجّح المسؤول في منصة "فارق" فكرة نظرية بوجود حملة من قبل أطراف خارجية وداخلية مستفيدة من خلق الفوضى، ولا سيما عند نشر شائعات تتحدّث عن اغتيال علماء في الكيمياء والدين والطب، لافتا إلى أن مثل هذه الأخبار كان لها أثر بالغ في الشارع، "ولكن يبدو أنّها صيغت على عجل من قبل الجهة صاحبة الادّعاء، ما سهّل عملية نفيها وتفنيدها، يضاف إلى ذلك تلك الأخبار المتعلقة بدعم إسرائيل لمقاتلي "هيئة تحرير الشام"، وهذا الجانب كان موجّها للعرب خصوصا، من أجل تأليب الشارع العربي على المعارضة السورية".
أما المدير التنفيذي لـ"True Platform" حمزة همكي فيقول إن "حجم الادّعاءات المضلّلة التي تلت سقوط نظام بشار الأسد، شكل صدمة عند المتخصصين في مجال تدقيق المعلومات، وحتى عند غير المختصين في بعض الأحيان، وكانت ثمة دعوات للتريث لأن اللحظة تتعلق بمصير البلد قبل كل شيء".
ويعتقد همكي أن مناطق شمال شرقي سوريا التي تسيطر عليها "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) لم تكن مستثناة مما جرى في بقية المناطق السورية. ويضيف "خلال تغطيتنا لاحظ الفريق أن معظم الأخبار المضللة تنشرها صفحات وحسابات رديفة لأطراف النزاع في مختلف المناطق، كما كان من اللافت أن صحفيين، ووسائل إعلام سورية وعربية، وقعوا ضحية للتضليل ونشر معلومات من دون التحقق منها، ولا سيما فيما يتعلق بالصراع بين "قسد" وقوى المعارضة.
ويرى المدير التنفيذي لـ"True Platform" أن هناك سببا آخر أسهم بصورة كبيرة في انتشار الأخبار المضللة، وهو السعي المحموم من قبل رواد مواقع التواصل وبعض المؤسسات وراء كسب التفاعل؛ فأي خبر سوري بات محلّ بحث ومتابعة من قبل جميع المهتمين بالصراع في المنطقة.
لا يبدو أن انتشار الشائعات المتعلقة بالشأن السوري سيتراجع في المستقبل القريب، ما يجعل من الضروري التعامل معها بحذر واعتماد التشكيك والحس النقدي في كل ما يُنشر. يظل الوعي والمسؤولية، سواء على الصعيد الفردي أو الجماعي، الركيزة الأساسية للتصدي لهذه الظاهرة.