منذ بدء حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، بات العمل الصحفي في القطاع محفوفاً بالموت في واحدة من أعقد البيئات الجغرافية والسياسية والأمنية. وفي مواجهة هذا الموت يخوض الصحفيون المستقلون – أو من يُعرفون بـ"الفري لانسر" – معركة مزدوجة؛ معركة نقل الحقيقة في ميدان لا تتوانى فيه إسرائيل عن استهداف أي مدني، ومعركة إثبات الذات في ظل غياب الهيكل المؤسسي وانعدام مظلة الحماية القانونية والنقابية التي تكفل لهم أبسط حقوقهم الصحفية بحسب ما تنص عليه المعاهدات والاتفاقيات الدولية ذات الصلة.
وعلى الرغم من النصوص الواضحة لهذه المواثيق الدولية - كاتفاقية جنيف الرابعة والبروتوكول الإضافي الأول - التي تؤكد على حماية الصحفيين أثناء النزاعات والحروب باعتبارهم مدنيين؛ إلا أن الواقع العملي يكشف عن اختلال فادح في تطبيق تلك الحماية.
ويزداد هذا الخلل وضوحا حين يتعلق الأمر بالصحفيين المستقلين غير المنتسبين إلى مؤسسات إعلامية معترف بها؛ إذ يُستثنَون من لوائح التأمين والتعويضات، ولا توفر لهم معدات سلامة مهنية رغم أنهم يؤدون المهام ذاتها التي يقوم بها زملاؤهم ممن ينتسبون لمؤسسات إعلامية، ويتعرضون للمخاطر عينها التي يواجهونها أثناء التغطية.
هذا التناقض يبرز في أوضح صوره في قطاع غزة؛ حيث قتلت إسرائيل أكثر من 245 صحفياً منذ بدء الحرب من بينهم عدد كبير من الصحفيين المستقلين الذين قضوا أثناء تغطيتهم للأحداث دون أن يكونوا مُسجلين رسمياً في نقابة الصحفيين أو أي إطار مؤسسي آخر. ويجد الصحفيون المستقلون أنفسهم في مواجهة واقع معقّد تتداخل فيه ثغرات قانون العمل مع هشاشة الوضع المعيشي الذي فرضته إسرائيل، ويزيده وطأة تجاهل المؤسسات الإعلامية لحقوقهم ما بعد الاستشهاد أو الإصابة، لتغيب عنهم بذلك كل ضمانات الحماية أو الإنصاف.
من جهة أخرى، وفي واقع مأساوي يعيش فيه الصحفي بصفته جزءا من الخبر لا مجرد ناقل له وحسب، يجد نفسه هدفا مستباحا أمام آلة القتل الإسرائيلية التي بات يرعبها "الدرع الصحفي" ويعطيها الضوء الأخضر لتصفية من يرتديه.
ومع ذلك، يتشبث الصحفيون والصحفيات في غزة بمهنتهم ويواصلون التغطية، مع استمرار غياب الحماية الدولية لهم بصفتهم مدنيين وتذبذب مصادر الدخل، فضلا عن منع دخول معدات السلامة الصحفية وتعرضهم للتجويع الذي يهدد حياتهم بشكل يومي. وبالموازاة، مع ازدياد حجم الخطر على أرواحهم أثناء التغطية في الميدان قررت إسرائيل استباحة دم كل صحفي يقف أمام الكاميرا أو خلفها لأنه ببساطة يفضح جرائمها. ورغم هذا القهر والتهديد الدائم بالموت، يبقى السؤال الأكثر إلحاحًا: ما الذي يدفع الصحفي الفلسطيني إلى مواصلة قرع جدران الخزّان، حتى وهو يدرك أن العالم يتجاهل صوته؟
المصوّر الصحفي رمضان أبو سكران (32 سنة) من شمال قطاع غزة الذي يعمل بشكل مستقل مع عدد من المواقع الصحفية يحاول أن يجيب عن هذا السؤال: "نحن نعمل بلا تأمين أو غطاء من أي جهة رسمية، رغم المخاطر التي نواجهها يومياً في ظل الأوضاع الأمنية والاقتصادية المعقدة التي تحيط بنا في غزة" موضحا أن هذا الواقع يعود لطبيعة الظروف السائدة في القطاع؛ إذ إنّ البيئة غير المستقرة لا تتيح غالباً فرصاً للعمل ضمن أطر آمنة أو بضمانات كافية، لا سيما للصحفيين العاملين بنظام القطعة، خصوصاً المصورين."
أمّا سها سكر (27 سنة) المتخصصة في إنتاج القصص الإنسانية فتؤكد أن غياب التأمين الرسمي والحماية المهنية لا يشكلان عائقاً أمام التزامها بمهمتها الصحفية، ذلك أن "سوق العمل في غزة يعاني من نقص حاد في الوظائف الثابتة والضمانات حتى في ظل الأوضاع العادية، فكيف الحال في الظروف الاستثنائية الحالية".
هذه التحديات تتعقد أكثر وفقا لما قاله الصحفي باسل أبو جعرور (28 سنة) حيث "إنّ معظم جهات التشغيل من الوكالات والقنوات العاملة في تغطية أحداث الحرب على غزة لا تقدم أي خدمات تتعلق بحماية المتعاونين معها أو التأمين على حياتهم وسلامتهم. وفي حال طلب الصحفي المستقل أي ضمانات من هذا النوع تنسحب هذه الجهات من اتفاق التعاون." ويرى أن كثرة الصحفيين المستقلين العاملين بنظام القطعة يساعد هذه المؤسسات في التخلي عنهم بسهولة والبحث عن غيرهم، خاصة أن معظم من يعملون معهم يفتقرون إلى أبجديات السلامة المهنية وأصول التوظيف، أو الأحكام التي تحكم علاقتهم بالجهة المشغلة من حقوق قانونية ومهنية، ومعظم الذين انطلقوا في ميدان العمل الصحفي خلال الحرب الجارية جاؤوا من خلفيات وتخصصات غير الصحافة، وهو ما يشي بقصور كبير على مستوى الوعي بهذه الأحكام".
أمّا أسيل مطر (25 سنة) التي تعمل مصورة ومراسلة في قناة إمي تي في الجزائرية، إلى جانب عملها المستقل مع مواقع أخرى فتقول: "الدافع الأكبر بالنسبة لي هو شعوري العميق بالمسؤولية تجاه أولئك الذين لا يستطيعون إيصال أصواتهم. قد لا أمتلك جهة رسمية تحميني، لكن ضميري وواجبي أقوى من أي تغطية قانونية". كما تبرز أنها توثق بشكل مستمر الأحداث في مستشفى الشفاء الطبي على مدار الساعة، وهي بذلك لا تنقل الأخبار وحسب، بل تحمل معاناة الضحايا وتحاول إيصالها إلى العالم.
سها سكر (27 سنة) المتخصصة في إنتاج القصص الإنسانية تؤكد أن غياب التأمين الرسمي والحماية المهنية لا يشكلان عائقاً أمام التزامها بمهمتها الصحفية، ذلك أن "سوق العمل في غزة يعاني من نقص حاد في الوظائف الثابتة والضمانات حتى في ظل الأوضاع العادية، فكيف الحال في الظروف الاستثنائية الحالية".
الدعم المالي والقانوني
يروي المصوّر الصحفي رمضان أبو سكران أنه تعرض لعدة إصابات خلال تغطيته الميدانية، كانت أخطرها بتاريخ 28 يناير/كانون الثاني 2024، حين أصيب بتمزق في الأمعاء والقولون، وفقد نحو 65% من قدرة يده اليسرى على الحركة. ورغم خطورة وضعه الصحي لم يجد سبيلًا لتغطية تكاليف العلاج سوى الاعتماد على حسابه الشخصي. وخلال تلقيه العلاج في مستشفى الشفاء في مارس/آذار، حاصر جيش الاحتلال مجمع الشفاء الطبي، وهو ما اضطره للفرار وهو على سرير العلاج إلى أحد مراكز الإيواء. وهناك أمضى ثمانية أيام في ظروف بالغة القسوة، دون مياه نظيفة أو علاج، واضطر لشرب مياه البحر، وعجز عن تبديل ضماداته والعناية بجراحه، واصفا تلك النجاة بأنها "معجزة"، قبل أن يتعرض لاحقًا لإصابة طفيفة خلال استهداف مستشفى المعمداني، وهو الهجوم الذي أودى بحياة أربعة من زملائه. ويؤكد أبو سكران أن نقابة الصحفيين لم تقدم له أي دعم يُذكر رغم عضويته، واكتفت بالاطمئنان عليه عبر الهاتف، ولم يتلقَ سوى مبلغ رمزيّ من مؤسسة "فلسطينيات".
وبالمثل فإن باسل أبو جعرور وسها سكر أكدا عدم حصولهما على أي دعم قانوني أو مالي من أي جهة إعلامية. ويحكي أبو جعرور أنه رغم محاولاته المتكررة لمراسلة بعض الجهات بناءً على توصيات من زملائه للحصول على دعم لتعويض المعدات التي خسرها خلال فترات القصف المتكررة وموجات النزوح، فإنه لم يتلق أي استجابة، وغالباً لم يتم حتى تأكيد استلام طلبه، كما لا توجد أي آلية لمتابعة الطلب أو معرفة مصيره، أما سها فتصرح أن "بيت الصحافة" هو الجهة التي تلجأ إليها في حال وجود أي مشكلة قانونية، بينما كان الدعم المالي الوحيد الذي تلقته هو مبلغ مالي رمزي من مؤسسة "فلسطينيات".
معدات الحماية
وفيما يتعلق بتوفر معدات الحماية وطرق الحصول عليها، تباينت إجابات الصحفيين الأربعة؛ فبينما يؤكد أبو سكران أنه اشتراها على نفقته الخاصة بما فيها السترة الواقية، توضح سكر أنها لا تملك معدات حماية مثل الدرع الواقي، مؤكدة أن نقابة الصحفيين أو بيت الصحافة يجب أن يوفروا هذه المعدات مجاناً، خصوصاً لمن فقدوها خلال الحرب. وأشارت إلى أنهم في شمال غزة لم يحصلوا على هذا الدعم على عكس بعض الصحفيين في الجنوب، وأن شراء الدرع الآن يعني تحمل تكلفته من مالها الخاص، وهو أمر صعب في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة ودخلها المحدود.
أما أبو جعرور فيرى أنه لا يمتلك أي معدات حماية، موضحا أن ذلك يشكل عقبة كبيرة أمام تغطيته الصحفية الميدانية، ورغم محاولاته المتكررة للحصول على معدات من الجهات التي عمل معها أو التي تدعم الصحفيين لكنه لم يتلقَ أي استجابة، أما أبو مطر فتؤكد أن معداتهم الأساسية تقتصر على كاميرا الهاتف المحمول، وأنه لا توجد جهة رسمية توفر لها معدات حماية، وهو ما يدفعها لشرائها من مالها الشخصي أو تبادلها مع زملائها.
يروي المصوّر الصحفي رمضان أبو سكران أنه تعرض لعدة إصابات خلال تغطيته الميدانية، كانت أخطرها بتاريخ 28 يناير/كانون الثاني 2024، حين أصيب بتمزق في الأمعاء والقولون، وفقد نحو 65% من قدرة يده اليسرى على الحركة. ورغم خطورة وضعه الصحي لم يجد سبيلًا لتغطية تكاليف العلاج سوى الاعتماد على حسابه الشخصي.
النجاة من الموت
تبرز مسألة النجاة من الاستهداف كونها أحد أكثر التحديات حضوراً في وجه الصحفيين في غزة؛ حيث لا يقتصر الخطر على طبيعة الميدان بل يتجاوز ذلك إلى الاستهداف المباشر، ومن خلال إجاباتهم تتّضح الصورة القاتمة حول الظروف التي يعيشونها من القصف والتعرض لإصابات بالغة والنجاة.
يروي أبو سكران تجربته حين ذهب لتصوير استهداف في حي الزيتون جنوب مدينة غزة، حيث تعرض منزل مجاور للمكان الذي كانوا يصورون فيه للقصف. كما يصف تغطيته لنزوح أهالي حي الشجاعية وشمال غزة بالخطيرة؛ عندما أطلق عليهم جيش الاحتلال النار بشكل مباشر، عدا عن لحظات الخوف والتوتر التي تلازمه وزملاءه في مستشفى المعمداني؛ حيث تقوم طائرات "الكواد كابتر" بإطلاق النار عليهم بشكل مستمر.
أما الصحفية سكر فتؤكد أنها معرضة لخطر دائم سواء أثناء التغطية أو في تنقلها اليومي متذكرة يوم استهدافها وهي منهمكة في تصوير قصة صحفية، كما نجت أيضاً من استهداف أثناء عودتها من عملها في وسط مدينة غزة، ومن استهداف آخر عندما كانت تجري مقابلة داخل مستشفى المعمداني وسط منطقة "حمراء" شديدة الخطورة.
يقدم أبو جعرور وجهة نظر مختلفة قليلا موضحا أن عمله الصحفي لا يتطلب تغطية ميدانية مباشرة، وهو ما يخفف من حجم تعرضه للخطر أثناء العمل. لكنه -رغم ذلك- يبقى محاصراً بالخطر الدائم في غزة كلها، ويروي حادثة نجاته من القصف الذي استهدف منطقة المواصي بخان يونس، حين دفنته صواريخ الاحتلال تحت تل من الرمال الذي غطى خيمته وعددا من الخيام المجاورة.
تستحضر أبو مطر تجربة مروعة عن وقوع انفجار قريب أثناء وجودها في موقع التصوير، وكيف تمسكت بالكاميرا ووثقت الحادثة رغم شعورها بأن روحها توشك أن تفارقها، وكذلك تستذكر فقدانها زميلاً عزيزاً قضى بقصف مباشر آخر، كان يسبقها بخطوات قليلة: "إن النجاة بالنسبة لها لا تعني فقط النجاة من القصف، بل تتعداها إلى النجاة من اليأس وفقدان المعنى في ظروف الحرب القاسية".
شهادة من الميدان
ورغم إصرار الصحفيين المستقلين على أداء واجبهم المهني والإنساني وسط غياب الحماية والاعتراف المؤسسي، فإن الثمن يكون في كثير من الأحيان حياتهم ذاتها، كما حدث مع الصحفي الفريلانسر مؤمن أبو العوف (18 سنة) الذي شكّل استشهاده صدمة كبيرة لأسرته ولمجتمع الصحفيين في غزة.
وتحكي والدة أبو العوف -نورة أبو العوف - أن ابنها كان منذ بداية الحرب من أوائل من قدموا الدعم للصحفيين من خلال توفير الطعام ومرافقة فرق الإسعاف، فضلًا عن نقل الأخبار وشحن المعدات بنفسه.
"عمل مؤمن دون أي غطاء قانوني أو تأمين، وتلقى أجره من إحدى القنوات التي كان يعمل معها لأول مرة في اليوم الذي استشهد فيه، ولم يحصل على أي دعم مادي من المؤسسات الصحفية الأخرى رغم عمله مع شبكات مرموقة، وكان يتحمل المخاطر وحده". هكذا تقول والدة مؤمن بمرارة، قبل أن تضيف أن أبو العوف "في أيامه الأخيرة، عانى من ضغوط نفسية شديدة بسبب المشاهد اليومية التي يوثقها في الميدان، وتعرض للتهديد أكثر من مرة. وفي الليلة الأخيرة، أخبر والدته بنيّته المبيت في المنزل لكنها تلقت لاحقاً اتصالًا من أحد زملائه يؤكد استشهاده".
وتتذكر والدة أبو العوف أنها لم تتلقَ أي اتصال من أي جهة رسمية بعد استشهاده باستثناء تعازي رمزية، حتى أنها لم تتلقَ أي دعم معنوي أو مادي من نقابة الصحفيين ولا من الجهات التي كان يعمل معها سوى قناة الجزيرة مؤكدة أن مؤمن ظل يعمل بشجاعة وإصرار حتى لحظاته الأخيرة، مدفوعاً برغبته في أداء رسالته الصحفية، رغم كل ما كان ينقصه من دعم وحماية".
"عمل مؤمن دون أي غطاء قانوني أو تأمين، وتلقى أجره من إحدى القنوات التي كان يعمل معها لأول مرة في اليوم الذي استشهد فيه، ولم يحصل على أي دعم مادي من المؤسسات الصحفية الأخرى رغم عمله مع شبكات مرموقة، وكان يتحمل المخاطر وحده". هكذا تقول والدة مؤمن بمرارة
مسؤولية نقابة الصحفيين
وللتوازن بين الأصوات الميدانية والمواقف الرسمية، كان لا بد من العودة إلى الجهة التي تمثل الصحفيين في فلسطين، لمعرفة رؤيتها حيال هذه التحديات المتصاعدة. وفي هذا السياق، يشير تحسين الأسطل نائب نقيب الصحفيين الفلسطينيين إلى أن "الصحفي الذي لا يقدّم بياناته أو يُعرّف بطبيعة عمله ومهامه الميدانية يصعّب على النقابة تتبّع حركته أو متابعة ظروف عمله، وهو ما يجعل من الصعب تحمّل أي مسؤولية مباشرة إذا ما تعرّض للخطر أو أصيب أو استُشهد" مؤكدا أن المسؤولية الأساسية في مثل هذه الحالات تقع على المؤسسة الصحفية التي يعمل معها الصحفي، باعتبارها الجهة المشغّلة والمخوّلة بضمان حقوقه.
وحول قضية التأمين، يرى الأسطل أن هناك اتفاقا مع الاتحاد الدولي للصحفيين لتوفير تغطية تأمينية للصحفيين غير المؤمنين ضمن مؤسساتهم، إلا أن التكلفة العالية للتأمين وضعف الوعي لدى بعض الصحفيين حول أهمية الانتساب للنقابة تُعد من أبرز العوائق، موضحا في نفس السياق "نسعى جاهدين لتفعيل صندوق دائم لدعم الصحفيين وتعويضهم، وقد أنشأنا نظام الزمالة الصحفية لهذا الغرض، لكن الأمر يتطلب شراكة حقيقية بين النقابة والزملاء الصحفيين، بالإضافة إلى دعم المؤسسات الشريكة المحلية والدولية".
ويشرح الأسطل " لا نميّز في النقابة بين الصحفيين، سواء كانوا منتسبين رسمياً أو مستقلين (فريلانسر)، طالما أن عملهم يتم ضمن الإطار الصحفي المهني الواضح، ومع مؤسسات إعلامية معروفة، المهم بالنسبة لنا أن نكون قادرين على توثيق العلاقة بين الصحفي والمؤسسة التي يعمل معها؛ لأن غياب هذا التوثيق يعيق حمايتهم أو المطالبة بحقوقهم."
الرؤية القانونية الدولية
وحول الحماية القانونية الدولية، يرى الدكتور صلاح عبد العاطي رئيس الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني (حشد)أن الصحفيين العاملين بشكل مستقل (الفريلانسر) يتمتعون بالحماية القانونية ذاتها التي تُمنح لجميع الصحفيين في مناطق النزاع، رغم غياب الأطر المؤسسية التي تضمن حقوقهم العمالية كما هو الحال في المؤسسات الإعلامية الكبرى.
ويعتقد عبد العاطي أن القانون الدولي الإنساني يقرّ بأن الصحفيين هم في المقام الأول مدنيون، ويمنحهم حماية خاصة نظراً لطبيعة مهنتهم في نقل الحقيقة وكشف الانتهاكات، وهو ما يجعل استهدافهم أو قتلهم جريمة حرب مركبة ذات خطورة بالغة.
ويُحمَّل القانونُ الدولي وفق تصريحات عبد العاطي - لا سيما اتفاقيات جنيف والبروتوكولات الإضافية والمجتمع الدولي - مسؤوليةَ حماية الصحفيين ومحاسبة من يرتكبون الانتهاكات بحقهم، عبر المساءلة القانونية الدولية، إضافة إلى السعي لتعويض المتضررين ووقف تكرار الجرائم، ورغم المخاطر التي يواجهها الصحفيون المستقلون في مناطق النزاع، لا توفِّر لهم قوانين العمل المحلية أي ضمانات أو حماية؛ إذ يُعتبر عملهم "بالقطعة"، وهو ما يعفي المؤسسات الإعلامية من الالتزامات القانونية تجاههم.
يرى عبد العاطي أن نقابة الصحفيين يقع عليها دور مهم في دعم منتسبيها عبر برامج التضامن والتأمين الصحي، مشيراً إلى أن إنشاء صناديق دعم خاصة هو خطوة أخلاقية ضرورية، رغم عدم إلزاميتها قانونياً.
ويؤكد عبد العاطي أن المسؤولية الاجتماعية والتكافلية تقع على الدولة في المقام الأول، التي من المفترض أن تتكفل بتعويض مواطنيها - ومنهم الصحفيون - عن جرائم الاحتلال، ثم متابعة دعاوى قانونية جنائية ومدنية ضد الاحتلال، لكن الواقع يكشف عن تهرّب السلطة من هذه الالتزامات في ظل حرب إبادة جماعية، وهو ما يستدعي بشكل عاجل إنشاء "صندوق وطني لتعويض المدنيين" لتوفير الحد الأدنى من الكرامة والحماية للمتضررين. ويرى عبد العاطي أن نقابة الصحفيين يقع عليها دور مهم في دعم منتسبيها عبر برامج التضامن والتأمين الصحي، مشيراً إلى أن إنشاء صناديق دعم خاصة هو خطوة أخلاقية ضرورية، رغم عدم إلزاميتها قانونياً.
تظل قضية الصحفيين الفريلانسر في غزة شاهداً حياً على التحديات المعقّدة التي يواجهها الإعلام المستقل في مناطق الحرب، وسط غياب منظومة حماية قانونية واضحة، وشحّ في الموارد، وتهديد دائم للحياة؛ ففي الوقت الذي يواصلون فيه أداء واجبهم المهني والإنساني في نقل الحقيقة وكشف الانتهاكات تبقى حقوقهم الأساسية من حمايةٍ وتأمينٍ وتعويضٍ ومساءلةٍ قانونيةٍ غائبةً أو منقوصةً.
هذا الواقع يفرض على المؤسسات الرسمية المحلية والدولية، ونقابات الصحفيين، ضرورة التحرك الجاد لتأطير عملهم ضمن بيئة آمنة ومستقرة تحفظ كرامتهم وحقوقهم وتوفّر الحد الأدنى من الأمان لهم ولأسرهم، فاستمرار تجاهل هذا الملف لا يهدد حياة الصحفيين فقط، بل يهدد حق الشعوب في المعرفة، ويقوّض حرية الصحافة في واحدة من أكثر ساحات العمل الإعلامي خطورة في العالم.