لا أزال أذكر أول مرة قرأت فيها اسم محمد عبد المجيد الخالدي. كان ذلك في مقالٍ مكتوب خلال سنوات الانقسام الأولى حين ضجّت الساحة الفلسطينية بالأصوات المتنافرة واللغة الحادة. وسط هذا الضجيج، بدا محمد استثناء لافتا؛ كان قلمه هادئا وواعيا، يكتب بصدق عمّا يجول في خاطر الناس بعيدا عن التحريض والاصطفاف، وكأن كلماته تسعى لردم الهوة بين الناس لا لزيادة اتساعها.
وحين تعرفت إليه عن قرب خلال عمله على تحقيق استقصائي عن شاطئ بحر غزة اكتشفت وجها آخر لشغفه؛ كان دقيقا في جمع الشهادات، مُصرا على مواجهة المسؤولين بأسئلةٍ صعبة، مؤمنا أن الصحافة مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون مهنة. كان يقلقه مصير مدينته، وشاطئها الذي يشكّل المتنفس الوحيد للفقراء، وأطفالها الذين يلهون قرب مياهٍ ملوثة تهدد حياتهم.
محمد الخالدي من مخيم جباليا شمال قطاع غزة، لم يكن مجرد مراسلٍ أو محرر يكتب الأخبار اليومية، بل نموذج للصحفي الفلسطيني الذي يصرّ على ملاحقة الحقيقة حتى لو كانت مكلفة. عمل مراسلًا ومحررًا مع اتحاد وكالات أنباء دول منظمة التعاون الإسلامي (UNA)، وكتب لمواقع محلية بارزة كـ "دنيا الوطن والجديد الفلسطيني".
حين تعرفت على محمد الخالدي عن قرب خلال عمله على تحقيق استقصائي عن شاطئ بحر غزة، اكتشفت وجها آخر لشغفه؛ كان دقيقا في جمع الشهادات، مُصرا على مواجهة المسؤولين بأسئلةٍ صعبة، مؤمنا أن الصحافة مسؤولية أخلاقية قبل أن تكون مهنة.
حاز على جائزتين عن فئة القصة الصحفية من وكالة "معًا" الإخبارية والمركز الفلسطيني (بديل)، كما كرّمه الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة (أمان) لأنه أحد فرسان النزاهة لعام 2019 عن فئة التحقيقات الاستقصائية.
بعد حرب 2014، أخبرني الخالدي بتجربة لن أنساها: أمضى أربعين يومًا متواصلة متنقّلًا بين رائحة الدم وركام المنازل، موثقًا لحظات لم يجرؤ كثيرون على الاقتراب منها. ومع ذلك، لم يتجاوز أجره مئتي دولار، لتصبح قساوة الواقع المادي صدى لتجاهل جهوده وتضحياته.
كانت الصدمة في صوته أكبر من الكلمات؛ إذ لم يكن يتحدث عن المال بقدر ما كان يتحدث عن معنى التقدير، وعن قسوة أن يُستهلك جهد الصحفي وحياته مقابل فتات لا يكاد يسد رمقا. ورغم هذه المسيرة الحافلة بالإنجازات والتكريمات، لم تكن الطريق أمام الخالدي مفروشة بالورود؛ فقد عانى كثيرًا من التهميش ومن ظلم مؤسسات إعلامية لم تُنصفه، فقط لأنه لم يكن محسوبًا على أي فصيل سياسي، ولم يكن من "المتملقين أو المنافقين".
بعد حرب 2014، أخبرني الخالدي بتجربة لن أنساها: أمضى أربعين يومًا متواصلة متنقّلًا بين رائحة الدم وركام المنازل، موثقًا لحظات لم يجرؤ كثيرون على الاقتراب منها. ومع ذلك، لم يتجاوز أجره مئتي دولار، لتصبح قساوة الواقع المادي صدى لتجاهل جهوده وتضحياته.
هذا الموقف المبدئي جعله يدفع ثمنا باهظا؛ إذ حُرم من فرص كثيرة كان يستحقها عن جدارة، لكنه ظلّ وفيًا لقلمه مؤمنا أن الانحياز الحقيقي يجب أن يكون للناس لا للسلطة. اختار الخالدي أن يذهب أبعد من الصحافة المكتوبة؛ ففتح نوافذ وسائل التواصل الاجتماعي محاولًا الوصول إلى جيل جديد من القراء، مؤمنًا أن الصحفي إن لم يجدد أدواته فسيتحوّل إلى مجرد ناقل خبر عادي.
كان يعتقد أن المنصات الرقمية ليست مجرد وسيلة للنشر السريع، بل ساحة للتأثير، ومساحة لإيصال القضايا التي يتم تجاهلها في الإعلام التقليدي، وخاصة قضايا الناس البسطاء المهمّشين. عند إعلان خبر استشهاده، مرّ الخبر لساعات خبرا عابرا لم يتوقف عنده كثيرون سوى باعتباره صحفيًا فلسطينيًا آخر استُهدف في الميدان؛ فقد استشهد الخالدي في خيمة بمستشفى الشفاء بمدينة غزة مع طاقم الجزيرة: أنس الشريف ومحمد قريقع، بالإضافة إلى المصورين المرافقين لهما محمد نوفل وإبراهيم ظاهر.
لكن سرعان ما تبدّل المشهد؛ إذ بدأ أصدقاؤه ومحبوه وزملاؤه في المهنة يتسابقون إلى نعيه، مشيدين بكفاءته المهنية ورفعة أخلاقه وصدقه في أداء رسالته، لتتحوّل سيرته إلى شاهد حيّ على ما يعنيه أن تكون صحفيًا حرًا في غزة.
هنا يبرز التناقض الصارخ: لقد عاش محمد الخالدي مهمَّشًا بلا تقدير حقيقي ولا فرصة تليق بموهبته وإخلاصه، لكنه تحول بعد استشهاده إلى رمز تتسابق المؤسسات على تبنيه في بياناتها وكأن الصحفي الفلسطيني محكوم عليه أن يُكرم بعد موته، لا أن يُنصف في حياته.
محمد الخالدي ليس حالة فردية؛ فقد سبقته مروة مسلم الصحفية الشابة التي هدم الاحتلال منزلها فوق رأسها مع شقيقيها في حي الشجاعية، ورغم إرسالها إشارات استغاثة طلبًا للإنقاذ، فإن الحصار المطبق على المنطقة حالَ دون وصول الدفاع المدني إليها، ليُنتشل جثمانها بعد خمسة وأربعين يوما.
درست مروة الإعلام والاتصال الجماهيري بجامعة الأزهر منذ 2014، وحملت شغفًا يوازي حلمها بأن تكون صحفية واعدة على خطى الصحفية الشهيدة شيرين أبو عاقلة. تخرّجت عام 2018، وتنقّلت بين مؤسسات عدة، وعملت في إذاعات ومواقع مختلفة مثل قناة بلدنا، وموقع متصل، وراديو الشباب. وقدمت برامج إذاعية مثل: ذات، الصباح، جد ولعب، مع الناس، إضافة إلى محتوى كانت تنتجه عن بلدات فلسطين. بصوتها الشجي وتقاريرها الميدانية صنعت حضورًا فريدا، لكنها توقفت قسرًا خلال الحرب نتيجة الحصار المطبق على شمال القطاع ثم تعرضت للفصل التعسفي من عملها.
تروي إحدى صديقاتها المقربات وزميلاتها في إذاعة الشباب شهادة مؤلمة عن معاناتها: "مروة كانت جزءا من الطاقم التأسيسي للإذاعة منذ 2020، تعمل بجد منذ اليوم الأول. لكن خلال حرب 2023 استلمنا رواتب الأشهر الأربعة الأولى فقط، ثم فوجئنا بفصل الجميع. صُدمت مروة لأنها فقدت مصدر دخلها ولم تستطع مغادرة الشجاعية إلا مرة واحدة في بداية الحرب." كما تحكي أنها "تحملت مسؤولية شقيقيها معتز ومنتصر. كانت تحلم بالحرية وحياة طبيعية، لكنها استشهدت مظلومة، بلا راتب أو مأوى." وتواصل صديقتها شهادتها: "انقطع الاتصال بها أكثر من أربعين يومًا. كنا نأمل أنها حية حتى وجدنا جمجمتها وبقايا عظامها. لقد فقدنا صحفية شجاعة تحملت الجوع والنزوح والمسؤولية، وكانت صوتًا إذاعيًا رائعًا وأحلامها كبيرة."
"انقطع الاتصال بمروة أكثر من أربعين يومًا. كنا نأمل أنها حية حتى وجدنا جمجمتها وبقايا عظامها. لقد فقدنا صحفية شجاعة تحملت الجوع والنزوح والمسؤولية، وكانت صوتًا إذاعيًا رائعًا وأحلامها كبيرة."
حين نُعي الخالدي، عادت سيرته إلى الواجهة، وتسابقت المؤسسات الإعلامية والزملاء لذكر فضله وإنجازاته ومناقبه، وامتلأت منصات التواصل بكلمات الثناء والإشادة. لكن السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه هنا: لماذا لا نُنصف الصحفيين في حياتهم؟ لماذا لا يحصلون على التقدير والدعم الذي يستحقونه وهم بيننا يجتهدون في عملهم ويخاطرون بحياتهم كل يوم؟ ولماذا ننتظر موتهم كي نمنحهم الاعتراف ونرفع صورهم ونُعلن بطولاتهم؟
هذا التناقض المؤلم يعكس خللا عميقا في آليات عمل المؤسسات الإعلامية التي لا تلتفت إلى جهود الشبان إلا بعد أن يصبحوا شهداء؛ حينها تصنع منهم أيقونات بعد رحيلهم، بينما كانوا بحاجة إلى من يمد لهم يد العون والدعم وهم أحياء، ليواصلوا رسالتهم ويُثبتوا حضورهم المهني.
محمد الخالدي ومروة مسلم يمثلان جيلا من الصحفيين الفلسطينيين الذين دفعوا حياتهم ثمن إخلاصهم للمهنة، ولم ينالوا التقدير والحماية التي يستحقونها أثناء حياتهم.