أجرى المقابلة: محمد أحداد
س: هل كان اعتماد الجزيرة على التغطية الحيّة المستمرة لحرب غزة قرارا تحريريا فرضته وتيرة الأحداث؟ وهل أثّر هذا النهج على غياب التقارير الإنسانية والتحقيقات الاستقصائية التي قد تشكل لاحقا أدلة ووثائق تاريخية للجرائم الإسرائيلية؟
تغطية الحرب على غزة لا تشبه أي تغطية صحفية أخرى من حيث الحجم، أو الامتداد الزمني، أو فظاعة المشاهد، أو كثافة الأحداث المتواترة والمرتبطة بشكل مباشر بالملف. والحقيقة أنه لم يكن اختيارا تحريريا بقدر ما كان "فرضا" مهنيا؛ لأن نقل الحقيقة بشكل حي في ظل كل ما حدث واجب مهني وأخلاقي أيضا. الصورة في هذه الحالة كانت أبلغ من الكلمة. لذلك، كانت التغطية المفتوحة ضرورة مهنية لا يمكن أن تزاحمها برامج أخرى. أما التحقيقات والبرامج الاستقصائية فتأتي لاحقا بعد جمع الأدلة وتوثيق الأحداث، لكن الأولوية في حينها كانت لنقل ما يجري لحظة بلحظة.
تغطية الحرب على غزة لا تشبه أي تغطية صحفية أخرى من حيث الحجم، أو الامتداد الزمني، أو فظاعة المشاهد، أو كثافة الأحداث المتواترة والمرتبطة بشكل مباشر بالملف.
س: لكن تخصيص تغطية مفتوحة لحرب الإبادة الجماعية طغى على أحداث أخرى كان من الممكن أن تحظى بأولوية إخبارية؛ مثل ما يجري في السودان. كيف يمكن تفسير ذلك من منظور مهني؟
لسنا بصدد المفاضلة بين القضايا، لكن حتى أبناء السودان تابعوا ما يجري في غزة وقلوبهم مع أهلها. القضية الفلسطينية قضية مركزيّة يتوحّد حولها الجميع. كما أنّ الجزيرة ليست شاشة واحدة، بل شبكة تضمّ قنوات ومنصّات متعددة (الجزيرة مباشر، الإنجليزية، الوثائقية، والمنصات الرقمية...)، وكل منها يغطي ملفّات مختلفة. ومع ذلك، تشعر القناة دائما بالتقصير رغم اعتزازها بما تقدّمه، وهذا أمر صحيّ من أجل تقديم الأفضل لجمهورها. وبالتالي لا يمكن القول - بأي حال من الأحوال - إن القناة أغفلت ملفات أخرى؛ لأن قوة الحدث وعمق القضية هو ما فرض علينا تخصيص الحيّز الأكبر للحرب على غزة.
س: قتل الاحتلال 12 صحفيا ومصورا من طاقم قناة الجزيرة، وكثيرا ما سبق عملياتِ الاستهداف حملاتُ تحريض علنية، كما حدث مع الزميل أنس الشريف. ومع ذلك تبقى السلامة المهنية أولوية قصوى تتقدم على الخبر: هل طُرح هذا التناقض للنقاش داخل غرفة الأخبار؟
هذا النقاش كان حاضرا دائما. نحن ندرك أن غزة بما شهدته كانت بيئة استثنائية لم تشبه أي مكان آخر في العالم. ويجب أن نستحضر ذلك، ونحن نسعى دوما للحفاظ على معادلة الحفاظ على أرواح زملائنا في الوقت الذي ننقل فيه الحقيقة؛ لأن الكثيرين يتناولون الموضوع كأننا كنا نملك ترف الاختيار. الوضعية كانت واضحة جدا: لا يوجد مكان آمن في غزة وإسرائيل تستهدف الصحفيين بسلوك ممنهج وليست حالة معزولة.
كانت الأولوية المطلقة هي السلامة، وحديثنا مع زملائنا كان دائما منصبّا على الحرص، ثم الحرص، ثم الحرص على حياتهم وسلامتهم. وعندما أتيح لوائل الدحدوح أن يغادر قمنا باستقباله في الدوحة ولم نطلب منه الاستمرار؛ لأن حياته وسلامته لا تتقدم عليها أيّ أولويات أخرى.
كنا - أيضا - نؤكد دوما: السلامة أولا، والخبر يأتي ثانيا. لكن ما يغيب عن الكثيرين أيضا أن زملاءنا في غزة تمسكوا بالبقاء - بإرادتهم الكاملة - رغم الخطر، وهذه دلالة شجاعة وصمود وثبات لأنّهم شعروا بمسؤولية مضاعفة: هم أبناء المكان ولا أحد سواهم يمكنه نقل الصورة من الداخل. كانوا يقولون: إذا لم ننقل نحن ما يحدث، فمن سيفعل؟ ومع أننا وفرنا أقصى ما يمكن من إجراءات الحماية، فإنّه لم يكن في غزة مكان آمن فعليا كما ذكرت. ونحن نقدر شجاعة مراسلينا في نقل الحقيقة، وقد دفعنا ثمنا كبيرا من أجلها، وحريصون بكل الوسائل الممكنة على حياة صحفيينا.
كنا نؤكد دوما: السلامة أولا، والخبر يأتي ثانيا. لكن ما يغيب عن الكثيرين أيضا أن زملاءنا في غزة تمسكوا بالبقاء بإرادتهم الكاملة رغم الخطر، وهذه دلالة شجاعة وصمود وثبات لأنّهم شعروا بمسؤولية مضاعفة: هم أبناء المكان ولا أحد سواهم يمكنه نقل الصورة من الداخل.
س: خلال الربيع العربي قيّم جزء من الجمهور التغطية الإعلامية من منظور سياسي، وحتى في حرب غزة يرى البعض أن القناة اقتربت أكثر من النشاط السياسي على حساب الممارسة الصحفية. كيف تقرأ هذا الحكم؟
دعني أطرح السؤال بشكل معاكس: إذا لم نغط ما جرى، فهل نطفئ الكاميرات حتى لا نُتهم بالنشاط السياسي؟ واجبنا أن ننقل الحدث كما هو. هناك قنوات أمريكية وأوروبية تبثّ على نطاق واسع وغطت ما يجري في غزة بشكل كبير، فما بالك بالجزيرة وهي الأقرب إلى الميدان؟! هل كان مطلوبا منها أن تصمت؟ هذه حملات تشويه قديمة تطلقها الأطراف المتضررة من كشف الحقيقة، ومن ينسجم تفكيره مع تلك الأطراف. ومع ذلك أقول: إن عملنا هو عمل بشري قد يتخلله بعض الثغرات، وهو ليس عملا ملائكيّا، لكن الأهم أن الجزيرة متمسكة بمعاييرها المهنية؛ فالمهنية هي أوكسجين بقائنا، والرأي والرأي الآخر هما أساس استمراريتنا. ما يحكم ممارستنا المهنية داخل غرفة الأخبار وفي الميدان هو الاحتكام إلى المعايير المهنية والأخلاقية، وهذا سر استمراريتنا وسر ثقة الجمهور بنا أيضا. الجزيرة قناة مؤثرة في الرأي العام، ومن الطبيعي أن تظهر بعض الأصوات - أقول بعض الأصوات - التي ترى أن الحقيقة ليست في مصلحتها.
إذا لم نغط ما جرى، فهل نطفئ الكاميرات حتى لا نُتهم بالنشاط السياسي؟ واجبنا أن ننقل الحدث كما هو. هناك قنوات أمريكية وأوروبية تبثّ على نطاق واسع وغطت ما يجري في غزة بشكل كبير، فما بالك بالجزيرة وهي الأقرب إلى الميدان؟! هل كان مطلوبا منها أن تصمت؟ هذه حملات تشويه قديمة تطلقها الأطراف المتضررة من كشف الحقيقة.
س: في سياق تغطية حرب الإبادة الجماعية، ما أبرز اللحظات التي اضطررتم فيها لاتخاذ قرارات أو اجتهادات تحريرية صعبة؟
الإعلام ليس علما دقيقا كالفيزياء والرياضيات، بل ممارسة إنسانية وإبداعية ناتجة عن جهد بشري. لذلك تظهر اجتهادات ترتبط بطبيعة الصورة والمشهد. على سبيل المثال، عندما كانت تصلنا بعض المشاهد القاسية كنا نتناقش داخل غرفة الأخبار: هل نعرضها كما هي أم نغطيها مراعاةً لمشاعر المشاهد؟ البعض يرى أن التظليل يخفي جزءا من الحقيقة، وآخرون يرون أنه احترام لكرامة الضحايا ولمشاعر المتلقي. ومع مرور الوقت تحوّلت هذه النقاشات إلى معايير واضحة تُحدّد كيفيّة عرض المشاهِد الصادمة دون الإخلال بالحقيقة أو الذوق العام.
من الصعب أن نقيّم أنفسنا؛ فهذه حرية متروكة للجمهور، وهو جمهور ذكي وواعٍ، لكننا نؤكّد أننا قمنا بواجبنا المِهني في نقل الحقيقة وتوضيح السياقات. نعتز بما قدمناه ونسعى دائما للأفضل. الإعلام مجال إبداعي لا سقف له، ودائما هناك مساحات للتجديد في الأساليب والقوالب.
من الصعب أن نقيّم أنفسنا؛ فهذه حرية متروكة للجمهور، وهو جمهور ذكي وواعٍ، لكننا نؤكّد أننا قمنا بواجبنا المِهني في نقل الحقيقة وتوضيح السياقات. نعتز بما قدمناه ونسعى دائما للأفضل. الإعلام مجال إبداعي لا سقف له، ودائما هناك مساحات للتجديد في الأساليب والقوالب.
س: هل تعتقد أن ضغوطات الجمهور وانحيازاته تؤثّر في شكل التغطية وفي عملية صناعة القرار التحريري؟
رأي الجمهور يُحتَرم بالتأكيد وكذلك ذائقته، ولكن علينا أولا أن نعرف من هو الجمهور. الجمهور ليس كتلة واحدة، وله آراء متنوعة. لا يمكن لأي وسيلة إعلامية أن تعدّل شكل التغطية لإرضاء فئة على حساب أخرى. ما يوجّه عملنا هو المعايير المهنية والإنسانية التي التزمت بها الجزيرة منذ تأسيسها. هذه القيم هي التي تضمن لنا الاستمرار والموثوقية، والتي على أساسها نالت الجزيرة ثقة جمهورها. كما قلت، الجمهور له خلفيات وثقافات وميول مختلفة، وينتمي إلى أجيال متعددة. الجزيرة كانت دائما مع الإنسان وستبقى. هذا هو جوهر رسالتها. الموضوعية، والإنصاف من القيم التي نترجمها في عملنا اليومي، والموضوعية ليست هي الحياد؛ فالحياد في بعض الأحيان قد يكون شكلا من أشكال التحيّز. حين يقف الصحفيّ صامتا أمام جريمة واضحة فهذا ليس حيادا، هذا انحياز سافِر. أما الموضوعية فهي أن تقدم الحقيقة كما هي، في سياقها الكامل دون تزييف أو انتقاء. دعني أسوق مثالا لأُبرِز الموضوع بصورة أوضح: لنفترض أنّ ثمة دولة نووية تقصف شعبا محاصرا يمتلك أسلحة خفيفة، في هذه الحالة لا يمكننا وضع الطرفين في كفّة واحدة باسم الحياد. مهمتنا أن نروي ما يحدث كما هو، وأن نمنح المشاهد الأدوات لفهم الواقع بعمقه الإنساني والمنطقي والسياسي، لا أن نخفي الحقيقة تحت شعار التوازن وإلا سيصبح هذا شعارا زائفا.