وسط أخبار متلاحقة في معركة "ردعِ العدوان" التي أدت إلى سقوط نظام بشار الأسد بسوريا كانون الأول / ديسمبر عام 2024، كنت أدوّن بعض الملاحظات في محادثة خاصة بي على تطبيق واتس أب، وعلى مشارف محافظةِ حمص تتعالى أصوات الانفجارات والقذائف وهدير الأسلحة المختلفة التي كانت تقطع لحظات النعاس في تلك الليلة، ومع بزوغ ساعات الصباح الأولى، جاء خبر انتظرناه طويلا: "سقوط نظام الأسد".
لبعض اللحظات شعرت - كغيري من السوريين "مُهجّرا في مخيمات الشمال السوري وعشتُ سنوات الحرب" - برغبة عارمة في الاحتفال، ثم تذّكرت في غمرة هذا الفرح، أني هنا بصفتي صحفيا، وأني بحاجة لضبط مشاعري. وما خطرَ لي، آنذاك، ليس الهتاف في الشارع مع ملايين السوريين، بل كيف سأوثّق هذه اللحظة التاريخية: ما الصور التي يجب أن أوثقها؟ من هم الشهود الذين علي البحث عنهم، وما الخطّة التي تضمن لي عدم ضياع التفاصيل وسط الحماس الجماعي؟
رتبت الكاميرا، وتأكدت من شحن البطاريات والهاتف الشخصي مُتذكرا بعض الملاحظات، ومُدركاً أنّ طريقَ دمشق ليس مسارا جغرافيا فقط، بل انتقالا من موقع المُشاهد إلى موقع الشاهد، وكنت أحس بمزيد من المسؤولية، لأكون صحفيا لا تجره عواطف اللحظة، بقدر السعي إلى الموازنة بين ذاكرةٍ مليئة بالدمار وبين واجب التوثيق الذي قد يُصبح لاحقاً شهادةً للتاريخ.
لبعض اللحظات شعرت - كغيري من السوريين "مُهجّرا في مخيمات الشمال السوري وعشتُ سنوات الحرب" - برغبة عارمة في الاحتفال، ثم تذّكرت في غمرة هذا الفرح، أني هنا بصفتي صحفيا، وأني بحاجة لضبط مشاعري.
الرحلة عبر المعرّة
في الطريق إلى دمشق، عادت بي الذاكرة إلى مشهد لم أستطع تجاوزه. معرة النعمان، مدينتي التي هجّرت منها عام 2019، لم تكن مجرّد محطة على الطريق، بل جرحا عميقا. بيوت مهدمة، حقول يابسة، أشجار مقطوعة… كنت مذهولا من هول المشهد. كابن للمدينة، كنت أستعيد صور التهجير والقصف الروسي والإيراني الذي محا ملامح الحياة منها.
إلا أنّ مهمتي جعلتني أتعامل مع المكان بطريقة مختلفة، فبدأت التقطُ الصور للبيوت المدمرة باحثاً عن تفاصيل تُدين الجُناة أكثر؛ مثل حرق الأشجار واقتلاعها، كتابات قديمة على جدران تُشير إلى أنها اتُخذت مقرّات لهم محاولا اكتشاف ما وراء الدمار، وما يمكن أن يكون شهادة موثّقة على ما فعلهُ نظام الأسد البائد وحلفاؤه في ريف إدلب الجنوبي.
الطريق إلى دمشق
عندما اقتربت من العاصمة دمشق، تحوّلت الطريق إلى خارطة مفتوحةٍ لعقد من الحرب، فبين النقاط العسكريّة المهجورة حديثا ودبابات محترقة على الأطراف، وبين مشاهد الجنود بملابس ممزقة يرفعون أيديهم استسلاما، بدا لي المشهد بعين المنتصر تارة، وتارة أخرى امتحانا مهنيا كذلك، توقفتُ بشكلّ متقطّع.. التقطت صورا سريعة لجندي مرمي مع خوذتهِ، وطريقٍ ترابيّة مخرّبة بعد الانسحاب العشوائي، لافتات قديمة لنظامِ الأسد ملطخّة بالرصاص، حرصت جداً أن تكون الصور وثائق لا مجرد انفعالات، ثم تساءلت للحظة: أيحق لي نشر صور للجثث، هل سأجعل ملامحهم مادة خبرية أم سأحترم كرامة الموتى؟ فتحت هاتفي مجددا وكتبت في المحادثة الخاصة بي "توثيق فقط..".
والحقيقة أنني شعرت بالخوف، فقد استعدت ما فعله نظام الأسد بالمدنيين السوريين الذين طالبوا بالحرية فاعتقلوا وأعدموا. في تلك اللحظة، كمراسل صحفي، لازمني هاجس أن أكون هدفا لأي مجموعة لم تستسلم بعد أو بقايا عناصر منفلتة. لكنني ذكرت نفسي بأن دوري لا يقتصر على العودة سالما، بل على العودة بمادة توثق وتشهد على كل ما جرى.
الرابعة عصرا على مشارفِ دمشق، بدأت التفاصيلُ وكأنها تستعدُ لقيامةٍ خاصة بها، اختلطت الأهازيج بأصوات التكبيرات مع أصواتِ الرصاص احتفالا بالتحرير، مئات المقاتلين والمدنيين يملؤون الطرقات، البعض يقفون على حافة الفرح والخوف، آخرون يهتفون ويركضون ودبابات تجتمع في ساحةِ الأمويين، كأنما الجميع يريدُ أن يتأكد هل المشهد حقيقي؟
حاولت أن أهتم بتفاصيلِ الجدران وشعارات النظام البائد التي لم تُمح بعد، مع مظاهر الأهالي والناس الخائفين، لكن كنت حريصا على التركيز على ما قد لا يلتفت إليه الآخرون بعدما انهارت منظومة خوف كاملة. لكن السؤال ظل يطاردني: هل أكتب اليوم بصفتي واحدا من المنتصرين أم شاهدا مُحايدا؟ وقد اخترت أن أكون الإثنين في آنٍ واحد ابن المدينة الذي يفرح، والصحفي الذي يوثّق، فمهمة الصحفي لا تقتصر على نقل ما جرى فقط، بل نقل وتوثيق كيف جرى وكيف ظهر من منظور الناس والأهالي وفي العدسةِ معاً، كي لا يتلاشى كل شيء في ضبابِ النسيان.
ثمة صورة واحدة لاحقتني كثيرا، مشاهد الجنود الهاربين الذين اعتدنا أن نشاهدهم يقصفون مدننا، فهذه المرة كانوا يركضون في طرقات المدن هاربين، لم أشاهدها كصورةٍ لانكسار عسكري فحسب، بل كانت علامة لتبدل المعادلة التي حكمت سوريا بعد عقود من الاستبداد.
نحو صيدنايا
صباح اليومِ الثاني، واجهت قرارا صعبا بالاتجاه نحو سجن صيدنايا الذي لم يكن اسم سجن فقط، بل كان رمزاً للرعب في ذاكرةِ السوريين ، وكمراسلٍ موقن بأنّ الفرصةَ لا تتكرر، سألت نفسي ما الذي سأكتبه عن مسلخٍ بشري لم يُسمح بتغطيته يوماً أو نشر أي معلومة عنه؟
خلال رحلة الطريق، شاهدت القرى التي تحيط بصيدنايا وكأنها تنعتق من الاستبداد، جُدرانٌ كُتب عليها عبارات موالية، وأعلام النظام البائد ما زالت معلّقة، وعيون متوجسّة مما هو آتٍ، مُجدداً فتحت محادثتي الخاصة بـواتس أب، وكتبت: "التوثيق هنا ليس التقاط صور فحسب، بل علينا أن نسأل كيف نقوم بتحويل ما كان في السابق خبراً بعيداً لشهادةٍ حيّة"، حاولت أن أتذكر شهادات لناجين قرأت عنهم أو سمعت قصصهم خلال السنوات السابقة، من أصوات المعذبين، وأسماء المفقودين، قصص عن السجن الأحمر. الآن أنا أمام البوابة الحديدية ذاتها، اختلطت علي المشاعر للوهلة الأولى. كان السجن جامداً ومخيفاً، المئات من الأهالي يبحثون عن ذويهم، وكان عليّ أن أعتمد حينها على أدواتي البسيطة عبر الملاحظة الدقيقة، وأخذ الصور بزوايا واسعة، الانطباعات التي التقطها من أهالي المنطقة والأهالي الذين وصلوا باكراً من الشمال السوري يبحثون عن أي شيء لذويهم المعتقلين، مشهد مرعب واختبار حقيقي للمهنة، فهل أكتب والتقط ما أراه، أم أستحضر ذاكرةَ من مروا من هنا ولم يخرجوا؟
مزجت بين العنصرين، الملاحظة العينية وما رسخ في الذاكرة الجماعية، وحاولت وسطَ كثيرٍ من المشاعر أن أركز على الوثائق المرميّة في ممر الدخول للسجن، ألتقط وأدون، دموع الأهالي وبحثهم كان يكفي لأن تنكسر، لكن مسؤولية نقل الحقيقة لازمتني خلال طريقي، بحثت في دهاليز السجن، كنت أستنشق رائحة الموت في كل مكان من السجن، الجنازير وأدوات التعذيب والدماء على الجدران الداخلية، الطوابق السفلية كانت ممتلئة بالورقيات التي حاولت توثيقها ما استطعت، بقايا من أشلاءِ المعتقلين على جدران ذلك المكان والمكبس البشري، مجموعات الدفاع المدني السوري وصلت للبحث في الطوابق السفلية عن ناجين، مشاهد جعلت من كل لحظة شهادة ووثيقة على المسلخ البشري "سجن صيدنايا".
بينما كانت الوثائق تتطاير في أروقة السجن، وجب علي العثور عليها وتصويرها، حتى ولو بالفيديو؛ على أمل اكتشاف أوراق تدين الجناة أو تحمل أسماء متورطين في القتل والتعذيب. التقطت صورا لوثائق تعود لأيام ما قبل تحرير بعض المناطق، تتضمن إحصاءات دخول وخروج المعتقلين شهريا. الدخول ربما يشير إلى نقل من سجون أخرى أو اعتقال جديد، أما الخروج فكان غالبا يعني الضحايا المدفونين في مقابر جماعية متفرقة في مناطق سيطرة نظام الأسد سابقا.
كانت الأرقام صادمة حقا، إذ وثقت بيانات تتحدث عن وجبات الطعام المقدمة للمعتقلين: "حبّة بطاطا مسلوقة وكسرة خبز". والمفارقة أن عدد هذه الوجبات بلغ 3245 وجبة، وربما أكثر وفق وثائق أخرى، في حين لم يتجاوز عدد المعتقلين عند تحرير السجن ــ بحسب روايات أهالي بلدة صيدنايا المجاورة ــ نحو 600 معتقل فقط، ما يكشف عن أعداد مرعبة من الضحايا الذين جرى تصفيتهم منذ بداية معركة "ردع العدوان".
كان السجن جامداً ومخيفاً، المئات من الأهالي يبحثون عن ذويهم، وكان عليّ أن أعتمد حينها على أدواتي البسيطة عبر الملاحظة الدقيقة، وأخذ الصور بزوايا واسعة، الانطباعات التي التقطها من أهالي المنطقة والذين وصلوا باكراً من الشمال السوري يبحثون عن أي شيء له علاقة بأبنائهم، مشهد مرعب واختبار حقيقي للمهنة، فهل أكتب والتقط ما أراه، أم أستحضر ذاكرةَ من مروا من هنا ولم يخرجوا؟
يختلف معنى الصحافة في الميدان عنه في قاعات الدراسة أو غرف التحرير ليصبح المعنى أكثر تعقيدا في منعطفاتٍ تاريخيةٍ كبرى، فأنا لم أكن شاهداً على حدثٍ تاريخي فقط، بل كنت جزءا منه، حاملاً في داخلي ذاكرة مدينةٍ محروقة مع الواجبِ المهني الذي فرض عليّ أن أكون هادئاً في لحظات الصخب، مُدركاً أنّ التحدّي في أن أكون ابن المكان والصحفي المحترف؛ فشعور الفقد والتهجير يلازمني في كل مشاهد الخراب، إلا أني بصفتي صحفيا، كان عليّ تحويل ذلك الألم إلى نصوص وصور يمكن أن تُقرأ بوصفها وثائق حقيقية، لا عبارة عن انفعالات شخصيّة.
صورة معلّقة
ثمة صورة واحدة لاحقتني كثيرا، مشاهد الجنود الهاربين الذين اعتدنا أن نشاهدهم يقصفون مدننا، فهذه المرة كانوا يركضون في طرقات المدن هاربين، لم أشاهدها كصورةٍ لانكسار عسكري فحسب، بل كانت علامة لتبدل المعادلة التي حكمت سوريا بعد عقود من الاستبداد. لقد سألت نفسي كصحفي، هل أصفُ الوجوه التي بانت عليها ملامح الهزيمة، أم أقرؤها كرمزٍ لانتهاء حقبة الخوف؟ تأكدت من أنّ الصورة لا تهمني بقدر دلالتها، فالهروب ما كان مجرّد نهاية الجنود، إنما نهاية سردية بشكل كاملٍ لسلطة مطلقة لم تعد قائمة، فهي شهادة مزدوجة، توثيق لحدث آني وإشارة لتحول رمزي تاريخي، ففي لحظات الانهيار الكبرى لا تكون مهمة الصحافة التقاط الصورة الخام، بل بالكشفِ عن معناها وتركها معلقة في ذاكرةِ الناس للإعلان عن بدايةِ صفحة جديدة ضمن تاريخ جديد.