البحث عن الشرعية الأخلاقية لارتكاب جرائم حرب.. هذا ما يمكن أن نلخص به من رحلة رواية إسرائيلية زائفة خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة زعمت ارتكاب الفلسطينيين لأعمال وحشية كمسوغ لجرائم إبادة جماعية تقوم بها إسرائيل. لكن يبدو أن المنظومة الإعلامية التي روجت تلك الرواية - على نطاق واسع - لم تنتبه لظهور لسلاح جديد وهو "مدققو المعلومات" الذين تمكنوا من كشف زيف الرواية، وساهموا في نزع الشرعية الأخلاقية عن جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل بحق الفلسطينيين في غزة، ليبرز هنا سؤال هام: هل انتهى عصر الأكاذيب السياسية الكبرى التي تُشرعن جرائم الحرب؟
استفاق العالم يوم 10 أكتوبر/ تشرين الأول على رواية تتصاعد على نحو سريع حول قيام مقاتلي حركة "حماس" بقتل وقطع رؤوس أطفال في مستوطنات غلاف غزة خلال الهجوم الذي شنته الحركة صباح يوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023. انطلقت الرواية من تصريح أدلى به جندي إسرائيلي، يدعى ديفيد بن صهيون، نائب قائد الوحدة 71 من جيش الاحتلال، ونقلته قناة i24 الإسرائيلية، وكررته المراسلة نيكول زيديك عبر القناة وحسابات مواقع التواصل الاجتماعي، قبل أن تقرنه بتصريحات أخرى تفيد بأن عدد الأطفال القتلى بلغ نحو 40 طفلًا، لتبدأ الروايتان بالتداخل والانتشار على نطاق واسع على منصات إعلامية كبرى أبرزها سي أن أن، وفوكس نيوز، إذ قدمت وسائل الإعلام الخبر على أن حماس قتلت وقطعت رؤوس نحو 40 طفلا إسرائيليًا، دون أن تقوم أي من تلك المؤسسات بالبحث حول الأدلة على هذا الادعاء الذي لم يكن مُدّعمًا بصور أو مقاطع فيديو تثبت صحته، ولم يتمكن أي مصور ميداني في إسرائيل أن يقدم دليلًا على تلك الرواية.
تبع الانتشار الإعلامي للرواية تبني سياسي لها، إذ زعم الرئيس الأمريكي "جو بايدن" اطلاعه على صور توثق تلك الجرائم، كما ردد مسؤولون إسرائيليون هذه الرواية، إلا أن جهودًا من صحفيين ومدققي معلومات كشفت زيف الرواية مبكرًا.
لا يمكن الجزم بهوية أول من شكك في تلك الرواية، وأشار إلى عدم وجود أدلة، على الرغم من اعتماد منصة Politifact على شهادات كل من الصحفي الفرنسي Samuel Forey، والصحفي الإسرائيلي Oren Ziv، اللذين نفيا يوم 11 أكتوبر/ تشرين الأول توثيقهما لقطع رؤوس أطفال خلال جولتهما الإعلامية الميدانية برفقة جنود الاحتلال في المناطق التي تعرضت لهجوم من مقاتلي حماس، وأن الشهادات الميدانية للجنود الإسرائيليين والمسعفين لم تتطابق مع هذا الادعاء.
إلا أنه بمزيد من البحث يظهر أن العديد من الصحفيين ومدققي المعلومات بدؤوا في التشكيك في تلك الرواية منذ اليوم الأول، ومن أبرزهم الصحفي الاستقصائي الأمريكي Adam Elmahrek، الذي كتب على حسابه على موقع إكس (تويتر سابقا) يوم 10 أكتوبر/ تشرين الأول: "يبدو أن المصدر الوحيد لـ "قطع حماس رؤوس الأطفال" هو الجيش الإسرائيلي، المعروف على نطاق واسع بنشر الأكاذيب والمعلومات المضللة.. أيها الصحفيون، هذا هو ضباب الحرب. سترون جميع أنواع الادعاءات. لا تضخموا المعلومات المثيرة التي لم يُتحقق منها".
المنظومة الإعلامية التي روجت لارتكاب الفلسطنيين أعمال وحشية لم تنتبه لظهور لسلاح جديد وهو "مدققو المعلومات" الذين كشفوا زيف الرواية، وساهموا في نزع الشرعية الأخلاقية عن جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل، ليبرز هنا سؤال هام: هل انتهى عصر الأكاذيب السياسية الكبرى التي تُشرعن جرائم الحرب؟
لم يكتف "آدم" بذلك المنشور، بل أتبعه بمنشور آخر حذر فيه من الأكاذيب الكبرى التي استخدمت في حروب سابقة، إذ كتب عبر حسابه على موقع إكس: "صدام حسين لديه أسلحة الدمار الشامل!".. "العراقيون يلقون الأطفال من الحاضنات!".. "شيرين أبو عاقلة كانت محاطة بالمسلحين ووقعت في مرمى النيران!".. نحن الآن في فترة تنتشر فيها المعلومات المضللة كالنار في الهشيم.
أعقب إشارات آدم وعدد من الصحفيين ومدققي المعلومات إلى افتقار الرواية الإسرائيلية إلى الأدلة نشاط مكثف من منصات تدقيق المعلومات، التي كشف كثير منها - عربية وأجنبية - عن عدم صحة الرواية، وأن أول من أطلقها هو جندي إسرائيلي معروف بكونه مستوطناً ينتمي إلى مجموعة متطرفة.
يمكننا القول بأن الحرب الراهنة على غزة هي أول حرب يتمكن فيها الصحفيون ومدققو المعلومات من دحض رواية سياسية تمثل غطاء لجرائم الحرب، ليصبح تدقيق المعلومات أحد أهم الأسلحة الأخلاقية في مواجهة الحملات السياسية التي تسوّغ جرائم الحرب.
فبعد تأييد غربي حكومي وإعلامي واسع لإسرائيل في أول أيام الحرب على غزة نتيجة الصدمة التي خلّفتها تلك الرواية الزائفة، ظهرت ردود أفعال شعبية مختلفة، وبدأت تتصاعد الأصوات الشعبية في الغرب لرفض القصف الإسرائيلي للمدنيين في غزة، واتهامات لإسرائيل بتزييف الواقع لتسويغ جرائمها، لتتسع هذه الموجة بشكل متدرج، ويخرج مئات الآلاف في عدد من الدول الأوروبية وأمريكا لرفض العدوان الإسرائيلي على غزة. لقد أدت ردود الفعل إلى إقالة وزيرة الداخلية في بريطانيا التي فشلت في إقناع جهاز الشرطة لمنع أكبر تظاهرة مناهضة لإسرائيل شهدتها لندن عبر تاريخها لتخرج بعد ذلك، وتصف جهاز الشرطة بأنه منحاز، قبل إقالتها. ويمكن أن نصف الاحتجاجات حاليًا بأنها أكبر احتجاج شعبي تشهده الدول الغربية ضد إسرائيل لا يمكن أن ننكر أن كشف زيف الرواية الإسرائيلية هو أحد أهم دعائمه.
"يبدو أن المصدر الوحيد لـ "قطع حماس رؤوس الأطفال" هو الجيش الإسرائيلي، المعروف على نطاق واسع بنشر الأكاذيب والمعلومات المضللة.. أيها الصحفيون، هذا هو ضباب الحرب. سترون جميع أنواع الادعاءات. لا تضخموا المعلومات المثيرة التي لم يُتحقق منها".
لم ولن يكون ما صنعه مدققو المعلومات في الحرب سهلًا، ولكنه يدفعنا لتأمل مشهد هام مقرون بسؤال: ما هو مستقبل "مدققو المعلومات" في العالم، وفي المنطقة العربية بشكل خاص بعد هذه الحرب؟ لقد أصبح واضحًا أن مدققي المعلومات المستقلين هم حجر عثرة أمام الحملات السياسية المضللة، فلم يعد من السهل على الشبكات الإخبارية الكبرى أن تمارس انحيازها بشكل مريح، ولم يعد من الممكن للسياسيين أن يمارسوا التضليل دون كشفه، وهو ما يجعل الفترة القادمة أكثر صعوبة.
في أمريكا، التي تم تصنيفها عام 2023 في المرتبة 45 عالميًا في الحريات الصحفية من منظمة "مراسلون بلا حدود"، شنت عدد من الصحف الموالية للحزب الجمهوري هجومًا حادًا منذ بضعة أشهر على مدققي المعلومات، متهمة إياهم بالانحياز لصالح الديمقراطيين، في مقال ما إن نشرته مجلة The free bacon، حتى انتشر بشكل كبير بين وسائل إعلام يمينية هناك، في محاولة للتأثير في الصورة الذهنية لنشاط مدققي المعلومات، وإفقادهم المصداقية التي عملوا على بنائها خلال العقد الأخير.
لا نتوقع أن يكون الحال أفضل في المنطقة العربية، التي "تزخر" بحالات من الاضطراب السياسي الكبير، ورغم ضعف الموارد يقوم مدققو المعلومات بجهود كبيرة لكشف حملات التضليل السياسي، ظهرت بجلاء خلال الحرب على غزة، إلا أنهم يواجهون تضييقيات، كان أبرزها اعتقال مدقق المعلومات المصري كريم أسعد بعد قيام منصة "متصدقش" التي يعمل فيها بكشف تفاصيل حول قضية فساد يتورط فيها عسكريون سابقون في مصر.
ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية في عدد من البلدان العربية منها مصر وتونس وموريتانيا، فضلًا عن النزاعات المسلحة في عدد آخر من البلدان مثل السودان واليمن وسوريا، وأجواء الحرب في فلسطين، يبرز مدققو المعلومات العرب كفرسان رهان لمواجهة حملات التضليل السياسي، إلا أنه يضعهم أيضًا كأهداف محتملة للحكومات والسياسيين، بين التشويه والملاحقة الأمنية.
يمكننا القول بأن الحرب الراهنة على غزة هي أول حرب يتمكن فيها الصحفيون ومدققو المعلومات من دحض رواية سياسية تمثل غطاء لجرائم الحرب، ليصبح تدقيق المعلومات أحد أهم الأسلحة الأخلاقية في مواجهة الحملات السياسية التي تسوّغ جرائم الحرب.
برزت في السنوات الأخيرة جهود لتنظيم عمل مدققي المعلومات بالمنطقة، من خلال إنشاء الشبكة العربية لمدققي المعلومات، فضلًا عن جهود الشبكة الأفريقية لمدققي المعلومات، إلا أنها تظل في إطار التدريب والتنسيق، الذي يمثل في الواقع دعمًا كبيرًا لمنصات تدقيق المعلومات التي تفتقر إلى الموارد والدعم. ولكن مع تصاعد الخطر المحتمل على العاملين بهذا المجال يجب البدء في أفكار أكثر فاعلية لتوفير الحماية لمدققي المعلومات، خاصة مع عدم اكتراث نقابات الصحفيين في المنطقة العربية بمدققي المعلومات، وعدم الاعتراف بهم كجزء من المجتمع المهني للصحفيين. لذلك، فإن أهم ما يجب أن تناقشه غرف الأخبار والمنظمات المهنية العربية حاليًا هو كيف يمكن دعم جهود مدققي المعلومات باعتبارهم سلاحاً مهنياً أخلاقياً فعالا في مواجهة حملات التضليل السياسي، وكيف يمكن توفير الحماية اللازمة لهم ليتمكنوا من أداء دورهم بفاعلية؟