مع بدء العد العكسي، للوصول إلى التاريخ النهائي، الذي سيحدد مصير خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "بريكست"، حان الوقت لإجراء تقييم شامل، لتغطية وسائل الإعلام الأوروبية لهذا الحديث المصيري في تاريخ القارة العجوز. وهذا ما أنجزته جامعة أوكسفورد بشراكة مع مؤسسة رويترز للصحافة في تقرير من 50 صفحة، حول تغطية الصحافة في ثماني دول أوروبية باستثناء بريطانيا، لكل مجريات البريكست من أول أيام الاستفتاء إلى الإعلان عن التوصل لاتفاق بين الحكومة البريطانية والاتحاد الأوروبي، ما يعني أن التقرير يغطي حيزا زمنيا يمتد لسنتين تقريبا.
ومن المفارقات التي يكشف عنها التقرير أن أغلب الصحف الأوروبية تعاملت مع حدث مهم أثر وسيؤثر على مصير القارة بأكملها بحياد سلبي، وتركزت تغطيتها على نقل الوقائع دون الغوص في التحليل والتعمق في خلفيات المفاوضات وتأثيرها على المواطن الأوروبي بصفة عامة، أي أن هذه الصحف تعاملت مع هذا الملف وكأنه شأن بريطاني وليس أوروبيا.
الصحف الأوروبية بين الحياد السلبي والتحيز المبالغ
وتوصل التقرير إلى أن 82% من المواد الإعلامية المتعلقة بالبريكست في أوروبا، لم تتبن أي موقف، بل قدمت المعطيات فقط دون التعليق عليها أو تحليلها، بينما تضمنت 18% من هذه المواد جانبا من إبداء الموقف، والمثير أن المواد التي اختارت أن يكون لها موقف، كانت بغالبية ساحقة مناهضة للبريكست. قد يقول قائل إن هذه الأرقام تظهر حياد وسائل الإعلام، وهذا أمر إيجابي، لكن المؤاخذة على هذه النوعية من التغطية في ملفات مصيرية والمعقدة، أنها تلغي دور وسائل الإعلام في تثقيف المتلقي وإعطائه صورة واضحة عن مجريات الأمور والسيناريوهات الممكنة.
ولم تسلم المواد الصحفية التي لها موقف وإن كانت نسبتها ضعيفة، من السقوط في فخ التحيز المبالغ فيه، حيث تبنت 71% منها موقفا سلبيا من الحكومة البريطانية، كما أنها ركزت على التحديات التي ستواجه بريطانيا في حال الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، عوض الحديث عن تأثير الانسحاب على كل دولة أوروبية على حدة. وينتقد التقرير، كيف أن وسائل الإعلام الأوروبية، لم تظهر أي قلق على اقتصادات دولها بعد انسحاب بريطانيا، وعدم الاكتراث بمصير الاتحاد الأوروبي بعد البريكست.
ويظهر من التقرير كيف تعاملت وسائل الإعلام الأوروبية، بعدم اكتراث مع تطورات البريكست رغم أنها كانت في الكثير من اللحظات دراماتيكية، وهوت بالأسواق المالية العالمية، ذلك أن ثلث المنابر الإعلامية التي تناولتها الدراسة من الدول الأوروبية الثمانية، هي من تابعت المفاوضات والعراقيل.
كما ركزت هذه التغطيات بنسبة الثلثين، على مواضيع بعينها، ويتعلق الأمر بكل من التبادلات التجارية والتأثير على الأسواق المالية، أما فيما يتعلق بالقوانين والمعايير التي سيكون من الضروري تغييرها، فكانت هامشية بالنسبة لهذه الصحف، بل إن قضية مهمة مثل تنقل المواطنين الأوروبيين من وإلى بريطانيا في حال خروج الأخيرة من الاتحاد، حازت فقط على 10% من التغطية الإعلامية، أما قضايا الدفاع والتعاون الأمني فعولجت بنسبة 1% فقط.
فرنسا وألمانيا.. الأولوية للاقتصاد
ومن المفارقات التي تظهرها الدراسة، أن كلا من فرنسا وألمانيا، أكبر بلدين أوروبيين من حيث حجم الاقتصاد، ولهما الدور الأكبر في المفاوضات بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا، ومع ذلك لم ينعكس هذا الوضع على التغطية الإعلامية داخل هذه الدول، ذلك أن الصحف الفرنسية كانت صاحبة ثالث أقل مواكبة للمفاوضات، وحتى عندما تتطرق إليها، فقد كانت تطرحها كتحد خطير بالنسبة لبريطانيا أكثر من كونه سيسبب ضررا للاتحاد الأوروبي وفرنسا، وكشف التقرير أن ثلثي المواد الإعلامية في فرنسا كان لها موقف معاد للبريكست.
كما طغى الموضوع الاقتصادي على 80% من المواد الصحفية الفرنسية حول البريكست، وهيمنت مواضيع من قبيل المبادلات التجارية والعلاقات الاقتصادية والشركات التي قد تنقل مقارها من بريطانيا إلى فرنسا، على حساب مواضيع أخرى تهم المواطن الفرنسي في حياته اليومية، وأهمها قضية التنقل بين البلدين، خصوصا وأن أكثر من 600 ألف فرنسي يقيمون في لندن وحدها.
أما فيما يتعلق بألمانيا، وعلى الرغم من أنها كانت صاحبة ثاني أكبر تغطية للبريكست، بالنظر للدور المحوري الذي تقوم بها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في هذه المفاوضات، إلا أن التغطية لم تخرج من خانة الحياد السلبي بنسبة 92%، وعلى غرار الصحف الفرنسية، فإن نظيرتها الألمانية، تبنت في معظمها موقفا معاديا للبريكسيت، وتم التركيز في 70% من المقالات على تأثير الخروج على بريطانيا، بينما تحدثت نسبة ضئيلة عن مصير الاتحاد الأوروبي بعد خروج المملكة المتحدة.
ويتبين من نتائج التقرير، أن وسائل الإعلام الألمانية تعاملت بنوع من الفوقية مع بريطانيا، من خلال الحديث عن تعويل لندن على برلين، من أجل التوصل إلى اتفاق جيد للطرفين، وذهبت بعض المواد الإعلامية الألمانية، إلى حد التعبير عن الدهشة مما أسمته "ضعف" المفاوضين البريطانيين.
الصحف الأوروبية.. درس لمن يهمه الأمر
وفي تعليقها على نتائج هذا التقرير، قالت الصحفية المختصة بالشؤون الأورومتوسطية، ليلى حداد، والمعتمدة في المجلس الأوروبي، إنها تابعت وسائل الإعلام الناطقة بالفرنسية منذ انطلاق مفاوضات البريكست، ووجدت أن الصحف البلجيكية كانت أكثر مهنية، ومحايدة إلى أقصى حد، بحرصها أولا على تغطية كل قمة أو مناسبة متعلقة بالبريكست، وثانيا من خلال تقديمها تقارير معمقة تشرح خلفيات البريكست، وتذكر القارئ بكل ما حدث منذ اقتراح إجراء استفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي.
وأشارت الصحفية المتخصصة في تغطية أعمال مؤسسات الاتحاد الأوروبي، أن الصحف البلجيكية، لم تكن تقتصر على الحديث عن انعكاسات البريكست، بل كانت تعالج الموضوع من ثلاث زوايا، وهي تأثير الانسحاب على المملكة المتحدة، وعلى كل دولة أوروبية على حدة، ثم على الاتحاد الأوروبي كمؤسسة، مضيفة أن تحقيق الحياد كان مستحيلا في هذا الملف، ولكن الصحف البلجيكية حافظت على موضوعيتها.
أما فيما يتعلق بالصحف الفرنسية، فأكدت ليلى حداد، أن باريس لديها مصالح اقتصادية وينظر إليها كقاطرة للاقتصاد الأوروبي إلى جانب ألمانيا، ولهذا اتضح لها أن الإعلام الفرنسي لم يكن يقدم الصورة كاملة، بقدر ما كان يقدم صورة إيجابية عن الاتحاد الأوروبي، ويظهره بمظهر الأقوى في المفاوضات مقارنة ببريطانيا.
ونبهت إلى أن الصحف الفرنسية ومن خلال تركيزها على الخسائر التي سيعرفها الاقتصاد البريطاني، تريد إيصال رسالة لدول أخرى تفكر في الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ولكنها أقل شأنا من بريطانيا، وكأن هذه الصحف تقول إن أي دولة تفكر في الخروج ستواجه نتائج كارثية على اقتصادها.
استراتيجية التخويف لاستمالة المواطن البريطاني
من جهته، اعتبر الكاتب والصحفي حسام الدين محمد المقيم في بريطانيا، أن الإعلام الأوروبي، اشتغل وفق استراتيجية التخويف والتهويل، وهو بذلك يوجه رسالة لجهتين: الأولى للمواطن الأوروبي الذي يفكر في الانسحاب من الاتحاد، والجهة الثانية هي الرأي العام البريطاني، مشيرا إلى أن "الدعاية الأوروبية"، لها مقومات داخل الشارع البريطاني بعد أن بات أكثر من خمسين في المائة من البريطانيين يؤيدون فكرة البقاء في الاتحاد الأوروبي، وكل هذا الجهد الإعلامي ينصب في اتجاه تنظيم استفتاء ثان حول خروج بريطانيا.
ولفت حسم الدين، إلى أن الصحف الأميركية التي لم تشملها الدراسة كانت متابعة لكل تطورات البريكست، حيث كانت تحذر هذه الصحف من نتائج الخروج، ليس رغبة في التخويف، ولكن للتنبيه إلى أن هذا القرار سيؤدي إلى تنامي نفوذ اليمين الشعبوي في أوروبا، بل إن بعض الصحف الأميركية، كانت تعتبر ستيف بانون مدير حملة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، هو الخيط الناظم أمام كل النزعات القومية في أوروبا وغيرها.
ويفسر حسام الدين، اهتمام الصحف الأميركية بالبريكست، برغبتها في عدم تكرار تجربة ترمب في أوروبا، وعدم انتشار الظاهرة "الترامبية" خارج الولايات المتحدة.