لا يكاد يخلو منبر إعلامي من صور وشومها، إنها الفتاة ذات السبعة عشر ربيعا،خديجة الطفلة المغربية من منطقة أولاد عياد (جهة بني ملال وسط المغرب) التي اتَّهمت أكثر من 12 شابا بالتناوب على اغتصابها لمدة شهرين، بعد اختطافها وحجزها وحرق جسدها بأعقاب السجائر، ووشم جسدها، برموز ورسوم. قضية خديجة "ذات الوشم" أثارت الكثير من الجدل، منذ أول ظهور لها في أغسطس/آب الماضي. قضية هزت الرأي العام وتشعبت فيها الآراء، وخلفت موجة عارمة من الردود المختلفة، التي ما زالت تتناسل وتتبلور ككرة ثلج.
اجتاح هاشتاغ #كلنا خديجة، مختلف منصات التواصل الاجتماعي داخل المغرب، وتجاوزه للخارج، وهزت حملة تضامن واسعة الرأي العام المغربي ومنه العربي والدولي، وأجمع كل المتتبعين أن القضية تنطوي على ظلم وظالمين وطفلة مظلومة، مهما اختلفت الروايات.
ومنذ ظهور خديجة في أول تصريح لها، وانتشار هاشتاغ حملة التضامن معها، توالت التغطيات الصحفية، وتلقفت وسائل الإعلام الحملة من وسائل التواصل الاجتماعي. فهل تمت المتابعة بالتحقيق والتدقيق والتغطية اللازمة؟ وبأية مقاربة تعاملت الصحف والمنابر الإعلامية مع الضحية ومحيطها وعائلتها من جهة، ومع المتهمين وعوائلهم، ومحيطهم من جهة ثانية؟ هل تُحترم أخلاقيات المهنة في التعاطي مع قضايا الاعتداءات الجنسية عموما؟ أم أن الجري وراء السبق والإثارة يبقى غالبا؟
كانت خديجة "ذات الوشم" قد صرحت أن "حياتها ضاعت"، فأي حياة ستبقى لخديجة بعد أن أصبح بيتها محجا، وقصتها تلوكها الألسن بين مكذب ومتعاطف وشامت. لوحظ تنافس المواقع الإخبارية على الاسترسال في الاقتيات على الموضوع والتزايد فيما بينها على من يقدم أكثر كمٍّ من التصريحات من أفواه مختلفة، ومن يعطي معلومات "شخصية وحميمية" أكثر، وصلت لإعطاء الميكرفون لـ"خبيرة" في الوشم أفشت السر المهني وحكمت على الفتاة بالادعاء وأنها وشمت نفسها، وأن أوشمها قديمة. وفي حملة التغطيات المختلفة مُرِّرت مفاهيم تمييزية ضد الفتاة من مثل أنها مدمنة، وأنها غير بكر، وأنها عاهرة، وأنها معتادة على البغاء، في حين أن الفتاة قاصر ومكانها الطبيعي المدرسة.
تغطيات عديدة والحقيقة غائبة
وثّق المصوّر الصحفي "سلوان جورج" في مقال نشرته صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية محنة المهاجرين الذين يحاولون عبور الحدود الأميركية المكسيكية بحثاً عن حياة أفضل، وفي نهاية المقال خاطب زملاءه الصحفيين قائلا "سيكون من المهم للغاية أن يستمر الصحفيون بالعمل عند الحدود، وأن يروا الأحداث بشكل مباشر وأن يتبادلوا القصص والصور مع العالم".
نعم سيكون مهما للغاية لو استمر الصحفيون في العمل من الميدان، ونقلوا المعطيات المتعلقة بالطفلة خديجة، "الضحية ذات الوشم" (17سنة) التي قالت إنها اختُطفت وخضعت للاغتصاب بالتناوب من قبل أكثر من عشرة أشخاص لمدة شهرين، وبظروف معيشها اليومي قبل الحادث وبعده، وبالواقع الثقافي والاقتصادي والأمني للمنطقة. سيكون مهما للغاية لو كشف الصحفيون الخيوط التي نسجت الحكاية، ولو وضعوا الأصبع على الآلة التي أنتجت "المغتصبين"، ماكينة الفقر والتهميش وغياب الأمن وانتشار المخدرات والخمور، وغياب التنشئة الاجتماعية، ومراكز التثقيف والترفيه والرياضة، وقلة المؤسسات التعليمية بأولاد عياد "منطقة الحادث". نعم سيكون مهما جدا لو التصق الصحفيون بالمهنية وبالأخلاق العامة بدل الجري وراء السبق وصناعة "البوز"(أي انشغال الجميع بالحديث عن خبر ما بغض النظر عن أهميته وحقيقته)، وحصد الجيمات والنقرات بعيدا عن حفظ الكرامة والحق ومنطق الرحمة. وسيكون مهما جدا لو أن الإعلام يستمر في التوعية والتحسيس (الإشعار) والتوضيح وتسليط الضوء على التابوهات، وفضح المجرمين.
خديجة ليست الوحيدة
الحادث الذي تعرضت له خديجة ليس الأول من نوعه؛ ففي العام الماضي، أشعل حادث الاعتداء الجنسي على فتاة مغربية في حافلة عمومية لنقل الركاب، الغضب .وأثار حادث الحافلة جدلاً واسعاً على وسائل التواصل الاجتماعي التي ساهمت في فضح القضية وإخضاعها للنقاش العام، عبر هاشتاغ #خليني_ندوز (دعوني أمرّ)، الذي تفاعل خلاله الناشطون مع حادثة الاعتداء الجنسي الجماعي الذي تعرضت له فتاة من ذوي الاحتياجات الخاصة، داخل حافلة للنقل العمومي في الدار_البيضاء، وكانت "خلوني ندوز" هي العبارة التي رددتها الفتاة الضحية عندما كانت تحاول إنقاذ نفسها والإفلات من المراهقين الذين تجمعوا حولها ونزعوا عنها ملابسها.
هاشتاغ آخر #واش_معندكش_أختك (أليس لديك أخت)، صرخة أخرى في نفس الموضوع، حيث كان شريط فيديو قد أظهر محاولة اغتصاب في الشارع العام، ووثق لمحاولة شاب نزع سروال تلميذة تحت كاميرا تصوير زميل له، وهي تصرخ "واش_معندكش_أختك".
وبغض النظرعن تفاصيل وحيثيات كل قصة على حدة، تقول فاطمة الإفريقي، وهي إعلامية مغربية ومدرِّسة إعلام في معاهد الصحافة، "ما يغضبني هيى طريقة التناول الإعلامي لقضايا الاغتصاب والاعتداء الجنسي عموما"، مشيرة إلى أن "هناك أخلاقا مهنية تمنع نشر أخبار الاعتداءات الجنسية على القاصرين وذكر أسماءهم، والإفصاح عن هويتهم، أو صورهم، بهدف حمايتهم من أي مس بالكرامة، أو السخرية، أو الاستغلال".
فاطمة الإفريقي التي تابعت عن كثب ما نشرته وسائل الإعلام المغربية عن موضوع خديجة ذات الوشم، حذرت الصحفيين من السقوط بمبرر السبق في المس بكرامة الناس، ونسيان الإنسانية ومنطق الرحمة.
ويعرف المشهد الإعلامي المغربي حكايات عديدة، كان أبطالها شخصيات عامة، شُهِّر بهم، واختُرقت خصوصياتهم، ونُشرت صورهم، وتعرضت عائلاتهم للإساءة بسبب الإعلام، منهم من غادر أولادهم الدراسة بسبب التشهير.
حدود المسؤولية
هل كان على المنابر الإعلامية السكوت وانتظار أن تتضح فصول قضايا الاغتصاب والتحرش قبل النشر، علما أن النشر على نطاق واسع يسرِّع تدخل السلطات، وتأطير الرأي العام، وتوسيع نطاق التضامن؟ ماهي حدود مسؤولية الإعلام في هذه القضايا التي تعرف حساسية مفرطة في المجتمعات العربية، والتي تعتبر من المسكوت عنه، وقلما يُباح ويُبلَّغ عنها؟
وإذا كان هناك اتفاق في الصحافة على أن حرية الصحافة هي حق لا يقبل النقاش، فهناك اختلاف في تفاصيل ممارسة هذا الحق. حيث ما زال الإعلاميون في المغرب وهيئاتهم وقوانينهم يناقشون حدود احترام الحياة الشخصية، فمثلا هناك منابر تعتبر حياة الشخصيات العامة مصدرا للخبر وتفاصيل حياة المشاهير يوميات تُتابع، في حين تتعامل أخرى مع الأمر بحذر ومسؤولية، وتضع حدودا بين حرية الصحافة وبين التدخل غير المبرر في الحياة الخاصة للأفراد حتى وإن كانوا شخصيات عمومية.
في هذا السياق يقول مختار العمري، الخبير الإعلامي ومدير موقع تيل كيل عربي، إن القاعدة العامة في أي موضوع، هي التبين من مدى صحة الخبر قبل المجازفة، وجمع الأدلة، والإثباتات. ويستدرك العمري أن "الإثبات في موضوع الاعتداءات الجنسية والاغتصاب والتحرش، ليس سهلا، ما يزيد الأمر تعقيدا، ويجعل تناولها صعبا".
الإثارة والسبق تغلب التحري
ويرى المختار العمري أن السعي وراء السبق والإثارة ورفع نسب المشاهدة والقراءة يؤدي في الغالب إلى التسرع في نشر الأخبار، التي تكون عارية من الصحة، ومنها ما يكون إشاعات هدفها تصفية حسابات.
ويلاحظ العمري أن هناك عدم تريث في النشر في قضايا الاعتداءات الجنسية والاغتصاب، وأنه غالبا ما يكون الثمن فادحا.
وفي قضية خديجة يؤكد العمري على ضرورة العمل الميداني، وتدقيق المعطيات، مشيرا إلى أن هناك استسهالا في التناول ونوعا من "الجمع"
للآراء، دون وضوح الهدف.
وإن كانت قضايا الجنس عموما تدخل في الإعلام ضمن قضايا الإثارة، فإن قضية خديجة جمعت "الاغتصاب والتناوب، وبيع الجسد، والاحتجاز والوشم"، وكلها تزيد من الإثارة بعيدا عن المهنية. حيث تُغفل أمور متعارف عليها مثل ذكر الاسم، والعنوان، واسم العائلة، ونشر الصور، واحترام سير العدالة، واحترام الخصوصية وغيرها.
ترى فاطمة الإفريقي أن فضح مثل هذه الجرائم الشنيعة خصوصا ضد القاصرين الأطفال / والفئات الضعيفة والهشة واجب، وأن احترام المهنية ضرورة. وتقول الإفريقي إن الصحفي يعيش دائما مأزقا أخلاقيا في كل خبر، بين توخي الحذر والتبين والسبق والنشر، خصوصا في الميديا الجديدة، والإيقاع الذي تفرضه. وأشارت الإعلامية أن الاستعجالية والسبق غالبا ما يكون على حساب الحقيقة، وعلى حساب الكرامة، وإنه غالبا ما تكون الصحافة قاسية، وفي أحيان أخرى يمارس الإعلام جرائم خطيرة في حق الأسر.
الحقوقية خديجة الروداني، من جهتها، وفي تقييمها لتناول الإعلام المغربي لقضايا الاعتداءات الجنسية عموما وقضايا العنف ضد النساء، (نموذج خديجة ذات الوشم بأولاد عياد) ترى أن التناول تطبعه النمطية ويغيب فيه الانسجام مع الخط التحريري للمنابر. وأشارت الحقوقية أن “البوز" وتحقيق الفرجة، وعدد المشاهدات يظهر وكأنه هو الهدف، ولو على حساب القضية.
ولاحظت الحقوقية أن الهدف من التغطية غالبا ما يكون بعيدا عن تحقيق العدالة، وتوعية المجتمع والتربية والتحسيس.
وترى الروداني أن جانبا من المواكبة الإعلامية للحدث طبعها تمرير أحكام القيمة، وأقوال مؤثرة في مسار قضية أمام القضاء. لاحظت الحقوقية أن هناك نوعا من التسيب في المشهد الإعلامي لا يراعي التناول الحقوقي وأخلاقيات المهنة.
الصحفي ابن بيئته
انتشار قضايا الاغتصاب والتحرش والعنف والاعتداء(تشير الإحصائيات الأخيرة إلى تضاعف جرائم اختطاف القُصر من 800 حالة عام 2016 إلى 1.600 حالة خلال عام 2017) يفرض فتح نقاش جاد، ينخرط فيه كل الفاعلين، إعلاميين ومتخصصين اجتماعيين ومسؤولين، على أرضية مشتركة يكون هدفها العدالة الاجتماعية والإنصاف. وبما أن الحديث في الموضوع المرتبط بالقضايا الجنسية يعتبر من التابوهات في المجتمعات العربية، فمن الطبيعي انتشار إشاعة ثقافة البوح والفضح، ما يتطلب أن يكون للإعلام دور حاسم فيها، عبر التنوير ونشر تربية حقوقية، وتعميم مبادئ المساواة وغيرها.
فالصحفي والإعلامي في النهاية يبقى ابن بيئته ونتاج تربيته، ويبقى تناول مثل القضايا المرتبطة بالمرأة عموما تتجه نحو اتهامها وتحميلها المسؤولية، لتنكشف لا شعوريا تمثلات الصحفي عن المرأة، ويظهر التشبع بالتربية الذكورية.
ترى الإعلامية فاطمة الإفريقي أن نسبة كبيرة من الإعلاميين تبقى محكومة لاشعوريا بتمثلاتها، مشيرة أن نقاش المساواة سهل، والكل يتوافق عليه، لكن الممارسة وما يمرر عبر البرامج ، وعبر الدراما، يكرس عقلية تمييزية، ويظهر تطبيعا دون وعي ودون مقاومة. وتؤكد على ضرورة التأطير الحقوقي والقانوني للصحفيين والمشتغلين في الإعلام.
الملاحظة نفسها تقرها الحقوقية الروداني، التي تعتبر أن الصحفي ابن بيئته، إذا غابت لديه قناعة راسخة أنه رافعة للمجتمع، يسقط في ثقافة سلطوية، وتمييزية ضد النساء.