كانت تركيا وجهة للكثير من العرب القادمين إليها للسياحة وقضاء إجازة الصيف، لكنها لم تكن مستقراً إلا لدراسة أو عمل. واليوم تصبح مستقراً شبه دائم لما يقرب من 4 ملايين عربي -حسب إحصائيات تقديرية- من مختلف فئات المجتمع قسراً لا عن طيب خاطر، إذ ولى كثير من العرب وجوههم إليها بسبب ظروف بلادهم السياسية، وهكذا كبرت الجالية العربية فيها وأصبح لها متطلباتها المجتمعية المختلفة ومنها الإعلام العربي.
إعلام معارض
بدأ الاهتمام بالإعلام العربي في تركيا بعد الثورات المضادة في الدول العربية وتحديداً في مصر، ويعود هذا الاهتمام والنشأة إلى أسباب داخلية وأخرى خارجية، تتمثل الخارجية منها في مواقف الجمهورية التركية السياسية الرسمية والشعبية المؤيدة لثورات الشعوب العربية، ووقوفها حائطاً منيعاً في قراراتها الرافضة للثورات المضادة والتعاون السياسي –على الأقل- مع الأنظمة الانقلابية حتى الآن، مما يعني توفير الحد الأدنى من منع الملاحقات الأمنية وتسليم المطلوبين لبلدانهم، أو ملاحقة المحتوى الإعلامي العربي.
وأما الأسباب الداخلية، فقد ساعد في ظهور هذا الإعلام العربي عدد من العوامل، كان في مقدمتها خروج أعداد كبيرة من العاملين في الحقل الإعلامي المؤيدين للثورات العربية والمُلاحَقين من قِبَل الأنظمة القمعية ما بعد الردة على الثورات، والذين ضاقت أمامهم الجغرافيا العربية برغم اتساعها في الاثنين وعشرين بلدا، منها دول شهدت انتكاسات ثورية، وأخرى مؤيدة للأنظمة القمعية الجديدة.
إن عامل الاستقرار السياسي في تركيا على مدار 16 عاماً من حكم العدالة والتنمية والخلفية الشخصية الإسلامية لمؤسسيه وقيادته حتى الآن، وقربها بموقعها الجغرافي وإرثها الثقافي من المشرق العربي، بخلاف دول أوروبا البعيدة والمختلفة عن الشرق في العادات والثقافات، شَكَّلا عامِلا جَذبٍ للبيئة الإعلامية بكوادرها وطواقمها ومؤسساتها، كما أن سبباً آخر لعب دوراً مهماً يتمثل في اختيار هؤلاء الإعلاميين تركيا مستقراً ولو مؤقتاً هو سهولة الحصول على تأشيرة الدخول، نظراً للوقت الضيق أمام المُلاحَقين من الإعلاميين للخروج من بيئة الخطر والملاحقة الأمنية في بلدانهم. بالإضافة إلى أن طالب الإقامة في تركيا قد يحصل على إقامة سياحية تمتد لسنتين بشكل متواصل، مما يمنح البعض فرصة محاولة الوصول إلى أوروبا كمستقر نهائي عبر تركيا بالطرق الشرعية أو غيرها.
لا يقتصر التواجد الإعلامي العربي في تركيا على العَامِلِين في القنوات التلفزيونية من مقدمي برامج وأخبار أو منتجين ومراسلين فقط، بل يمتد التنوع إلى كافة التخصصات ذات العلاقة بالإعلام الإلكتروني والمرئي والمسموع، مما يجعل الساحة التركية ثرية عربياً بكوادر مهنية من مختلف مستويات الكفاءة والجودة.
لكن هذا التنوع الإعلامي أضر بجانب هام هو جودة الراتب الممنوح لهذه الكوادر من المؤسسات الإعلامية في تركيا، فتعَرَّضَ الوجود الإعلامي إلى مبدأ العرض والطلب، فانخفضت رواتب الإعلاميين إلى ما يقرب من الثُلُث في إطار المؤسسات الإعلامية العربية.
إشكاليات
يبقى لهذا الإعلام "الأجنبي" في دولة قومية غير ناطقة باللغة العربية إشكالياته؛ فالتنوع الجغرافي للإعلاميين المقيمين في تركيا كما ذُكر سابقاً، يعني اختلافاً في الأمزجة والثقافات والاهتمامات والمرجعيات والخبرات. كما أن الناظر إلى الواقع الإعلامي العربي في تركيا، يجده واقعاً مبعثراً، على الرغم من وفرة الكفاءات بمختلف مستوياتها ومجالاتها، كما أنه ليس هناك تمثيل جامع وحقيقي للكتلة الإعلامية العربية في تركيا رغم أهمية ذلك التمثيل، إذ على مستوى الفضائيات يوجد ما يقرب من 13 قناة فضائية عربية، غالبيتها تخاطب جمهورها ومنه المقيم في تركيا الذي لا يتعدى خمسة مليون مقيم على أقصى تقدير، بالإضافة إلى ما يقرب من 10 مواقع إلكترونية إخبارية عربية.
ومن القنوات العربية التي تبث من تركيا، ثلاث قنوات مصرية هي مكملين ووطن والشرق، وقناتان عراقيتان هي الفلوجة والرافدين، وثلاث قنوات سورية هي الجسر وأورينت وسوريا، واثنتان يمنيتان هما بلقيس والنبأ، واثنتان في التغطية العربية هما الحوار والقناة التاسعة.
إذاعة عربية في مجتمع قومي
كما شهدت تركيا في الأول من فبراير/شباط الماضي انطلاق أول إذاعة عربية في إسطنبول باسم "إذاعة مسك". وعن سبب تأسيس الإذاعة العربية الأولى في تركيا، يقول عبد الرحمن منير، مدير الإذاعة "إن الإذاعة تنطلق لتلبية ما يشغل بال المستمعين العرب في تركيا مما يُسهِّل عليهم التعايش مع المجتمع والبيئة التركية"، مضيفاً أن الهدف هو الوصول بالمجتمع العربي إلى حالة من الاستقرار والإنتاج في بيئة العمل الجديدة"، مُدرِكاً حجم التحدِّيات بالقول "إن تعزيز الهوية والثقافة العربيتين في مجتمع قومي كتركيا ليست بالمسألة السهلة، ولكن البدء بها أفضل من التأخير والإهمال".
ومما يعاني منه منتسبو الإعلام العربي في تركيا، عدم استطاعة المؤسسات الإعلامية العربية منح إقامة عمل للعاملين لديها، حسب القانون التركي كونها مؤسسات إعلامية أجنبية، بالإضافة إلى أن القانون التركي يشترط توظيف 5 أتراك مقابل كل موظف أجنبي، وهو الأمر المُرهِق مالياً وغير مُجدِ إنتاجياً من الموظف التركي، كون الإنتاج الإعلامي باللغة العربية وليس التركية، مما يعني عبئاً وظيفياً للإعلامي العربي، بينما هو فرصة للمؤسسات للتهرب من التزامات وظيفية تجاه موظفيها عدا القليل من المؤسسات.
وبمتابعة حثيثة للإعلام العربي عبر القنوات الفضائية، نجد أن غالبية هذه الفضائيات تركز في برامجها ونشراتها الإخبارية على شأنها المحلي الداخلي في المجمل العام، وبالتالي فإن الجهة المُخاطَبَة هي الجمهور ذو العلاقة، بمعنى أنها تَنْتقِد نظام الحكم المعارضة له والتي أجبرها على الخروج من بلادها.
كما تعاني القنوات من إشكاليات التمويل كونها قنوات فضائية معارضة، وارتهان بعضها إلى الممولين حيث ينعكس ذلك في تغطياته الإخبارية ووقوعها في أزمات مالية متتالية بين الفينة والأخرى بسبب الإشكال السابق والملاحقات الأمنية والمالية من قبل الأنظمة المؤيدة للثورات المضادة للثورات العربية للممولين لهذه القنوات، وهناك مشكلة أخرى تتمثل في مستوى التنسيق الإعلامي بين القنوات بعضها البعض لاشتراكها في الهم العربي الواحد.
في ظل هذه الكم من الإعلام العربي ووسائله المختلفة في تركيا، فإنه بات من الضرورة والأهمية أن تكون للإعلاميين العرب حاضنة تقوم على رعاية مصالحهم وتُنظِّم شؤونهم، وفي حال الاهتمام بهذا المجال الإعلامي العربي في تركيا، فمن المتوقع أن يشهد نجاحاً ونقلة نوعية، بسبب ما تواجهه الكثير من العائلات العربية من صعوبة تعلم اللغة التركية أساساً، وذلك مرهون بالتوافق لا التناحر.