بعد المحاولة الفاشلة للانقلاب العسكري في تركيا مساء الجمعة 16 يوليو/تموز 2016، طفت على السطح قضية التوازن والموضوعية، من واقع ممارسات الأجهزة الإعلامية المختلفة. بين التكامل الكلي لأجهزة الإعلام التركية -المؤيدة والمعارضة- في الساعات الأولى للانقلاب، واعتذار"تيجان كاراش" مذيعة قناة "تي أر تي" التركية الرسمية للجمهور على الهواء، بعد أن كانت قد أذاعت بيان الانقلاب عقب سيطرة قواته على مبنى التلفزيون الرسمي، وكان اتفاقهم جميعاً بالوقوف ضد هذه المحاولة الانقلابية، هو إعلاء "المصلحة الوطنية التركية" فوق كل اعتبار، وقد ظهر ذلك جليا في قول المذيعة "هند فيرات" في حديثها لصحيفة "بيلد" الألمانية "أديت عملي، وسأفعل ذلك مجدداً إن تكرر الأمر، فقد أردت أن أترك لطفلتي وطناً بديمقراطية قوية" (1). وفيرات هي المذيعة التركية التي أجرت أول مقابلة مع الرئيس التركي رجب أردوغان، عبر تطبيق فيس تايم بعد إعلان الانقلاب مباشرة.
"العدالة عند حافة الماء"
عقب أحداث 11 سبتمبر، تبنت أجهزة الإعلام الأميركية القاعدة التى تقول "في أوقات الحروب تتوقف العدالة عند حافة الماء"(2)، وعليه تبنت معيار "المصلحة الوطنية" كأحد المكونات الأساسية لمفهوم موضوعية النقل الإخباري، وعمدت إلى التحيز الصارخ لصالح الولايات المتحدة في نقلها للأخبار والموضوعات الصحفية، وقد ظهر ذلك في عدة حوادث داخل مؤسسات إعلامية كبيرة، ولم يكن هذا تحيزاً مؤقتاً فرضته طبيعة الظرف السائد في البلاد آنذاك، وإنما استمرار هذا التحيز لفترة طويلة تم تقنينه بمجموعة من اللوائح والقواعد التى تصبغه بصبغة "منهج الممارسة". كان لذلك الأثر الأكبر في أن أضحت "المصلحة الوطنية الأميركية"، أحد أبجديات الممارسة الصحفية اليومية، ولعل أبرز تلك الحوادث كانت:
- في أكتوبر/تشرين أول 2001 عمم كبار المسئولين في CNN اثنين من التعليمات للصحفيين (3) جاء فيهما:
- إذا أراد الصحفيون عرض أي أخبار سلبية عن الولايات المتحدة، فعليهم تذكير المشاهدين بالهجمات الإرهابية على مركز التجارة العالمي.
- اقترح أحد المسؤولين في أحد هذه التعليمات، استخدام "لغة ممكنة" لو أنهم استشعروا الحاجة لمناقشة موضوع الضحايا المدنيين في أفغانستان فقال "يجب أن يبقى في أذهاننا، عندما نرى تقارير من هذا القبيل من المناطق الواقعة تحت الحكم الطالباني، أن أفعال القوات الأميركية إنما هي رد فعل للهجمات الإرهابية التى قتلت 5000 أمريكي بريء ، وعلينا أن نبقي في أذهاننا عندما نرى مثل هذه التقارير، أن النظام الطالبانى في أفغانستان ما زال يخفي الإرهابيين الذين هللوا لهجمات 11 سبتمبر، التى راح ضحيتها 5000 أمريكي بريء.. وأن البنتاغون كرر التأكيد على أنه يحاول تقليل الضحايا المدنيين في أفغانستان إلى أقل حد ممكن، إلا إذا استمر النظام الطالباني في إخفاء الإرهابيين الذين لهم صلة بهجمات 11 سبتمبر التى طالت آلاف الضحايا الأبرياء الذين يعيشون في الولايات المتحدة الأميركية".
- رفعت معظم الشبكات علما صغيرا للولايات المتحدة على جانب شاشتها أوقات العرض بشكل لافت للنظر.
وهكذا، بدا من الواضح أن خط سير الشبكات الإخبارية الأميركية في تغطية الحرب (الأميركية – الأفغانية)، يتجه بشكل مباشر نحو التحيز لصالح بلادها، وأن التعليمات التى وضعت لذلك كانت بغرض تقنين هذا التحيز وإضفاء المشروعية عليه، ذلك أنه ينطلق من "المصلحة الوطنية للولايات المتحدة".
- وفي حادثة أخرى ترتبط بالتحيز المقنن في تغطية الحرب (الأميركية – الأفغانية)، في 31 أكتوبر/تشرين أول، أرسل رئيس تحرير نسخة "بنما سيتي نيوز – هيرالد" في فلوريدا أحد تعليماته لصحفيي النسخة الورقية لتذكيرهم بالحدود الواجبة في تغطية الحرب (4) جاء نصها:
"بأمر رئيس التحرير التنفيذي هال فوستر: لا تستخدم الصور التي تعرض الضحايا المدنيين للحرب الأميركية على أفغانستان على صدر الصفحة الأولى، حيث فعلت ذلك صحيفتنا في "فورت والتون بيتش" فتلقت المئات والمئات من إيميلات التهديد وغيرها.. وأيضاً بأمر هال: لا تستخدم القصص الإخبارية التى تتصدرها أخبار الضحايا المدنيين للحرب الأميركية على أفغانستان.. ولو احتاجت القصة إلى إعادة كتابتها مرة أخرى لتقليل أهمية الضحايا المدنيين فافعل ذلك. والاستثناء الوحيد لذلك هو: إذا ضربت الولايات المتحدة دارا للأيتام أو مدرسة أو بعض المرافق المماثلة ومحصلة الضحايا كانت من الأطفال أو احتوت على المئات منهم".
وكان من الممكن أن يجد ذلك سبيل للتفسير، بأن ذلك وضع مؤقت فرضته طبيعة الحدث الذي كان صدمة أميركية بكل ما تعنيه الكلمة، إلا أن الاهتمام بإيراد ذلك ضمن اللوائح المنظمة للعمل في الصحف، لتحديد أطر التغطية للصحفي، بغض النظر عن الظروف الداخلية والخارجية المحيطة بالحدث الذي يغطيه، تشير صراحة إلى محاولة إضفاء المشروعية على هذا الأسلوب في التغطية، بغض النظر عن عمدية التلاعب بالوعي الجماهيري الذي تحمله صراحة هذه التعليمات. كما أن إدراج تلك التعليمات ضمن تعليمات ولوائح مكتوبة ينذر ببقائها واستمراريتها، لتشكل أحد دعائم السياسة العامة للممارسة داخل المؤسسة الإعلامية .
وقد دللت على ذلك الحادثة التى جاءت بعد سبعة شهور من الهجوم، بما أكد استمرارية وثبوت هذا الأسلوب في تغيير واقعي للعقيدة الصحفية الأميركية في أهم مبادئها وهو "الموضوعية"، فقالت مراسلة الواشنطن بوست "سيسي كونولي" على الهواء مباشرة "إن نقد الإدارة أمر غير مناسب"، وكانت المراسلة قد وبخت من جريدتها كرد فعل لعمود نشرته مؤخرا تؤيد فيه الإدارة الأميركية، ثم ظهرت المراسلة على قناة فوكس نيوز سانداي في 14 أبريل/نيسان 2002 متحدثة عن خطاب لـ "غور" فقالت "لو أن ذلك كان في أكتوبر 2000 لكان خطابا عظيما، صلبا، موضوعياً، وجيد المشروعية للتحدث عنه كقضية داخلية، ولكن في ظل الوضع الحالى للحرب الخارجية على الإرهاب، لا يبدو ذلك ملائماً الآن". وبعد ذلك بأسبوع كتب المسؤول عن باب الشكاوى في الواشنطن بوست دون الإشارة إلى اسم كونولى "جيد أنه ليس من الملائم، ولكن على رئيس التحرير أن يذكِّرها أن تعليقات المراسلين ضد سياسة الواشنطن بوست".
المتاح المقبول عوضا عن الأخلاقي المطلق
وبينما أكدت تلك الحادثة على المكونات الرئيسية للموضوعية مثل الحياد والتوازن وفصل الخبر عن الرأي، فقد نبهت إلى دخول مؤشر "المصلحة الوطنية" بقوة يكاد يلغي بها باقي المعايير الفرعية – سالفة الذكر – للموضوعية، وعليه أخذ المعيار دورته من الانتشار والقبول داخل الولايات المتحدة، وانتشر منها إلى أوروبا وباقي أنحاء العالم، وأصبح انتهاكه أوالحياد عنه انتهاكاً للمعايير الأخلاقية للمهنة.
وذلك رغم كون "المصلحة الوطنية" انحيازا في الأساس، والانحياز هو الانتهاك الصريح والأول للموضوعية، والذي يعني وجوده انتفاءها، إلا أن واقع الممارسة المحكوم بالظروف والأحداث البيئية، أَتى ليفرض على أصحاب النظريات الأخلاقية، التخلي عن مثاليتهم في "الأخلاقي المطلق" للمعايير والقبول بواقع "المتاح المقبول"، فيصبح التحيز أحد مؤشرات الموضوعية عندما يتعلق الأمر بالصالح الوطني.
وهو ذات المعنى الذي أكدت عليه وسائل الإعلام التركية عشية الانقلاب العسكري الفاشل وما تلاه، من واقع ممارستها الإعلامية التي وقفت في خانة المقاومة والرفض للخيار العسكري، ثم التنحي عن نقد السلطة أو توجيه اللوم لأي من ممارستها التي تبعت المحاولة الانقلابية، انطلاقا من رؤيتهم للصالح الوطني للمجتمع التركي في وقت الأزمة.
هوامش
(1) http://www.huffpostarabi.com/2016/07/19/story_n_11073790.html
(2) Jamieson. Kathleen Hall& Waldman. Paul (2004), The Press Effect: Politicians, Journalists, and the Stories that Shape the Political World, USA; Oxford university press
(3) Jamieson. Kathleen Hall& Waldman. Paul (2004), Op.cit
(4) Jamieson. Kathleen Hall& Waldman. Paul (2004), Op.cit
(5) Jamieson. Kathleen Hall& Waldman. Paul (2004), Op.cit