بين واجب وواجب
كانت المرة الأولى التي أزور فيها المغرب. إنها سنوات طوال منذ تشكّل وعيي ووجداني وأنا أقرأ عن أخباره وعن حضاراته، عن أمجاد سطرت على أرضه منذ فجر التاريخ إلى أن هوى تحت نير الاستعمار باختلاف أشكاله وحتى نهوضه وثورته وصولا إلى دولته الحديثة.
ينتابك الفضول لزيارة هذا البلد، وبرنامج تحركاتك لا تكاد تتسع له أيام الإجازة العائلية الأولى منذ فترة طويلة تخللتها تغطيات لحروب وكوارث وتوترات وانتخابات.
وبعيدا عن التذمر فقد سنحت لي الفرصة في أن أرى على عجل الرباط والعرائش وأن استمتع بعراقة طنجة وأن أتجول في شفشاون، وأن ألقي نظرة خاطفة على فاس أولى العواصم ومكان أول جامعة في العالم بمعناها الحديث، وكنت عاقداً العزم أن أملأ وجداني قبل سمعي و بصري من تراثها في اليوم التالي أو هكذا ظننت. لكن حين وقعت الكارثة وجدتني عالقاً بين واجب المهنة من جهة وواجب الالتزام مع عائلتي في قضاء وقت طال انتظاره. لقد انتصر نداء المهنة في الأخير كما هو الحال دائما.
حين تكون جزءا من الحدث
الحادية عشرة ليلاً بتوقيت المغرب، الواحدة بتوقيت مكة المكرمة، كنت أستعد لأغمض عيني حتى آخذ أكبر قدر من الراحة استعدادا ليوم حافل أكتشف فيه معالم فاس قبل أن ينقلب كل شيء.
للوهلة الأولى ظننت أن ابنتي حفصة هي من تُحرك السرير للهو، لكنني على الفور أدركت أنها تغط في نوم عميق. بعدها وخلال ثوان كنت وعائلتي خارج الغرفة مسرعين إلى بهو الفندق؛ فهذا الذي يحدث ما هو إلا زلزال بلا ريب.
كيف لا نعرف الزلزال، وقد كنا شهودا على زلزال عنيف قبل أشهر، عشناه واقعاً في تركيا، وعشت أنا ارتداداته على الهواء مباشرة أثناء تحضيري لإحدى النشرات يوم ضربت هزة ارتدادية بقوة 6.4 ولاية هاطاي جنوب تركيا.
التلفزيون الرسمي المغربي - حينها - لم يكن أول ناقل للخبر لكن وكالات الأنباء وبعض الصفحات الإعلامية شرعت في تناوله. لم أكن بحاجة للتأكد من وقوعه بل كنت أسعى لمعرفة مركزه وشدته. كنت أتوقع نتائج كارثية أكبر مما حدث لكن خاب ظني ولله الحمد؛ فأنا في فاس التي تبعد عن مركز الزلزال أكثر من خمسمئة كيلومتر والشدة المسجلة فيها كانت تفوق الخمس درجات، فما الذي قد حدث في مركز وقوعه؟!
بعد توفير مكان مؤقت لقضاء الليلة لم يخطر في بالي إلا شيء واحد، هو أن الجزيرة ستكون بحاجة لفِرَق أكثر للتغطية. وقتها تذكرت أن زميلي وصديقي الأستاذ المختار العبلاوي الذي التقيته أول مرة في الدوحة قبل أقل من شهر من وقوع الزلزال كان قد ذهب إلى واحدة من الدول الإفريقية لتغطية التحركات هناك، وليس ثمة إلا مراسل واحد فقط هو الزميل عبد المنعم العمراني، ووصول فرق للتغطية سيتطلب على الأقل يوما أو أكثر.
المثابرة أو الإدمان على العمل أو سمه ما شئت كان الدافع لأن أخبر الزملاء في الدوحة على استحياء أنني موجود مصادفة في المغرب!
المثابرة أو الإدمان على العمل أو سمه ما شئت كان الدافع لأن أخبر الزملاء في الدوحة على استحياء أنني موجود مصادفة في المغرب!
الاستعداد للانضمام للتغطية
الثامنة صباحاً بتوقيت المغرب، العاشرة بتوقيت الدوحة، يتصل بي الزملاء في قسم المراسلين لإخباري بضرورة التوجه في أسرع وقت إلى مدينة مراكش للمشاركة في التغطية.
كانت هناك عقبتان في طريق الانضمام إلى هذه المهمة؛ الأولى هي أنني أحتاج على الأقل إلى سبع أو حتى ثماني ساعات للوصول إلى المكان بسبب بُعد المسافة بين المدينتين، والثانية هي اصطحاب عائلتي إلى مكان ما يزال يتعرض إلى هزات ارتدادية. استقر القرار أن أحجز لهم في أول طائرة تتجه من مراكش إلى إسطنبول والتي كانت مبرمجة بعد 48 ساعة تقريبا نتيجة الإقبال الشديد على الحجوزات.
ظروف التغطية والصعوبات
وصلت إلى مدينة مراكش في حدود الساعة الخامسة تقريبا بالتوقيت المحلي. كنت أقود السيارة باتجاه الفندق ماراً بشارع الخليج المشهور المحاذي لسور المدينة الأثري الذي بني في عهد المرابطين والذي تهدم جزء منه نتيجة الزلزال. المشهد أمامي كان عبارة عن آلاف الناس ومئات العائلات التي وجدت في المساحات الخضراء القريبة من السور ملاذاً لها. كان مشهدا غريبا على أهالي المدينة التي لم تشهد هذا النوع من الكوارث في تاريخها الحديث.
شرعت مباشرة في الانخراط في التغطية، أولى المداخلات كانت من حيث "هَرَب" العائلات، أقل من دقيقة أمضيتها في بداية الرسالة المباشرة أتحدث فيها عن مشاهدات لأعطي الميكرفون للذين عاشوا الحدث. عائلات شرعت تتحدث عما عاشته خلال الساعات المنصرمة؛ كيف اضطرت للخروج هائمة لا تلوي على شيء في الشوارع والأزقة، في مراكش الحمراء التي كثيرا ما يجافي أهلها النوم في موسم الصيف المليء بالسياح.
تمثلت أولى الصعوبات في اللغة، جلّ الناس كان يفضل التحدث باللهجة المغربية الدارجة التي لا أدّعي - حتى بعد إمضاء بعض الوقت في المغرب محاولاً تعلم الكثير من مفرداتها و أساليب التعبير فيها - أنني أفهمها، فما بالك بمواطني المشرق العربي. لا يمكن أن نجبر الناس على الحديث بغير اللهجة التي ألفوها، و حتى لو كانوا قادرين على التحدث بلهجة عربية بيضاء - كما في المصطلح الدارج - فهؤلاء أناس لا يزالون يعيشون هول الصدمة الأولى ومنهم من فقد الدار و الأهل وسيكون من الفظاظة وحتى من سوء الأدب أن نجبرهم على التحدث بلهجة أوضح، و عليه كان القرار هو أن نوجز بعد فراغ المتحدث من كلامه ما قاله بالفصحى. و ليس هذا فحسب بل إنني كنت أسأل السؤال بالعربية الفصحى أولا ثم أعيده قدر الإمكان بالدارجة حتى يتمكّن المتحدث والمتلقي من الفهم والتفاعل مع الحدث.
لا يمكن أن نجبر الناس على الحديث بغير اللهجة التي ألفوها، وحتى لو كانوا قادرين على التحدث بلهجة عربية بيضاء فهؤلاء أناس لا يزالون يعيشون هول الصدمة الأولى وسيكون من الفظاظة وحتى من سوء الأدب أن نجبرهم على التحدث بلهجة أوضح.
من الصعوبات الأخرى التي لطالما أسهبت في الحديث عنها هي جغرافية مكان الكارثة نفسه، فالزلزال أصاب بالضرر أكثر ما أصاب القرى والبلدات أو الدوارات/الضيع في منطقة جبال الأطلس، وهي بَلدات وتجمعات سكنية متركزة في أعالي الجبال يصعب الوصول إليها في الظروف الاعتيادية؛ فالطرق شقت وسط الجبال تشرف كل واحدة منها على جرف أو وادٍ يضيق بالسيارة الواحدة.
وما زاد الأمر صعوبة هو قوافل السيارات من المبادرات الأهلية أو بعض الجهات الحكومية وغير الحكومية التي راحت تتقاطر من كل مكان من المملكة تحمل المساعدات العينية والإغاثية.
بين الصحفي والإنسان
لعل الصحفي حين يطول به المقام في تغطيات الكوارث أو الحروب يصاب بحالة من التلبد في المشاعر وألفة غير محمودة بينه وبين مشاهد الدمار أو الضحايا، خاصة إن كانت بعض تلك التغطيات قد وقعت في بلده الأم، و كان شاهداً على فقدان الكثير ممن يعرفهم سواء من الأقارب أو الأصدقاء، لكن هذه ليست حقيقة مطلقة.
كل من قابلناهم في تغطية الزلزال هذه كان يتسم بنوع من الصبر والجلد ورضاء ملحوظ بقضاء الله وقدره، لكن لابد من بعض القصص التي تعود بمشاعرك إلى سيرتها الأولى وتخرجك من ألفة الدهشة التي انطبعت في وجدانك.
قصة سفيان من دوار تكيخت في إقليم الحوز كانت الأقسى، سفيان فقد أحد عشر فرداً من عائلته من بينهم أمه وبعض أشقائه.
حدثنا سفيان عن مشيه لأربعة كيلو مترات بعد أن انقطعت الطرق نتيجة الانهيارات الصخرية واستخراجه برفقة أربعة شبان آخرين من أبناء القرية سبعين جثة من أصل سبعة وسبعين شخصاً هم تعداد سكان هذا الدوار. لا يمكن أمام مثل هذه القصص إلا أن تحني الرأس أو أن تذرف عبرتين تعاطفاً وحزنا على مثل هذه المآسي. أما ما زاد الأسى في قصته بالتحديد فهو مناجاته عبر الشاشة لمن يستطيع أن يساهم في إنقاذ من بقي وعبارته التي ظل يرددها على الهواء قائلاً: (الشتاء قادم إلى هنا، أغيثونا قبل أن نلحق بمن قضى).
لا يمكن تمالك المشاعر كصحفي وكإنسان وأنت تستمع لمثل هذه الحكايات وغيرها مما يفطر القلب، فإن كان لابد من ذلك فالأفضل أن تنهي رسالتك المباشرة أو أن تتنحى جانباً حتى تترك لأصحاب الكارثة الفرصة لإيصال ما يعيشونه للناس دون وساطتك.
مرة أخرى لا يمكن تمالك المشاعر كصحفي وكإنسان وأنت تستمع لمثل هذه الحكايات وغيرها مما يفطر القلب، فإن كان لابد من ذلك فالأفضل أن تنهي رسالتك المباشرة أو أن تتنحى جانباً حتى تترك لأصحاب الكارثة الفرصة لإيصال ما يعيشونه للناس دون وساطتك.