ينتظر الصحفي الغزّي هاني ياسين (22 عامًا) بفارغ الصبر نشر المادة الصحفية التي أعدّها مؤخرًا لصالح موقع إلكتروني عربي يعمل معه بنظام القطعة "الاستكتاب"، حتّى يصبح المبلغ المالي الخاص به مستحق الدفع، مع نهاية شهر ديسمبر/كانون الأول، حسب الجدولة المالية المتبعة من قبل الموقع.
الصحفي ياسين أعد للموقع الذي يعمل فيه منذ بداية هذا العام ثلاث مواد، نشرت الأولى منها في شهر فبراير والثانية في شهر مارس والثالثة ما زالت تنتظر، وحين طالب بمستحقاته المالية عن المادتين المنشورتين، أخبرته إدارة الموقع أنّها تدفع للكاتب بعد أن يستحق له ثمن ثلاث مواد على الأقل.
يقول ياسين الذي تخرج حديثًا من قسم الصحافة في الجامعة الإسلامية: "اجتهدت في إرسال الأفكار المميزة والحصرية للموقع كي أستطيع إقناع إدارة التحرير بقوتي كصحفي، لكنّ أغلبها رُفِضَ بدعوى أنّها غير موافقة لسياسية الموقع"، مشيرا إلى أنهم في إحدى المرات وافقوا على فكرة، فشرع في إنجازها واستغرقت منه أكثر من أسبوعين، لتُرفض مادته في النهاية، فيخسر الجهد والوقت والمال في آنٍ واحد.
ما تحدث به الصحفي ياسين حول المشكلات التي تعترض العمل بالقطعة من داخل قطاع غزة، ليست إلا جزءًا يسيرًا من مجموعةٍ كبيرة من مشكلات أخرى تحاصر واقع هذا النمط من العمل في فلسطين على وجه العموم.
مهزلة "التطوع"
الصحفية هدى العف (26 عامًا) التي بدأت العمل بنظام القطعة منذ ثلاث سنوات ترى أن بعض المؤسسات الصحفية التي تعتمد هذا النمط من العمل، سواء كانت داخلية أو خارجية، تستغل الصحفي المتعاون معها بصورة فجّة، وتتعمد التشكيك في مضمون المادة المقدمة بهدف التقليل من قيمتها المالية.. "ولا تعطيه بدائل مالية عن مواصلاته أو اتصالاته ولا توفر له التأمين الصحي والاجتماعي، ولا حتى الضمان الوظيفي"، تضيف.
عطفاً على ما سبق تسوق هدى مثالاً فتقول: "بدايتي في هذا المجال كانت مع إحدى الصحف اللبنانية عام 2015، التي توقفت عن العمل بعد فترة قصيرة، وبهذا انتهى عملي، لم أحصل على أي بدلات مالية ولا تعويضات، لأنّي ببساطة مصنّفة كصحفية بالقطعة".
وتوضح أن المؤسسات المحلية تلجأ للتعامل مع الصحفي المبتدئ بنظام القطعة، بعد أن تكون قد استنزفت طاقته بمدة تدريب وتطوع لا تقل في العادة عن ستة أشهر وقد تصل أحيانًا لسنةٍ كاملة، وفي تلك الفترة تكون قد استفادت من كل ما أنجزه الصحفي من تقارير ومواد صحفية دون أن تقدم له أي مقابل.
الطريقة التي يُعامل "صحفيّو القطعة" –والحديث لهدى- تكون قائمة على الاستخفاف والاستهتار.. "ففي بعض الأحيان ينتظر الصحفي أياما طويلة من أجل تلقي ردٍّ على رسالة ما بسيطة كاستفسار مثلاً، وبالنسبة للقيمة المالية، فهي تصل في بعض الأحيان إلى أقل من 13 دولارا على المادة أي ما يعادل مبلغ (50 شيكل) فقط".
وكان جهاز الإحصاء المركزي الفلسطيني، كشف في دراسةٍ رسمية حديثة، عن أن نسبة البطالة في صفوف الخريجين الذين يحملون شهادات في تخصصات الصحافة والإعلام بلغت 48.2% من المجموع الكلي للقوى العاملة.
كما أظهر استطلاع رأي للصحفيات في قطاع غزّة أجرته مؤسسة "فلسطينيات"، أنّ نسبة الصحفيات العاملات بنظام القطعة تبلغ 45.7%، فيما عبرت 83% منهن عن عدم رضاهن عن المقابل المادي الذي يتلقينه مقابل العمل، ففي إجابة عن سؤال حول أقل مكافأة مالية تلقته الصحفية مقابل عمل صحفي، كانت الإجابة داخل الاستطلاع "أقل من 50 شيكل"، فيما ذكرت ما نسبته 77.1% منهن أنهن تعرضن للاستغلال المادي خلال العمل في هذا المجال(1).
تمييزٌ في التعامل
أمّا الصحفية نجلاء السكافي، وهي مطلعة بشكلٍ كبير على آليات العمل بنظام القطعة في غزّة خلال السنوات الأخيرة، وبدأت العمل به قبل عدّة سنوات، توضح أنّ من أبرز المشاكل التي يواجهها الصحفيون العاملون في هذا المضمار–وللأسف- توسّع مجال المنافسة "غير الشريفة على الأغلب"، إذ أنّه يمكن أن يجد أحدهم عملاً بالقطعة مع موقع ما، فترى آخر قد راسل الموقع نفسه كصحفي قطعة عارضا على إدارته مبلغًا أقل بكثير من ذلك الذي يأخذه الأول، كما تقول.
مشكلةً ثانية تلخصها نجلاء بقولها: "بعض المؤسسات المحلية، خاصّة العاملة في الضفة الغربية، تتعامل بتمييز واضح مع الصحفيين العاملين بنظام القطعة لديها عن أولئك الذين يراسلونها بالقطعة من غزة".
وتذكر أن بعض المؤسسات تمنح لصحفيي الضفة الغربية بدلًا ماليًا قد يصل لـ 80 دولارا على المادة الواحدة، بينما المقابل المادي الذي يتلقاه صحفيو غزّة حال أنجزوا نفس المواد، وربما بجهد أكبر ومستوى تحريري أعلى بكثير، لا يتعدى الـ 50 دولاراً.
وتشير إلى أنّ المؤسسات الصحفية الخارجية غالبًا ما تحوّل مستحقات صحفيي القطعة من خلال شركات معاملات مالية دولية أو عن طريق الحسابات البنكية، وفي معظم الحالات يتحمل الصحفي تكلفة التحويل الذي يصل أحيانًا لـ 14 دولار.
استنزاف وتحايل
الأمر لا يقف عند هذا الحد، فهناك العديد من حالات النصب والاحتيال التي تعرض لها صحفيو قطاع غزّة العاملين بالقطعة. تمكن معدّ التقرير من رصد مجموعة منها، مع التحفظ على أسماء أصحابها -بناء على طلبهم خشية أن يخسروا مصادر رزقهم- وأسماء الوسائل الإعلامية منعًا للتشهير.
الحالة الأولى كانت من قِبل موقع إلكتروني خاص بصحيفة عربية، أعلن عن حاجته لعاملين بنظام الاستكتاب "القطعة"، قبل حوالي عام. آنذاك تواصل معه أربعة صحفيون من غزّة وقدموا أفكارًا لتقارير تمت الموافقة عليها. وخلال فترة أنجز الصحفيون الأربعة حوالي عشر مواد صحفية ما بين تقارير وحوارات وغيرها، ونشرت جميعها على الموقع الإلكتروني التابع للصحيفة، وفي كلّ مرة يسأل فيها الصحفيون الموقع عن قيمة المكافأة المالية المرصودة لهم، يتحجج الموقع أنّ الأمر يتم دراسته من قبل الإدارة.. حدث هذا منذ حوالي ثمانية أشهر، وحتى الآن لم يصلهم أيّ ردّ.
حالةٌ أخرى عاشها صحفيٌّ حديث التخرج من جامعة الأزهر، إذ تواصل في شهر يونيو/حزيران الماضي، مع أحد المواقع الإلكترونية الصحفية العاملة في منطقة المغرب العربي، وقدم لهم مجموعة من أعماله وسيرته الذاتية وطلبوا منه وقتها إعداد مادة تجريبية، وبالفعل أعدّها وتم الموافقة عليها ونشرها، وأخبروه أن التحويل المالي يتم من طرفهم كل ثلاثة أشهر، وعلى ذاك الأساس استمر بالعمل لصالحهم بجهدٍ واضح حتى وصل عدد الأخبار التي أرفد الموقع بها إلى ما يزيد عن 200 خبر من غزة.
مرّت الأشهر الثلاثة، وحين حان موعد الدفع، قالوا إنهم يدفعون المال لقاء كل خبر بما يوازي عدد القراءات التي تحققها المواد المنشورة! ولأن الموقع حديث العهد، ولا يسجل قراءات عالية بعد، فقد بلغت قيمة مكافأته عن كل تلك الفترة، وكل تلك الأخبار أقل من 100 دولار، بحسب الصحفي صاحب التجربة.
النقابة ونطاق الدولة
تعقيباً على هذه القضية، يقول نائب نقيب الصحفيين في فلسطين تحسين الأسطل: "التوجه العام لدى العديد من المؤسسات الصحفية المحلية والدولية يذهب نحو فكرة التشغيل بالقطعة، لأنّ هذا الأمر يحقق لهم منتجا صحفيا عالي الجودة، وقائما على التنافسية، دون أيّ تبعات قانونية وضمانية، لكن هذا لا يمنع الصحفي في أن يطالب بعقدٍ تنظيمي يوضح العلاقة بينه وبين المؤسسة التي يعمل لصالحها".
ويبيّن أن الوضع الصعب الذي يعانيه المجال الصحفي في فلسطين، وقلة فرص العمل في المؤسسات الإعلامية، وقلة المؤسسات النظامية والمعتمدة أساساً، يدفع الصحفيين لقبول العمل بنظام القطعة، ففي كثير من الأحيان يكون الصحفي–سيما حديث العهد- متشوقًا جدًا لرؤية اسمه في وسائل الإعلام المختلفة فيندفع نحوها بشدة، الأمر الذي يسهل عملية استغلاله، ويفقده حقه في الحصول على وثائق أو عقد يضمن أتعابه ومستحقاته.
وينوه إلى أنّ النقابة لا تمتلك الأدوات التي يمكن تفعيلها لتحصيل حقوق الصحفيين العاملين بالقطعة من المؤسسات التي لا تمنحهم مقابلا عادلا، خاصّة إذا ما كانت تلك المؤسسات خارج نطاق البقعة الجغرافية "فلسطين"، مضيفًا "لكننا نعمل جاهدين على توعية الصحفيين بحقوقهم وتنبيههم إلى الأمور التي يجب مراعاتها عند التعامل مع مؤسسات خارجية أو داخلية بنظام القطعة"، مؤكدًا أنّ النقابة تتعامل مع كافّة الشكاوى التي تصل إليها في هذا الإطار.
وهكذا، يقبل الصحفيون في غزة العمل بنظام القطعة، لأنه لا بديل أمامهم، ففرص العمل في المكاتب الصحفية والشركات ووسائل الإعلام المحلية النظامية تكاد تكون معدومة، وحتّى إن وجدت في بعض الأحيان فإنها تخضع بالأساس لتقسيمات حزبية فئوية، لتعكس حالة الانقسام السياسي والاستقطاب الحزبي الذي يعيشه المجتمع الفلسطيني منذ عدّة سنوات.
من جهتي، حاولت التواصل مع أكثر من مؤسسة تعمل بهذا النظام، لكني لم أتوصّل برد.
هامش
(1)- جاء الاستطلاع ضمن ورقة بحثية أعدتها الصحفية إسلام الأسطل حول واقع تشغيل الصحفيات في فلسطين بالقطعة، وعُرضت الورقة خلال مؤتمر نظمته مؤسسة فلسطينيات تحت عنوان "الإعلاميات يتحدثن 3"، في نوفمبر/تشرين الثاني 2018. ونُشرت الورقة في كتيب المؤتمر الذي وُسم بالاسم ذاته "الإعلاميات يتحدثن 3".