كان يوماً شتوياً، عندما أنهيت دوامي في الجامعة ظهراً، وهرولت نحو مكتب الصحيفة التي أعمل بها، وصلتُ مبتلّاً ليستقبلني المحرر ومعه معلومات أساسية مكتوبة على ورقة لأحد الشخصيات السورية التي قدّمت نموذجاً ناجحاً، وقال لي "أنجز "بروفايلا" عن هذه الشخصية"، ثم عاد إلى مكتبه.
على عجل مسحت آثار المطر عن وجهي وجلست في المكتب قرب المدفأة وفتحت الحاسوب لأبدأ العمل على إعداد البروفايل المطلوب.
بعد أقل من ساعة نهضتُ مُعلناً إعداد البروفايل، حيث بحثتُ عن هذه الشخصية عبر الإنترنت، وحضّرت تقريراً من 500 كلمة، يتضمّن السيرة الذاتية لهذا الشخص من حيث مكان وتاريخ الولادة ومكان الدراسة الابتدائية والثانوية والجامعية والتخصّص والحالة الاجتماعية، وكيف بدأ مشوراه وكيف تمكّن من تحقيق النفوذ وتدرّج في المناصب التي نالها حتّى لحظة إعداد التقرير.
عدتُ إلى مكتب المحرر وأخبرته أنّني أنجزت البروفايل المطلوب، حينها بدت علامات استغراب على وجهه بأنّني أنهيت البروفايل بهذه السرعة.
عندما عرضت عليه البروفايل، مرّرَ عيناه عليه بسرعة، ثم أعاده لي، وقال لي: "أريد بروفايلا.. هذا ليس بروفايل".
ما بين فيتشر الشخصيات والبروفايل
الخطأ الذي وقعتُ فيه أمام المحرّر لم يكن خطأي وحدي، بل خطأ نسبة كبيرة من وسائل الإعلام في العالم العربي، التي لا تفرّق بين نوعين من "تقارير عرض الشخصيات" وهما "فيتشر الشخصية والبروفايل"، فالتقرير الذي لم يستغرق ساعةً واحدة بين يديّ والذي استقيتُ معلوماته من بعض المواقع الإلكترونية حول ما نُشر عن الشخصية، لم يكن برفايلاً بل كان فيتشرا لعرض الشخصية ليس إلّا.
خلال بحثي في وسائل الإعلام الموجودة في العالم العربي، لاحظتُ وجود خلط في النوعين الصحفيين، وهما فيتشر الشخصية والبروفايل، لكن أساتذة الإعلام يفرّقون بينهما، ليس من حيث الأسماء وحسب، وإنّما بحسب محتوى كل منهما وحجمه ونوع المعلومات الحصرية، إضافةً لتوقيت عرض كل منهما.
يعمد فيتشر الشخصية إلى تناول محطّات رئيسية في تلك الشخصية، حيث يبدأ بعرض المعلومات الأساسية منذ ولادتها وحتى الوقت الراهن والتدرّج بالمناصب والدراسة والحالة الاجتماعية وعدد الأولاد.
لكن البروفايل الاحترافي الذي يحقّق المعايير الصحفية الحقيقية يختلف في كل ذلك، فهو ينطلق من زاوية محدّدة عن هذه الشخصية، ويبدأ بعرض حياتها انطلاقاً من هذه الزاوية. كما أنّه لا يركّز فقط على محطات حياة هذه الشخصية، وإنّما على صفاتها النفسية والأخلاقية والجسمانية وحياتها المهنية وحياتها الشخصية، مثل كيف تعامل هذه الشخصية أولادها داخل المنزل، وماذا يحدث في حال تخاصم هذا الشخص مع زوجته، فغالباً ما يتوق الجمهور لمعرفة هذه المعلومات عن الشخصيات المشهورة، سواء في عالم الفن أو السياسة أو غيرها من المجالات.
البروفايل يغوص بعمق في حياة هذه الشخصية ويدخل تفاصيلها اليومية.. هذا ما أخبرني به مدرّسون كنت أجلس على مقاعد محاضراتهم في كلية الإعلام، وأخبروني أيضاُ أن البروفايل ليس تلخيصا للسيرة الذاتية المهنية، بل يحاول الصحفي أن يعيش معها وأن يقارب هذه الشخصية مع محيطها الضيق والواسع، مثل أن يسأل الصحفي زوجة شخص ما يُنجز بروفايلا عنه، أو يسأل شريكه بالعمل أو حتّى سائق سيارته.
ويُعتبر الجوهر الأساسي في أي بروفايل، هو عرض المعلومات التي لا يعرفها الجمهور عن هذه الشخصية، فلن يقدّم الصحفي بروفايلاً حقيقياً عندما يقول إن معمر القذافي هو الرئيس السابق لليبيا، وإنه وصل إلى الحكم عبر انقلاب عسكري خلع فيه الملك إدريس، أو أن تذكر معلومات معروفة للجمهور خلال البروفايل، إذ أن الجوهر هنا الحصول على المعلومات التي لا يعرفها الجمهور.. ولكن كيف يمكن الحصول على هذه المعلومات؟
التحضير للبروفايل
قبل إنجاز البروفايل، يقترح الخبراء وأهل المهنة أن يطرح الصحفي على نفسه أسئلة، ومنها.. "من هي الشخصية؟ ما الهدف من إعداد البروفايل؟ ماذا أريد أن أقول للجمهور؟ ماذا نُشر سابقاً عن هذه الشخصية؟ ما هي المعلومات البديهية التي يملكها الجمهور عن هذه الشخصية؟ وما هي المعلومات الجديدة التي أريد تقديمها؟ هل أستطيع مقابلة الشخصية وإجراء حوار معها، أم أنّني سأحاول جمع معلومات عنها بطرق أخرى؟ كيف ستكون طريقة عرض هذا البروفايل؟".
ففي حال كان الصحفي قادراً على الوصول للشخصية والحديث معها بشكل مباشر، فعليه هنا الإعداد لهذه المقابلة بشكلٍ مختلف، فبينما يحاول الصحفيون البحث في موضوعاتهم قبل إجراء المقابلة مع الشخصية لإغناء الموضوع، فستكون الشخصية هي الموضوع الأساسي للصحفي معد البروفايل، لذلك سوف يتركّز البحث عن الشخصية والمعلومات السابقة عنها والمواقف التي مرّت بها، بحيث تتمحور غالب الأسئلة حول ما لا يعرفه الجمهور، أو تفسير مواقف وخبرات سابقة لا يعرف الجمهور كيف حصلت، كأن تسأله كيف تغيّرت حياتك مع أسرتك بعد الوصول إلى المنصب الفلاني؟
وكلّما بحث الصحفي أكثر عن هذه الشخصية، بحيث عرف كل محطات حياتها، استطاع الخروج بأسئلة تغني البروفايل.
وينصح أساتذة الإعلام أيضاً، أن يسود الود والحميمية على جو المقابلة، فهي لا تهدف إلى الحصول على أرقام وإحصاءات من هذه الشخصية بصفته مسؤولا حكوميا والتي تسمّى "حوار المعلومات"، كما لا تهدف إلى الحصول على رأيه في موضوع ما بصفته خبيرا والتي تسمّى "حوار الرأي"، بل الهدف هنا التركيز على الشخصية ضمن "حوار الشخصيات"، لذلك لا بد أن يكون الشخص مرتاحاً ويشعر أنّه يجلس مع صديقه لاستحضار ذكرياته، لا أن تُرهبه بالكاميرا والمعدّات والجو المشحون للمقابلات.
أما في الحالات الأخرى، أي تلك التي لا يستطيع الصحفي الوصول خلالها إلى الشخصية، فهنا لا بد من استخدام أساليب أخرى للوصول إلى قدر كاف من المعلومات النوعية.
البحث من زاوية أخرى
في كثيرٍ من الحالات، يفشل الصحفيون في الوصول إلى الشخصية، وهذا أمر طبيعي، ولا سيما عندما تقوم بإعداد بروفايل عن رئيس أحد الدول، أو عن "إرهابي" مطلوب للمخابرات العالمية، أو شخصية يستحيل الوصول إليها، ويفكّر الصحفي بالحصول على معلومات نوعية ومهمة.
ويُعتبر موقع "لينكد إن" من أهم المواقع التي تحتوي على معلومات كافية عن الشخصيات، ومعلوماتها الأساسية، وذلك في حال الحصول على معلومات عن شخصية غير معروفة بما فيه الكفاية.
كما يستطيع الصحفي، استخدام مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت توفّر معلومات كثيفة، إذ أن البحث عن اسم شخصية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" أو "تويتر" يمكّن الصحفي من الوصول إلى تغريدات وتدوينات وحقائق عن هذه الشخصية، لكن هذه الحالة تستلزم ضرورة تدقيق هذه المعلومات والتحقّق منها كون تغريدات الأشخاص ليست مصدراً موثوقاً للصحفي.
ومن الطرق الفعّالة للوصول إلى معلومات عن هذه الشخصية، التواصل مع محيطها، وهذه الطريقة تنفع مع الشخصيات المشهورة جداً. فإن تعذّر الحصول على مقابلة مع فنان ما، فيمكن الوصول إلى مدير أعماله، أو أحد أصدقائه المقرّبين، أو زوجته، أو سائق سيارته، أو شركة إنتاج فني سبق أن تعاملت معه، وهذه المصادر متاحة أمام الصحفي إن أراد الوصول إليها وتُعتبر أكثر سهولة من الوصول إلى الشخصية ذاتها.
ويُضاف إلى ذلك البحث المركّز والمتقدّم عبر "غوغل"، الذي يحتوي على آلاف المقالات عن الشخصيات المشهورة، ومن الممكن أيضاً متابعة مقابلات سابقة عن هذه الشخصية عبر موقع الفيديو "يوتيوب" والاطلاع على الشخصية من خلال مقابلات سابقة متلفزة ليحصل الصحفي على انطباع كافٍ عن هذه الشخصية، ويقرّبه روحياً منها ما ينعكس على جودة البروفايل.
التحرير
أنت هنا سيناريست، تحاول أن تكتب قصة مسلسل درامي.. وهناك بطل لهذا المسلسل، وهو المحور الرئيسي في القصة كاملها، فهنا لا يمكن للصحفي أن يسرد معلومات مركّزة بلا روح القصّة، إذ أن البروفايل ليس تقريراً تجميعياً للمعلومات بل قصّة ممتعة، يجب أن تقدّم المتعة للجمهور، وتجعله يعيش القصة مع الشخصية ويتنقّل بحياتها من محطّة لمحطة بأسلوب مدروس، وأن تعطيه معلومات جديدة.
خلال تحرير البروفايل، يقع الصحفيون في فخ وضع مساحيق التجميل للشخصية، عبر تقديم وصف لها بالصفات المستخدمة باللغة العربية، كأن يقول الصحفي إن مسيرة الشخص الفلاني "عظيمة" أو أنه "راقٍ جداً" أو "شديد المثابرة"، ولا سيما أن البروفايل لا يركّز على الشخصيات التي تنضب بالخير، وإنما من الممكن عمل بروفايل عن طاغية، أو زعيم مافيا أو مجرم دولي مطلوب للعدالة.
وينصح صحفيون أنجزوا بروفايلات سابقة، من خطر الوقوع بـ "الخطأ الاعتيادي"، والخطأ الاعتيادي في البروفايل هو بداية القصة من بداية حياة الشخصية، كأن تبدأ القصة بالقول "وُلد فلان في..."، إذ أن التدرّج في تحرير البروفايل يقتل المتعة التي ستأتي لاحقاً، ولا مانع من البدء بأهم محطة أو موقف في حياة الشخصية.