كانت المرة الأولى التي أركب فيها طائرة، ولم أكن أعرف ما الذي سأفعله بالضبط حين تهبط في مطار مهر آباد الدولي بالعاصمة الإيرانية طهران.. سرحت بي أفكاري المسبقة فوجدت نفسي أذهب إلى مكان لا يشبهني في شيء، فلم تكن إيران يوما على خارطة خياراتي شبه المعدومة.
في سن ما قبل العشرينات بعام فقط، كنت شابا يتبنى اليسار أيدولوجيا ومنهج حياة.. شابا ينتمي إلى المعرفة أولا ويفضل الحديث عن أخطاء وخطايا الأرض لا عن غيبيات وروحانيات السماء. باختصار كنت على نقيض مباشر وحاد مع المكان الذاهب إليه. هكذا قادتني أفكاري المسبقة إلى الاستنفار لخوض ما أسميته يومها مغامرة مجنونة.
لم أكن أعرف أني سأستقر في طهران، وأن المدينة ستعجبني وسأصبح فيها صحفيا عربيا متخصصا بشؤونها، وأني سأخترق تاريخ هذا البلد الجدلي ثقافيا وحضاريا وسياسيا ودينيا واجتماعيا، والأهم أني سأخوض تجربة الأفكار المسبقة بأقسى صورها وأكثرها عنصرية تجاه قوميتي وتاريخي وحضارتي، وأني سأجلس يوما -كما أفعل الآن- لكتابة هذه التجربة الصحفية التي تحمل من التناقض الكثير، مما يجعلها إحدى أهم تجاربي كصحفي عربي مقيم في إيران.
كنت قد تخرجت حديثا من الجامعة لأحمل شهادة في الصحافة والإعلام، واعتدت التردد عليها للتجول في مكتبتها وحضور محاضرات غير ملزمة لأحد مستشاري الرئيس محمد خاتمي يومها حول حوار الحضارات وتأثيرها في السياسات الدولية والإقليمية لإيران. وفي الجلسة الأولى لهذه المحاضرات، بدأ المستشار الرئاسي بالتعرف إلينا واحدا واحدا، وحين وصل إلي دار بيننا هذا الحوار:
- أهلا.. إذا أنت لست إيرانيا يا عبد القادر.
- كلا لست إيرانيا.. أنا فلسطيني الجنسية يا دكتور.
- لماذا اخترت إيران لدراسة الصحافة؟
- صحيح أني من اختار الصحافة، لكني لم أختر إيران بل كانت أحد خياراتي الإجبارية التي تصالحت معها وألفتها وألفتني.
فجأة ودون أي مقدمات، دوى صوت في القاعة بنبرة لغمت المحاضرة بالكامل:
- من سيستقبل عربيا فلسطينيا للدراسة مجانا دون مقابل غير إيران؟.. للأسف هذه هي حالنا يا دكتور.
كان ذلك شابا يدعى آزاد (وتعني الكلمة في اللغة الفارسية: الحُرّ)، وكان كلامه قاسيا وعنصريا بشكل فج ومباشر، مما اضطر الدكتور للتدخل وإسكاته وتغيير الموضوع كليا. للحقيقة لم تزعجني كلمات آزاد ولم تستفزني، حتى إني لم أتفوه بكلمة واحدة. من باب الفضول فقط أدرت رأسي ونظرت إليه لأعرف من هو.. لم يزعجني آزاد لأني لم أقدم يوما نفسي على أني عربي أو فلسطيني أو مسلم أو سني، وهذا جعل معركة الأفكار المسبقة أسهل علي قليلا من زملاء لي كان أغلبهم من "الإسلاميين" الذين اصطدموا بالمجتمع الإيراني من جهتين: الأولى قومية لها علاقة بالعرب، والثانية مذهبية لها علاقة بثنائية السنة والشيعة والأحقية التاريخية بتمثيل الإسلام كدين.
قررت خوض التجربة لا لشيء إلا لأرى جدية وتماسك أفكارنا المسبقة كصحفيين بشكل خاص وكبشر بشكل عام، لهذا اقتربت أكثر من آزاد، خاصة حين علمت أنه صحفي مميز ومثقف له كتابات يستشهد بها طلاب الصحافة في الكلية الجامعية. كان آزاد يمثل الشق الأكثر سوءا في مساحة الأفكار المسبقة التي يمكن لها أن تشوش الفرد بشكل دائم، فقد كان سلبيا تجاه كل ما يخص العرب لغة وثقافة وأدبا وحضارة، وكان يسعى جاهدا للمجاهرة بذلك ويجتهد في تشويه هذه القومية بشكل مستفز ومتعمد.
في أول تماس لغوي غير مقصود مع آزاد حين مررت به في أحد ممرات الجامعة، نظرت إليه ودون تردد قلت له:
- هل ما زال كلب أصفهان يشرب الماء البارد؟
- ماذا تقصد يا عبد القادر؟
- ألم تسمع ما قاله الشاعر الفارسي الكبير أبو القاسم الفردوسي عن العرب يوما يا آزاد؟
عرب در بيابان آب ندارد وسك أصفهان آب سرد مى خورد
(العرب في الصحراء بلا ماء وكلب أصفهان يشرب الماء البارد)
كان آزاد من الصحفيين الشباب الذين يثقون بلغتهم وحضارتهم وثقافتهم وقوميتهم، فلم يتردد في الرد:
- نعم ما زال كذلك.
- إذًا دعنا نذهب سوية إلى أصفهان لنشرب الماء البارد هناك مع كلب الفردوسي، وفي الطريق سأحدثك عن الصحراء وجمالها وأسرارها، سأحدثك أيضا عن ذئب الفرزدق، فليس بالماء البارد وحده يحيا الإنسان يا صديقي.
كان آزاد يتجاوزني وعلى وجهه علامات دهشة، حين اقتربت منه وهمست قرب أذنه قائلا:
- بالمناسبة ألا تقرأ الصحف يا آزاد، فالحديث يتزايد عن جفاف نهر أصفهان حتى إن بعض التقارير تشير إلى أنه لم يعد موجودا.. يا لكلب الفردوسي المسكين.
كان آزاد صحفيا بلغة راقية في الكتابة، يعرف ويقدّر جيدا ما يسمعه.. هكذا بدأنا حربا باردة عنوانها الأفكار المسبقة عن بعضنا البعض.. لقد كانت حربا باردة جدا أسلحتها أدوات الصحافة، لكنها لم تكن قذرة.
في قادم الأيام سيرفع آزاد السقف ليهاجمني علانية في قوميتي وعروبتي وأمام الجميع.. لم أكن أرغب في منحه ما يريد، كأن يستفزني لأهاجم بدوري الفرس والحضارة الفارسية ليظهر هو أمام العامة كمن يدافع عن قوميته وبلاده وحضارته، الأمر الذي يعني الكثير في مجتمع كالمجتمع الإيراني، لهذا كنت أتجاهله جدا في العلن وأقترب منه جدا حين يكون وحده.
أحسَّ آزاد بذلك، لهذا ترك الباب مواربا كي أدخل ولو قليلا إلى مساحات عنصريته وأفكاره المسبقة عن العرب، جيران إيران التاريخيين وشركائهم في الحضارة والتاريخ والدين والجغرافيا والاقتصاد.
كان مفاجئا جدا ذلك الاتصال الهاتفي حين رد الشخص على الطرف الآخر من الخط:
- مرحبا عبد القادر.. معك آزاد.. ما رأيك في فنجان قهوة وبعض الحديث، أو لنقل فصلا جديدا من المجابهة الحضارية؟
لم أتردد في قبول دعوة آزاد حيث كنت سأراه للمرة الأولى خارج أسوار الجامعة وبدعوة منه أيضا.. ما إن انتهت المكالمة حتى شعرت بأن المعركة انتهت أيضا، وأن الحرب الباردة بيني وبين الأفكار المسبقة قد وضعت أوزارها، والأهم أني انتصرت في هذه المعركة كصحفي وإنسان، وأن كل ما تبقى هو عملية إخراج هذا النصر بطريقة لا تستفز آزاد، بل تجعل منه صديقا ولو بحذر.
دلفت إلى داخل المقهى الذي اختاره آزاد بعناية..كان في جانب من المدينة يظهر مفاتن البلاد وحضارتها وتاريخها العريق، وكان مليئا بالصحفيين والسينمائيين والكتاب والشعراء وغيرهم ممن يسميهم البعض النخبة الثقافية، مع تحفظي على هذا المصطلح غير الدقيق. حين وقع نظري على آزاد، كان يجلس في ركن منزو قليلا، كمن قرر وقف كل العمليات الاستعراضية وفي يديه ديوان مترجم للشاعر العراقي مظفر النواب.. ألقيت عليه السلام ودون مصافحة جلست قبالته مباشرة عن عمد مسبق، متجاهلا سؤاله عن سبب قراءته لشعر النواب.
كان ذلك عام 2007 حين بدأ آزاد كلامه بسؤال ملغم لا يخرج إلا من صحفي متمرن ومتابع ويعرف أين يقف وماذا يقول:
- ما الذي يجري في غزة يا عبد القادر؟ لماذا يقتل الفلسطينيون بعضهم البعض؟ حماس تقتل الفتحاويين وفتح تقتل الحمساويين؟ ماذا بشأن عدوكم إسرائيل؟ ما الفائدة من أن نبقى ندعمكم وأنتم لا ترحمون بعضكم بعضا؟
للحقيقة أقول اليوم بأن سؤال آزاد هذا فاجأني ووضعني في وضع محرج كصحفي يشق طريقه في المهجر، وللأمانة أقول بأني لم أمتلك جوابا مقنعا يومها، وليس لدي جواب مقنع اليوم أيضا يفسر ما جرى، لكن وبشيء من الحيلة وسرعة البديهة التي لا أعرف من أين داهمتني حينها رددت:
- هو التاريخ يعيد نفسه يا آزاد لكن بشكل مختلف وأمام عدسات المصورين وعلى الهواء مباشرة.. ألم يقتل رستم سهراب في الأسطورة الفارسية في الشهنامه؟ ألم يفعل ذلك حين اندلعت الحرب، يومها قتل الأب ابنه من حيث لا يدري.. ولو كانت هناك فضائيات وقتها لبقي هذا الخبر عنوانا رئيسيا لأيام كما هو حال الفلسطينيين اليوم.. لسنا استثناء يا صديقي.
ابتسم آزاد وكانت هذه المرة الأولى التي أراه فيها مبتسما وهو يحدّق فيّ بعينين تخلوان تماما من أي تحدٍّ، وبصوت عادي جدا لا يبشر بمعركة جديدة قال:
- يا لك من أجنبي يا عبد القادر، تعرفنا جيدا وبشكل عميق أيضا.
- هي اللغة يا آزاد، منذ تعلمت الفارسية باتت تشكل جزءا لا بأس به من أحلامي ليلا. مُذَّاك، وضعت كل أفكاري المسبقة جانبا وتعرفت إلى إيران كتجربة شخصية بالمعنيين المعرفي والتجريبي.
وكمستغل لفرصة ربما لا تتكرر باغته قائلا:
- لماذا لا تفعل الشيء ذاته يا آزاد؟.. تتعلم اللغة العربية جيدا وتغدو قادرا على تقديم نماذج حقيقية لعنصريتك ودعم أفكارك السلبية عنا بأمثلة حية من تاريخنا كعرب، فنحن أمة لها أخطاء أيضا وبعضها كبير جدا، وسيحلو لك أن تتغزل بها أينما ذهبت.
- لماذا أتعلم اللغة العربية وأنا لا أحبها؟ وكيف سأتعلمها أصلا وأنا لا أشعر بحب تجاهها؟
- ولماذا لا تحبها يا آزاد؟ هذا موقف مسبق مبني على جهل، فأنت لا تعرفها أصلا حتى تكرهها أو تحبها، لم لا تجرب؟
- لا أحبها لأني أحب نقيضها (أي الفارسية)، خاصة أن العربية لوثت لغتنا بالكثير من المفردات! أحب الفارسية الأصيلة وأولئك الشعراء الكبار الذين أنصفوها.
- إذن أنت تحب الفردوسي وسعدي وحافظ الشيرازي والخيام وصائب والتبريزي.. (عن قصد عددت له عددا كبيرا من الشعراء الكبار والتاريخيين).
- نعم أحب هؤلاء طبعا وبدأت أحب معرفتك لهم أيضا.
- إذن اسمع يا آزاد ما قاله حافظ الشيرازي حين قرر أن يكتب شعرا جميلا:
ألا أيها الساقي أدر كأسا وناولها كه عشق آسان نمود أول ولى أفتاد مشكلها
كيف بإمكانك أن تحب الشطر الثاني فقط وتكره الشطر الأول من بيت الشعر هذا؟ أنت عالق فقط في حب الشطر الثاني ولديك أفكار مسبقة حول الشطر الأول، وتمارس كل أنواع السلبية لشيطنة لغة أراد لها الشيرازي أن تكون فاتحة لشعره.. لا أفهم كيف تحب الشيرازي وتكره شعره؟
لم يجب آزاد على كرة الأسئلة التي رميتها في وجهه، بل اكتفى بالنهوض.. ابتسم وهمَّ بالمغادرة قبل أن يدعوني لدفع الحساب.
تكررت الجلسات مع آزاد حتى باتت أسبوعية تقريبا، وباتت أكثر عمقا وأكثر عنصرية وتحديا وأكثر صراخا، وصاحبها غضب مني ومن آزاد حتى بات يعرض علي كتاباته العنصرية عن العرب التي كان ينشرها باسم مستعار في مواقع فارسية وصحف أغلبها نخبوية وتعتني بالنقد والتحليل أكثر منه بالأخبار اليومية.
في إحدى الجلسات كان آزاد أكثر هدوءا وأقل عنصرية وأكثر إصغاء، وبدأ يبدي إعجابه ببعض الكتاب العرب وبعض الشعراء وبعض الكتب التي كنت قد زوّدته بها ولم أكن أتوقع أنه سيقرؤها أصلا، كما أنه أسرّ لي يومها بأنه يفكر في زيارة دمشق وبيروت والقاهرة وأنه بدأ يفكر جديا في تعلم العربية كلغة فقط.
خلال عام تقريبا أثبت آزاد أنه قادر على التعلم بسرعة رهيبة وبشكل لم أره من قبل، ففي منتصف العام 2008 كان يتقن العربية بشكل جيد، وكنت أنا أستعد لمغادرة إيران نهائيا إلى دبي للعمل هناك في الشق الإخباري من تلفزيون دبي.. في أحد شوارع العاصمة وقف آزاد يحدثني بالعربية العامية قائلا:
"عن جد عبد القادر كانت تجربة عاصفة وجميلة، أنا مسرور الآن لخوضها، اليوم أنا بحكي عربي بس انتبه هذا لا يعني أني أحب العرب، فللأمانة أنا أحب عبد القادر العربي والعربية كلغة فقط، أما العرب كعرق وحضارة فذلك شيء آخر".
قلت له: لا بأس يا آزاد فهذا يكفي.. يومها غادرت البلاد وأقمت في دبي وانقطع الاتصال معه إلا من سلام عابر بين حين وآخر دون الخوض في أية تفاصيل.
في منتصف العام 2010 كنت أستعد للعودة إلى طهران للعمل مع شبكة الجزيرة كمراسل لها في إيران، يومها تواصلت مع آزاد وعرفت أنه في أستراليا وأنه يستعد لقضاء إجازته السنوية في طهران.. هكذا اتفقنا على اللقاء.
حين رأيته قال لي ما لم أتوقع سماعه بتاتا، قال لي بعربية واضحة ولكنة رائعة:
- لقد غيرتُ رأيي يا صديقي، نعم أنا الآن أحب العربية لغة وحضارة وثقافة وأدبا أيضا، فأنا أقرأ لمحمود درويش ونازك الملائكة وبلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي وأنسي الحاج وأدونيس وغيرهم، وأسمع الطرب لأم كلثوم وأحب أغاني نانسي وإليسا وكاظم.. وعرّج على أسماء لا أعرفها ولم أسمع بها من قبل، كما قال لي بأنه يكتب في بعض الصحف العربية، ومد إلي بآخر مقالة كتبها.. مقالة مطبوعة عنوانها "صديقي العربي".
كنت فرحا بانتصار آزاد على عنصريته وأفكاره المسبقة عني وعن عروبتي، لكن ما لم أكن أعرفه هو أن سنوات عجافا كانت تستعد لإعلان حضورها.. سيكون أغلب العرب والإيرانيين خلالها على طرفي النقيض تماما في صراع سياسي استعملت فيه كل أدوات الحضارة والتاريخ والدين والثقافة والأدب لتشويه الآخر، والأهم: كم سيولد في طهران والعالم العربي من مئات من أمثال آزاد قبل أن ينتصروا على أفكارهم المسبقة؟
أخطر ما في الأفكار المسبقة أنها تعيد بناء التاريخ بسوداوية لا حدود لها، وتصنع الحاضر بأدوات الأيدولوجيا المقيتة، وتتوقع مستقبلا قائما على هاتين النقطتين. والأكثر خطورة أن يكون مصدر هذه الأفكار المسبقة الصحفيَّ نفسه، فهنا تنجح هذه الأفكار في ارتداء ثوب المعلومة وأقنعة الحقائق لتصبح مسلمات تحدد مفاصل العملية الإعلامية برمتها، فبدلا من أن تكون مهمة الصحافة والصحفيين تعديل هذه الأفكار وتصحيحها في ذهنية المجتمع وأفراده، تصبح الصحافة ووسائلها أكبر مروج لتلك الأفكار. وهكذا نكون قد فخخنا ساحاتنا الإعلامية بألغام الأيدولوجيا وسممنا الجمهور بأفكار مضلّلة، وخلقنا مجتمعا يبحث عن واقع يطابق أفكاره المسبقة، لا عن أفكار تعبّر عن الواقع الحقيقي.
وقتها نكون قد خسرنا كصحفيين وخسرنا كمجتمع، والأهم أننا سنكون قد فشلنا في معركة الآخر.. الآخر الذي شوَّهْناه وشوَّهَنا.