سيذكرُ الناس أحداث التاسع من أبريل/نيسان 2015 باعتبارها نقطة فارقة في مسيرة الكفاح نحو ترسيخ المساواة في المرحلة التي تلت سقوط نظام الفصل العنصري (الأبارتايد) في جنوب أفريقيا. لقد شهد ذلك الخميس المحتدم إزالة تمثال رمز الإمبريالية الإنجليزية البغيض سيسل جون رودس من حرم جامعة كيب تاون بعد مرور 120 سنة على تولّيه منصب رئيس الوزراء في جنوب أفريقيا. لقد أزيل هذا التمثال عقب أسابيع من بدء سلسلة من المظاهرات التي دعت إليها مجموعات من الطلبة والناشطين يدعون أنفسهم "Fallists" بهدف إسقاط مظاهر الاستعمار في المناهج الجامعيّة.
تلك الصورة التي ظهر فيها مئات الشباب السود الغاضبين وهم يهتفون بحماسة بالغة حين أزالوا تمثال رودس ستبقى في الذاكرة بوصفها الصورة الأكثر رمزيّة في دولة جنوب أفريقيا ومسيرتها الديمقراطية التي انطلقت منذ 21 عاماً. لقد كانت تغطيتيلتلك القصّة تجربة لا تنسى في غرفة الأخبار، حين كنت مراسلاً شاباً أتتبع حركة المظاهرات في محافظات جنوب أفريقيا التسعة، وتلك كانت خطواتي الأولى في تغطية أحداث مثل هذه.
كنت أراقب من مكتبي انطلاق حملات على وسائل التواصل الاجتماعي انتشرت فيها وسوم عديدة بعضها يدعو لسقوط الرسوم الجامعيّة (#feesmustfall). وقد كانت تلك الوسوم طريقة فعالة لتتبع ما يفعله الطلاب، حين توجهوا في البداية إلى البرلمان ثم إلى بعض المباني الحكومية ثم انطلقوا في مظاهرات في شوارع المدن المختلفة. وقد كان الناس جميعهم يتابعون آخر التحديثات بمتابعة بعض الحسابات على وسائل التواصل الاجتماعي التي كانت ترفع الصور ومقاطع الفيديو التي تعرض مشاهد لطلابٍ في مظاهرات سلميّة يتعرّضون للضرب من قبل رجال الشرطة بالإضافة إلى توثيق حملات اعتقال كبيرة أو طرد للطلاب من أماكن دراستهم.
لقد كانت الخبرة التي لديّ في التعامل مع هذا النوع من الأحداثالسريعة والمتقلّبة أقلّ بكثيرٍ من المطلوب، ولكن كان هنالك نقصٌ في الكادر في غرفة الأخبار، وكان على الجميع أن يساهم في تغطية الجانب الذي بوسعه العمل عليه. وهكذا اعتمدت على تجربتي كمراسل في الشؤون الثقافية للحديث مع بعض الفنانين غير المنتمين بالضرورة للحراك الطلابيّ، وقد كان ذلك في غاية الأهمّية لأني تمكنت من التعرف على آراء مختلفة بخصوص الحراك والحفاظ على مسافة شكليّة من الحالة العاطفيّة التي سادت في تلك الفترة.
لقد تحدثت إلى فنانين كانوا يصّورون الأحداث الجارية ويقدّمون للقراء والمتابعين صورةً مختلفة عن تلك التي يقدّمها المصورون المحترفون. أمّا أمناء المتاحف فكشفوا عن أراشيف ضخمة لتماثيل أخرى تذكّر بمرحلة الفصل العنصري باتت الآن تحت الأرض. كما التقيت ببعض المبدعين في الفنون الأدائية، والذين رفضوا الحديث إلى الصحافة خشية أن يساء فهم تصريحاتهم، ولكنهم سمحوا لي بالدخول إلى أماكن عملهم كي أتمكّن من توضيح مواقفهم بشكل دقيق.
لقد كانت أحداث تلك الفترة كفيلة بنقل شحنة من المسؤولية للجيل التالي من الشباب في جنوب أفريقيا -وهو الجيل الذي أنتمي إليه- تجاه القضايا التي يعيشونها. لقد قال الجيل الجديد كلمته ليوضّح أنّ الفصل العنصري لم ينته بعدُ تماماً. لم تنطفئ جذوة هذه الطاقة وهذا النفس الطويل، وقد كان ذلك واضحاً في حراك الطلبة، وهي كذلك أشدّ وضوحاً في حياة الناس العاديين في جنوب أفريقيا الذين تأثروا بشجاعة أولئك الشباب الذين يحاولون تغيير واقع من لا يزالون يعانون من آثار سنوات طويلة من الاستبداد الاستعماري.
قرَّر أطفال المدارس اليوم رفض بعض القواعد البالية وخرجوا في مظاهرة خاصّة بهم يطالبون فيها بحقّهم بتصفيف شعرهم بالطريقة الطبيعية التي تلائمهم ورفض التقيّد بتلك القواعد التي تسري على الطلاب البيض. أمّا العمّال فصاروا يطالبون بحقّهم بالمعاملة المنصفة، وأصحاب البيوت يطالبون بظروف معيشة مشابهة للمناطق التي كانت في السابق للبيض، حتّى أنّ الحملات الانتخابيّة قد باتت مؤخراً تعتمد على هذا الخطاب لكسب أصوات جديدة من الناخبين الذين يبحثون عمّن يمثّل مطالبهم.
هذه اللغة الجديدةالتي نشأت من رحم الاحتجاجات والمظاهرات لا تفتأ تتطوّر، مع أنّها قلّما تحظى بتوافق تامّ عليها بما أنّهاتخالف اللغة الرسميّة والسائدة.صحيح أنّ هذا الشكلَ من اللغة ليس وليد هذه الفترة، إلا أنّه قد وجد مكاناً له في لغة التواصل بين شباب هذه الحركات، وهي لغة تشبه مستخدميها، وهذا ما يلاحظه من يحاول فهم هذه اللغة من خارج الحركة. بعض هذه العبارات والكلمات قديمة مقتبسة من أغانٍ احتجاجية اشتهرت في الثمانينات والتسعينات، اعتاد المتظاهرون الشباب سماعها من آبائهم. وبعضها تعبيرات حديثة ظهرت في وسائل التواصل الاجتماعي والحوارات التي تدور بين الشباب خارج المحاضرات الجامعية.
كان من الصعب عليّ الإحاطة بكل ذلك نظراً لعدم انخراطي في هذا الحراك. ومعظم المحتوى الذي كنا ننتجه في تلك الفترة كان يُستخدم من قبل طلاب الجامعات في محاولةلمعرفة ما يجرى من حولهم. كان الحديث مع هؤلاء الطلبة بلغتهم كفيلاً ببناء شيء من الثقة بيننا، تماماً كما يحدث معك حين تتحدث لشخص غريب بلغته الأم. لقد كان يعني ذلك أنّنا نطلب رأيهم بالطريقة التي يفضّلونها، بعيداً عن عنف القيود اللغوية التي تفرضها عليهم وسائل الإعلام العامّة. ومع ذلك واجهت هذه المنهجية بعض المقاومة.
لقد كان المحررون المساعدون -حسب تجربتي على الأقل- يجدون صعوبة في تجاوز خوفهم من غير المألوف والسائد من العبارات والكلمات. فكانت الكلمات غير المتوافقة مع "الفصيح" وفق سياسة التحرير اللغوية تغيّر إلى كلمات أكثر فصاحة، وحين أكتب عنواناً باستخدام اقتباس من خطاب أحد الطلبة، يجري على الفور تغيير هذا العنوان، بحجّةلزوم أن يكون العنوان موجهاً لجمهور أوسع من القراء،وهو جمهور لا يستسيغ على الأغلب هذا اللون اللغوي الجديد. كان يصعب عليّ التعبير عن انزعاجي، ولكنّي وبتشجيع بعض الزملاء الأكثر مرونة كنت أسقط تلك التصحيحات وألتزم بما كتبته في البداية.
لاحظتُ كيف دخلت بعض هذه الكلمات لغة الجمهور الإلكتروني بعد انتشار تلك القصص الصحفية. كانت تلك الكلمات تستخدم للحديث مع الطلبة، ومع أصدقائهم. كما أصبحت تظهر مع بعض الرموز (الإيموجي) كإيموجي النار حتى أنّ هذه الرموز استُخدمت في بعض الأحيان مكان الكلمات الجديدة. كما تُرجمت بعض الكلمات الجديدة التي سرت بين الشباب إلى اللغات الإحدى عشرة الرسمية المستخدمة في مختلف أرجاء جنوب أفريقيا.
صارت هذه الكلمات الآن أكثر أهمّية وبروزاً، وبات استخدامها ملائماً ومقبولاً حتى في غرف الأخبار، حتّى أنّ بعضها أضيف إلى القواميس الإنجليزية الرسميّة. صحيح أنّ بعض المحررين لا يزالون من حين لآخر يصرون على تغييرها إلى كلمات أكثر رسميّة، ولكن هنالك تحدّ مستمرّ لذلك بين الصحفيين الشباب يزداد صعوداً مع ازدياد أعداد الخريجين الجدد من الصحفيين الذين يبحثون عن صوتهم والتعبير عنه.
هذا الشكل من التطور السريع يحافظ على أهمية الصحيفة للجماهير حتّى في عصر الإنترنت. أما بالنسبة للمراسل، فهذا الجانب يزيد من المتعة ومستوى التحدي في العمل بالإضافة إلى ذلك الشعور بالأمل في أن يرى المراسل نفسه وهو ينقل القصة بصوته الذي يتطور بالوتيرة نفسها التي تتطور بها بيئة الأخبار اليوم، وهو كذلك قبس من أمل في وقت غير مبشر كثيراً في عالم صناعة الأخبار.