يعيش الصحفيون السودانيون أوضاعا مأساوية بالغة التعقيد بعد أن فقدوا وظائفهم ومصادر دخلهم بسبب الحرب المستعرة منذ أبريل/ نيسان من العام الماضي، التي أجبرت السودانيين على مغادرة بلادهم بين لاجئين ونازحين.
لم تترك الحرب سبيلا لمذيع النشرات الإخبارية في تلفزيون السودان، محمد عثمان الإمام، سوى التوجّه إلى مهنة أخرى للعيش بكرامة، فاختار أن يشتغل بالفلاحة، بعد أن أُغلِق التلفزيون بسبب الحرب.
يقول محمد الإمام لـ "مجلة الصحافة": "مغادرة العالم الصغير الذي كنت أعيش فيه لسنوات لم يكن بالأمر السهل، كان أكثر قساوة، وبعد كل هذا العمر أجد نفسي بلا وظيفة، لم أتخيل يوما ما أن أكون أنا القصة بصفتي صحفيا أعمل في هذه المهنة منذ سنوات. الجانب الإيجابي من قصتي أنني أعود إلى مكاني الأول، إلى الطبيعة التي لم تخُنّي رغم كل هذه المأساة التي أعيشها، فمعاودة العمل في الزراعة بعد العمل الصحفي كانت تحديا بالنسبة لي، لقد خلعت بذلة المذيع وارتديت ملابس الفلاح ابن الزرع، كان الحصاد أنني تعلمت أشياء أخرى وأنا في هذا العمر ونبتت عندي قناعة راسخة بأن لكل صحفي قصة إن لم تكن اليوم فستكون غدا".
لم يكن محمد الإمام سوى واحد من مئات الصحفيين السودانيين الذين تقطعت بهم السبل، بين نازحين من ولاية إلى أخرى داخل الوطن ولاجئين في دول الجوار، وتوقف عملهم نتيجة إغلاق كامل للصحف المحلية ومحطات الإذاعة والتلفزيون التي كان يعملون فيها، أما الصحفيون المستقلون الذين يشتغلون لوسائل الإعلام الدولية فيواجهون تضييقا واسعا من طرفي الحرب في السودان.
أكثر من 600 صحفي وصحفية فقدوا وظائفهم وأصبحوا عاطلين عن العمل، ومن يعمل منهم لوكالة دولية وقنوات إقليمية، لا يتجاوز 5 بالمئة من العدد الكلي منهم.
وحسب السكرتير الاجتماعي لنقابة الصحفيين السودانيين، وليد النور، فإن الصحفيين اليوم يعيشون أوضاعا بالغة التعقيد، تتمثل في فقدانهم لوظائفهم وتعرضهم لأبشع أنواع الانتهاكات والتضييق كحال غيرهم ممن وجدوا أنفسهم وسط النيران المشتعلة منذ العام الماضي.
ويستطرد وليد في تصريح لـ"مجلة الصحافة" أن أكثر من 600 صحفي وصحفية فقدوا وظائفهم وأصبحوا عاطلين عن العمل، ومن يعمل منهم لوكالة دولية وقنوات إقليمية لا يتجاوز 5 بالمئة من العدد الكلي منهم، "وفي ولاية الخرطوم وحدها لا يزال هنالك 50 صحفيا لم يغادروا المدينة، إما لظروف أسرية وإما لأنهم لا يستطيعون الخروج لأسباب أخرى".
توقفت معظم الصحف والقنوات والإذاعات السودانية عن العمل؛ فوفق مصادر لمجلة الصحافة توقف نحو 25 صحيفة ورقية، وأكثر من 7 محطات تلفزيونية، إلى جانب 12 محطة إذاعية تعمل على نطاق بث "الأف أم".
ترى الصحفية بإذاعة بلادي 96.6 أف أم، أمنية الحاج، أن واقع الصحافة والصحفيين أصبح أكثر تعقيدا وخطورة، حتى في المناطق الآمنة مثل مدينة بورتسودان بولاية البحر الأحمر. "يشعر الصحفيون بالآثار العميقة للحرب؛ فصحيح أن الوجود بعيدا عن مناطق الصراع المباشر قد يوفر بعض الأمان الجسدي، إلا أن الصحافة لا تزال تواجه تحديات كبيرة. هناك نقص حاد في المعلومات الدقيقة، وصعوبة في الوصول إلى المصادر الموثوقة، علاوة على الضغط النفسي الذي يتعرض له الصحفيون في أثناء تغطية المعاناة الإنسانية التي سببتها الحرب"، كما توثق أمنية تجربتها.
لقد تسببت هذه الوضعية الجديدة في تشريد بعض الصحفيين، واضطرار آخرين إلى البحث عن فرص عمل جديدة في مناطق أكثر أمانا مثل بورتسودان، أو اللجوء إلى الإعلام الرقمي والعمل الحر.
وفي ظل حالة الركود الاقتصادي الذي يعيشه السودان في ظل الحرب الدائرة الآن، لجأ بعض الصحفيين إلى شغل أعمال هامشية، أما البعض الآخر ففضل الانتظار إما في دُور إيواء وإما مع أقاربه في مناطق آمنة آملين في أن تعود الحياة قريبا كما كانت في السابق. ويُقدَّر أعداد هؤلاء بالمئات، ومنهم الصحفي أنور بدوي، الذي كان يعمل مديرا للأخبار في قناة النيل الأزرق قبل الحرب، ثم وجد نفسه مجبرا على مغادرة الخرطوم بعد تصاعد وتيرة الاشتباكات، إلى أن انتهى به الأمر في ولاية القضارف بعد رحلة نزوح امتدت من الخرطوم إلى ولاية الجزيرة وسنار.
ويقول أنور بدوي لـ "مجلة الصحافة": "أجبرتني الحرب على مغادرة ولاية الخرطوم وفقدت وظيفتي التي كنت أعمل بها لسنوات، كان الأمر صعبا للغاية وأنا أحاول الخروج من المدينة حتى وصلت مدينة ود مدني حاضرة ولاية الجزيرة، ثم اضطررت إلى مغادرتها هي الأخرى بعد دخول الدعم السريع لها في شهر ديسمبر/ كانون الأول من العام الماضي. لقد كانت رحلة قاسية حتى وصلت إلى مدينة القضارف شرق السودان، لكنها لا تضاهي قساوة أن تصبح بلا عمل بين ليلة وضحاها".
ويواصل بدوي سرد قصته قائلا: "لقد كنت أحرر الأخبار لسنوات وأنا أخط بيدي معاناة الناس بين كل ولايات السودان المختلفة، كنت أفهم أن التحدي الأساسي لمهنة الصحافة أن تكون أكثر قربا من الإنسان، لكنني اليوم أعيش تجربة الإنسان الصحفي الذي يحتاج إلى الصحافة لتنقل معاناته".
لقد كنت أحرر الأخبار لسنوات وأنا أخط بيدي معاناة الناس بين كل ولايات السودان المختلفة مؤمنا أن التحدي الأساسي لمهنة الصحافة أن تكون أكثر قربا من الإنسان، لكنني اليوم أعيش تجربة الإنسان الصحفي الذي يحتاج إلى الصحافة لتنقل معاناته
الانتهاكات بحق الصحفيين واستهدافهم بشكل مباشر سمتان أساسيتان لهذه الحرب، كما يروي الصحفي "ي. م" -الذي فضل حجب اسمه خوفا على حياته- والذي يعمل بائعا للخضراوات في إحدى المدن التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع؛ فبعد فقدان وظيفته الأساسية في إحدى الصحف السودانية يقول: "تعرضت للانتهاكات والشتم والإساءة من قبل هذه القوات، بل في بعض الأحيان يرمون كل بضائعي على الأرض بحجة أني أتبع للاستخبارات العسكرية للجيش، وليس هذا فقط، بل يصفونني بأبشع أنواع الحيوانات ويطلبون مني أحيانا مالا كضريبة عمل، وتارة أخرى يضربونني بحجة أنني أتبع للجيش، أعيش حياة قاسية أنا الذي كنت في يوما من الأيام صحفيا أنقل معاناة الناس، أصبحت أنا القصة".
بينما يعتقد منتج البرامج والنشرات الإخبارية في تلفزيون ولاية الخرطوم، منذر العبيد، في تصريح للمجلة أن الصحافة والصحفيين ظلوا يعانون ما قبل الحرب، "وهذه النيران المشتعلة ما هي إلا بمثابة رصاصة الرحمة في جسد هذه المهنة".
"صحيح أن الصحافة كانت الأمل الوحيد، لكنها لم تكن مصدر الدخل وحده، بل كنت أؤدي أعمالا أخرى حتى أغطي احتياجاتي، راتب القناة وحده لا يكفي لنهاية الشهر ولن يغطي مصروفاتي كلها، ولقد اضطررت إلى مغادرة السودان وأجد صعوبة في البحث عن عمل في الخارج".
من جانبه يرى رئيس تحرير صحيفة التيار السودانية، عثمان ميرغني، في تصريح للمجلة، أن "الصحفيين الآن يعيشون أسوأ أحوالهم؛ فمن الناحية المهنية فقدوا المؤسسات الإعلامية التي كانوا يعملون فيها، ومن الناحية الإنسانية فإن الأوضاع التي خلفتها الحرب على المستوى الشخصي لكل الصحفيين والصحفيات -خصوصا الذين لا يزالون داخل السودان- جعلتهم يكابدون معاناة إنسانية في غاية السوء، في ظل عدم قدرتهم على العمل واكتساب المال من أجل الإنفاق على أسرهم واحتياجاتهم الخاصة".
تعرضت للانتهاكات والشتم والإساءة من قبل هذه القوات، بل في بعض الأحيان يرمون كل بضائعي على الأرض بحجة أني أتبع للاستخبارات العسكرية للجيش، وليس هذا فقط، بل يصفونني بأبشع أنواع الحيوانات ويطلبون مني أحيانا مالا كضريبة عمل، وتارة أخرى يضربونني بحجة أنني أتبع للجيش، أعيش حياة قاسية أنا الذي كنت في يوما من الأيام صحفيا أنقل معاناة الناس، أصبحت أنا القصة
هل تدفع هذه الظروف الصحفيين للاستسلام؟
وفق ميرغني، فإن المقاومة هي الحل الأخير للصحفيين؛ "فدورنا بصفتنا صحفيين استعادة هذه المؤسسات بالقدر الممكن، وأعتقد أن هذا ما فعلناه بعد الحرب؛ إذ حاولنا المحافظة على بعض الصحفيين وقدمنا المساعدات المالية الممكنة، باعتبار أن هذا أقل ما يمكن أن يُقدَّم في مثل هذه الظروف، ونجحنا كذلك في توفير بعض الدورات التدريبية لهم حتى يستفيدوا من فترة التوقف".