صيف هذا العام، أظهر موقع مغربي واسع الانتشار ومشهور بانتهاكاته المستمرة لأخلاقيات المهنة، أظهرهوية طفل قيل إنه احتك جنسيا بأتان مصابة بالسعار (تبيّن فيما بعد أن القصة أضيفت لها الكثير من التفاصيل الخاطئة قصد التهويل والبحث عن النقرات). نال الفيديو انتقادات كبيرة من لدن الصحفيين والمتتبعين، كيف يمكن أن نُظهر هوية طفل في فيديو قد يسيء إليه طوال حياته؟ كيف سيفكر هذا الطفل، عندما يكبر وينضج، أنه اشتهر ذات يوم، ليس في المغرب فقط، بل في بلدان كثيرة (القصة ترجمت إلى الإنجليزية والفرنسية) بأنه اقترب من حيوان لأجل الجنس، أو هكذا قيل عنه؟
بعد عدة أسابيع، انتشرت صورة طفلة لا يتجاوز سنها 12 عاما ونصف، وهي عروس في حفلة زفاف (قالت والدتها إن الأمر يتعلّق فقط بخطبة). انتشرت الصورة أوّلا في الشبكات الاجتماعية قبل أن تنشرها مواقع مؤسسات إعلامية عالمية. لن نجادل في حقيقة أن تزويج أو حتى خطبة طفلة في هذا العمر يعدّ انتهاكا صريحا لحقوقها، وأن منظرها وهي عروس، مهما حاولت أسرتها إظهاره ورديا، يمسّ بكرامتها، لكن الغريب أن وسائل الإعلام، التي من المفروض أن تحافظ على خصوصية الطفلة، نشرت الصورة دون أيّ طمس لهوية "العروس".
انتهاك حقوق الأطفال بات أمرا شائعا في الإعلام، والأمر لا يقتصر على دول توصف بالنامية، فحتى دول لها تقاليد إعلامية راسخة كفرنسا شهدت مثل هذه الانتهاكات كما جرى في قصة الطفل غريغوري، فتوفر القصة على تفاصيل مثيرة للانتباه كاختطافه ثم قتله وعجز القضاء عن إدانة شخص ما ثم قتل والد الطفل، المشتبهَ به الرئيسي وبعد ذلك انتحار أول قاضٍ اهتم بالملف، كلها جعلت قصة هذا الطفل تستمر في الصحافة الفرنسية منذ عام 1984 إلى الآن مع ما رافق ذلك من تهويل إعلامي وانتهاك للحياة الخاصة للأسرة.
إن انتهاك حقوق الناس في الإعلام أمر مؤسف ويحيد به عن وظائفه، لكن انتهاك حقوق الأطفال له وقع أكثر، خاصة عندما يتحول الطفل إلى ضحية للإعلام طوال حياته، فعندما نعرّض حياته للخطر ونكشف معلومات حساسة عنه ونستشهد بتصريحات لا يدرك أبدا حجم التبعات التي ستلاحقه بسببها أو نصوّره في مشاهد جد حساسة تمسّ كرامته، فنحن نساهم، سواء بقصد أو بدونه، في الإساءة إلى طفل بحثا عن معلومة ستحقق لنا انتشارا واسعا؟ علمًا أن هذا التساؤل يعنينا جميعا، لأننا قد نقع بحسن نية وبرغبة خدمة قضية طفل ما في الإساءة إليه من حيث لا ندرك!
مبادئ التعامل مع قصص الأطفال
لم يتحدث إيدان وايت، الكاتب العام للفيدرالية الدولية للصحفيين، من فراغ عندما قال إن رفع الوعي حول حقوق الأطفال وترويجها يعدّ تحديا بالنسبة لوسائل الإعلام، التي ليست فقط مطالبة بتغطية عادلة وصريحة ودقيقة لتجارب الأطفال، ولكن بات لزاما عليها أن توفر فضاءً لآراء متنوعة ومبدعة من الأطفال أنفسهم. وأشار وايت أنه كما يلعب الإعلام دورا في رفع هذا الوعي، فإنه يمكن أن يروّج لسلوكيات تتسامح مع انتهاك حقوقهم كالتسامح مع إظهارهم في مشاهد إباحية وصور صادمة، وقد يحدث هذا بالأساس أثناء تغطية اعتداءات جنسية على الأطفال، ممّا يجعل الصحفي بدوره مشاركا في الاعتداء.
من الوجيه أوّلا العودة إلى الاتفاقية العالمية لحقوق الطفل لعام 1989، التي وقعتها 193 دولة عبر العالم، إذ تنص في مادتها رقم 12 على أن تكفل الدول للطفل القادر على تكوين آرائه الخاصة حق التعبير عنها بحرية في جميع المسائل التي تهمه، بيدَ أنه يجب أن تولي هذه الآراء الاعتبار الواجب لسن الطفل ونضجه. وتنص المادة 17 على تشجيع وسائط الإعلام على نشر المعلومات والمواد ذات المنفعة الاجتماعية للطفل، وتشجيع وضع مبادئ توجيهية ملائمة لوقاية الطفل من المواد التي تضرّ بصالحه.
من خلال إرشادات اليونيسيف المتعلقة بالتعامل الإعلامي مع الأطفال، يمكن أن نستنتج ثلاثة مبادئ أساسية: كرامته فوق كل اعتبار، حماية مصالحه الفضلى، احترام خصوصيته. فالقيمة الأخلاقية لأيّ عمل صحفي تتضاءل كثيرا، مهما بلغت كمية المعلومات التي يتضمنها، إن كان يمس كرامة طفل ويسيء إليه، والأمر ذاته عندما يتعلّق الأمر بانتهاك حقه في الحياة الخاصة، وكذا عندما تكون لهذا العمل تبعات سلبية على مستقبل الطفل، وتحدث هذه التبعات في الغالب بسبب عدم استشارة المقربين من الطفل وعدم تقييمهم للعمل الصحفي، وكذا عند إظهار هويته في تقارير قد تشكّل خطرا على حياته.
من الإرشادات المهمة للفيدرالية الدولية للصحفيين في هذا السياق، هناك عدم نشر أي مادة صحفية من شأنها إحداث ضرر بالطفل، وكذا الابتعاد عن الصور النمطية والأحكام المسبقة في التعامل مع الأطفال، وتجنب الصور والفيديوهات الجنسية، واستشراف الضرر المحتمل للأطفال موضوع العمل عندما يكبرون وبالتالي العمل على تقليله، والتحقق من أيّ معلومة تأتي من الأطفال.
متى يتم طمس هوية الطفل؟
عام 2014، قرّر الراديو الوطني العمومي في الولايات المتحدة عدم نشر هويات فتيات يبلغن من العمر 12 سنة، ألقي القبض عليهن بتهمة طعن فتاة أخرى، رغم أن السلطات القضائية أعلن التعرّف عليهن وأكدت أنه سيتم التعامل معهن كراشدات وليس قاصرات ورغم أن أسماءهن انتشرت في الإعلام المحلي. وقد قام موقع الراديو بسحب أسماء الفتيات بعد نشرها بمدة وجيزة، وقدّمت المؤسسة ثلاثة مبرّرات لهذا التراجع:
أولا كان هناك نقاش في مدينة ويسكونسين، موقع الجريمة المفترضة، أن القضية قد تُحال على قضاء الأحداث (أقل من 18 سنة) بدل قضاء الراشدين. ثانيا أن أسماء الفتيات لا تمثل أهمية مطلقة في القصة بالنسبة للرأي العام. ثالثا الوعي بأن هذه القضية ستؤثر على مستقبل الفتيات، وبالتالي لا توجد ضرورة، على الأقل في المرحلة الأولى، لـنشر ما يضرّ بهن.
مؤسسات إعلامية أخرى تأخذ أمورا أخرى بالحسبان قبل اتخاذ قرار بشأن تعريف القاصرين المشتبه بهم في جرائم أو الذين تمت إدانتهم، منها خطورة الجريمة والقرار القضائي بشأنها (هل قرّر التعامل معهم كراشدين أم لا) وكذا أعمارهم، فبعض هذه المؤسسات تجد أريحية في تعريف قاصر بعمر 17 عاما أكثر من ذي العشر سنوات، إلّا أن جميع المؤسسات الإعلامية ذات المصداقية تؤكد أن الأصل هو عدم نشر أسماء القاصرين المشتبه بهم، ثم تأتي الحالات الاستثنائية المذكورة أعلاه.
تشدّد اليونيسيف على ضرورة طمس هوية الطفل عبر عدم ذكر الاسم وحجب صورته في الحالة أعلاه (ارتكاب الجرائم أو الاشتباه في ذلك)، والأمر ذاته عندما يكون الطفل ضحية للاعتداء الجنسي، أو مصابا بمرض الإيدز ما لم يكن هناك إذن مكتوب من أسرته، وكذا عندما يكون الطفل معرضا لخطر إلحاق الأذى به إذا ما تم الإفصاح عن هويته، خاصة حينما يكون مقاتلا في حرب أو طالبا للجوء السياسي أو لاجئا أو مشردا داخل وطنه.
غير هذه الحالات، يمكن إظهار هوية الطفل شريطة استحضار المبادئ الأساسية المذكورة آنفًا، إذ يمكن إظهار هوية طفل يرغب في الإفصاح عن رأي أو يكون جزءا من عمل سلمي أو مبادرة اجتماعية وعندما تكون مشاركته في برنامج اجتماعي مفيدة لنموه، مع استحضار على الدوام أن يتساءل الصحفي عن مدى ضرورة مصلحة الرأي العام في معرفة هوية الطفل.
التعامل النفسي مع الأطفال
من الضروري أن يستحضر الصحفي عندما يقوم بمحاورة طفل ما أنه أمام إنسان لم يبلغ سن الرشد، لذلك فالتعامل مع نفسية الأطفال أمر ضروري للغاية. وفي هذا الصدد ينصح مركز دارت التابع لمدرسة كولومبيا، الصحفيين الراغبين بإجراء مقابلات مع أطفال عانوا من صدمات بسبب حوادث أو تجارب صعبة بما يلي:
البحث المدقق في الحادث قبل إجراء المقابلة عبر الحديث إلى عدة أطراف بمن فيهم الوالدين حتى يتجاوز الصحفي أيّ تفاصيل من شأنها أن تجرح الطفل، وإعداد الأسئلة مع الأخذ بعين الاعتبار سن الطفل وقدرته على استرجاع الأحداث، والتحدث معه بشكل ودي بعيدا عن التعالي، ومساعدته على تدقيق كلماته عبر سؤاله هل تعني كذا، وتصحيح أيّ خطأ في معلوماته، وعدم طرح أي أسئلة من شأنها تحسيسه بالذنب، واستخدام أسئلة مفتوحة بدل نظيرتها المغلقة.
وتضيف اليونسيف على الإرشادات أعلاه، أن الصحفي المحاور للأطفال، عليه أن يحرص على شعور الطفل بالارتياح، وأن يهتم جيدا بمكان وطريقة عقد المقابلة، وألا يضغط عليه لاستخراج المعلومات.
هل يعدّ إذن الوالدين ضرورة مطلقة؟
المبدأ الأساسي في إجراء مقابلات مع أطفال أو تصويرهم في صور أو مقاطع فيديو هو أخذ إذن يفضل أن يكون مكتوبا من والديه أو الأوصياء عليه. هكذا تؤكد جلّ المواثيق الأخلاقية. لكن لو طُبق هذا المبدأ بشكل صارم فذلك يعني أن الصور التي تخصّ الأطفال داخل مجموعات من الناس كاللاجئين، أو صور أطفال الشوارع، أو صور توثق لظهورهم في الشارع العام أو تؤخذ عن بعد، أو صور أطفال في أخبار عاجلة (اعتداءات "إرهابية")، ستقلِّلُ كثيرا من بنوك الصور الصحفية.
ومن أكبر الأمثلة على ذلك، صورة الطفلة العارية في حرب فيتنام، عندما ظهرت كيم فوك (اشتهرت بعد ذلك وأضحت سفيرة لليونيسكو) عارية وهي تصرخ ألما بعد إصابتها بالنابالم، فقد أكد صاحب الصورة الحاصلة على جائزة بوليتزر أنه لم يحصل على أيّ إذن بشأنها. تقول الفيدرالية الدولية للصحفيين إن الصورة انتهكت حقًا من حقوق الطفلة، لكن الانتهاك الأكبر كان إلقاء النابالم على قريتها، كما أن هناك حاجة للرأي العام بمشاهدة الصورة، وهناك من سيرى أن "خرقا صغيرا" سيكون مبررا إذا أظهر انتهاكا كبيرا.
عموما يبقى النقاش حول صور الأطفال عميقا ولا يمكن حصره في هذا المقال، إذ يظهر فعلا أن هناك خلافا بخصوص الإذن، لكن الفيدرالية تؤكد على مبدأ أساسي: إذا كانت هناك مصلحة عليا للرأي العام في مشاهدة الصورة كتوثيق وفي حالات استثنائية فيمكن التجاوز عن الإذن، غير ذلك، يجب الإصرار على الحصول عليه. لكن إذا تعلّق الأمر بصور الأطفال في مشاهد عامة لا تمسّ خصوصيتهم ولا تؤذيهم ولا تنتهك كرامتهم (صور أطفال يلعبون)، وكذا مقابلات صحفية من هذا النوع (سؤالهم عن رأيهم في كتاب مدرسي) فهناك اتجاه عام في الكثير من المؤسسات الإعلامية نحو نشرها دون الحاجة إلى إذن مسبق.
نقاش مستمر
ليس للعمل الصحفي قواعد ثابتة جامدة تصدق على كل الحالات وتحت كل الظروف، وهو ما يتجسد في القصص المتعلقة بالأطفال، فمبدأ مصلحة الرأي العام في معرفة القصة يعدّ أحد المسالك التوجيهية التي تؤدي بغرفة التحرير إلى اتخاذ قرار بخصوص قصة طفل ما. لذلك تشدّد الفيدرالية الدولية للصحفيين على نقاش دائم داخل المؤسسات الإعلامية حول هذا الموضوع، يرتكز على استبعاد تغطية الإثارة واستحضار أخلاقيات المهنة وتقوية قدرات الصحفيين في التعامل مع قضايا الأطفال، بل والبعض يقترح تعيين أحدهم كمتخصص في قضايا الأطفال حتى يتابع مواضيعهم بالعناية اللازمة.
ومع اشتداد المنافسة والركض المستمر وراء بيع وانتشار المواد الصحفية، قد تظهر بعض المبادئ الأخلاقية مجرّد نصوص جافة لا تصلح سوى للكلام النظري، لكن التطبيع مع الإساءة إلى الأطفال في الإعلام لدرجة أن يتحوّل إلى طقس اعتيادي في صحافتنا التي تشكو من عدة أعطاب، ليس من شأنه فقط الإضرار بفئة الأطفال، بل سيؤثر سلبا على مستقبل الكثير من الأفراد، وسيزيد من التوتر في العلاقة بين المستهلك والإعلام، وسيضرب في مقتل إحدى أهم وظائف هذا الأخير: وظيفة التربية التي باتت اليوم، أكثر الوظائف المغيّبة في المشهد الإعلامي بالمنطقة.
مراجع:
دليل فيدرالية الصحفيين الدوليين: "حقوق الأطفال والإعلام"، الصادر عام 2002.
للتحميل:
https://resourcecentre.savethechildren.net/node/6700/pdf/6700.pdf
اليونيسيف: المبادئ الأخلاقية المتَّبعة في إعداد التقارير الإعلامية حول الأطفال
https://www.unicef.org/arabic/media/24327_43432.html
المدونة الأخلاقية للراديو الوطني العمومي في الولايات المتحدة
الأطفال: التغطية، الصور، المقابلات. موقع الأخلاقيات الخاص بجمعية أخبار الأونلاين الأميركية:
https://ethics.journalists.org/topics/children-coverage-images-and-interviews/
اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989
https://www.unicef.org/arabic/crc/files/crc_arabic.pdf