بين القصة والقضية، وبين التحقيق البوليسي والتحقيق الصحفي، وبين القصة الباحثة عن الحقيقة والقصة الباحثة عن رفع المبيعات، وبين الصحفي الإنسان والصحفي المهني، كلها ثنائيات جعلت من فيلم "ولاية الفوضى"، واحدا من الأعمال السينمائية القليلة التي تتيح للصحفي رؤية جانب من همومه اليومية وانشغالاته الدائمة على الشاشة، بعيدا عن إلصاق أدوار بطولية به تبتعد عن حقيقة ما يواجهه كل يوم من إكراهات.
لن تكون هذه المقالة محاكمة فنية للفيلم، فذلك مجال لا تسعه مساحتها ولا توجهات المجلة، لذلك لن نقيّم أداء راسل كرو في دور الصحفي كال مكفاري، ولا بن أفليك في دور البرلماني ستيف كولينز، ولا الجوانب التقنية في إخراج كيفن ماكدونالد، فالرؤية ستنحصر فيما طرحه الفيلم من ثنائيات ومن تعمّق في مجال مهنة المتاعب، ليس فقط لأن الفيلم اختار الصحافة موضوعا له، وإنما لأنه من خلال "ولاية الفوضى"، يمكن تقصّي جانب من الصحافة الأميركية وطريقة اشتغالها.
يحكي الفيلم قصة مقتل مساعدة النائب في مجلس الكونغرس ستيف كولينز. في الوقت الذي ذهبت فيه العناونين الصحفية إلى انتحارها، يجد الصحفي كال مكفاري، صديق كولينز، ما يبيّن أن الأمر يتعلّق بجريمة قتل. يستمر في التحقيق، عبر شبكة معقدة من المصادر، حتى يصل إلى أن المساعدة كانت لها مهام أخرى خارج نطاق عملها، هي التي تسبّبت في قتلها. لكن هوية المتورطين في مقتلها، هي من ستضع الصحفي في مفترق طرق، لا يجد معه سوى الانتصار لمهنته ونشر الحقيقة كما وصل إليها، مع كل المتاعب التي واجهها في عمله ومع إدارة مؤسسته.
كما يظهر من خلال هذا الملّخص المقتضب، يتعلّق الأمر هنا بجريمة قتل شخصية عمومية، وهو حدث يكفي لجلب اهتمام الشرطة والصحافة معا، وهنا يبدأ الصراع بين رجل أمني ينظر إلى الملف على أنه قضية يجب حلّها، وبين صحفي ينظر إليه كقصة وجب نشرها. لذلك على مدار الفيلم، نجد هذه العلاقة المتعاونة حينا لمصلحة الطرفين، والمتوترة أحيانا أخرى في سبيل إيجاد المعلومة. لذلك يجد الصحفي نفسه، عندما يصل إلى معلومات موثوقة لا تكفي لكتابة قصة، أمام هذين الخيارين: إخبار الشرطة بما توّصل إليه بما أن ذلك سيساعدها على فك خيوط الجريمة؟ أو الاستمرار في جمع المعلومات حتى يسبق الشرطي في القضية/القصة؟
وزاد سيناريو الفيلم من حجم التحديات على الصحفي عندما وضعه في علاقة صداقة مع نائب الكونغرس، ستيف كولينز وزوجته، فكان الضغط أكبر على كال من طرف إدارته لجلب حقائق أكثر ممّا تجلبه بقية الصحف، وهنا حاول الصحفي قدر الإمكان أن يُوازن بين عمله وعلاقاته الإنسانية، لكنه يجد نفسه أحيانًا كثيرة ينتصر للجانب الثاني، فالصداقة دفعته إلى مباشرة التحقيق بفرضية لم تكن دقيقة، وطبيعة القصة جعلته يعمل صحفيا وصديقا في آن واحد، لذلك كان جوابه عندما سأله ستيف كولينز: "هل أتحدث إلى صديقي أم المراسل؟"، كانت إجابته: "الاثنين معا".
وتثير هذه الثنائية الكثير من الأسئلة حول علاقة الصحفيين بالقصص التي يعملون عليها، فالعلاقة ليست بريئة تماما، كما لو أنها إشارة، عبر الفيلم، إلى أن الحياد في العمل الصحفي أمر شبه مستحيل، غير أن الفيلم، ركز بشكل واضح على مسألة عدم الحياد، بجعله الصحفي صديقا للموضوع، وهي إشارة إلى أن كل طرف من هذه القصة، متورط بشكل ما، كما لو أن من ينقل الخبر ويحاكم الآخرين، هو الآخر لديه جانب يمكن محاكمته.
وعبر هذا الغياب في الحياد، يحاول رجل الكونغرس استغلال الصحفي لإبراز جانب آخر من القضية. فبعد أن تمكّن من تحويل الرأي العام إلى الانشغلال بعلاقته العاطفية مع مساعدته بدل أسباب وفاتها، دفع الصحفي إلى اتخاذ زاوية جديدة تخدمه بالأساس، وفي هذه الأحداث إحالة على طرق تلاعب السياسيين بوسائل الإعلام، وأن غالبية سلوكياتهم أمامها ليست تلقائية أو بريئة.
يثير الفيلم كذلك قضية المصادر الصحفية، فذلك الشخص الذي يمنح المعلومة للصحفي مع إخفاء هويّته، غالبا ما يكون الحلقة الأهم، وعبره يتقدم الصحفي في عمله، ونتعرّف على ثلاثة أنواع من هذه المصادر في الفيلم: مصدر لم يشترط إخفاء هويته، لكن الصحفي ملزم بإخفائها حماية لهذا المصدر، ومصدر غير متورط في القضية اشترط ذلك منذ البداية، ومصدر ثالث متورط، يكون إخفاء هويته، هدية له من الصحافة بفضل حجم المعلومات التي قدمها.
وفي الحالتين الأولى والثالثة، أثار الفيلم مسألة أخلاقيات المهنية بشدة، ففي الحالة الأولى، ويتعلّق الأمر بفتاة شوارع، قَبل الصحفي دفع مبلغ مادي نظير الحصول على حقيبة أحد المنحرفين، ومسألة منح المال للمصادر لا تلقى قبولا عند كل الصحفيين. وفي الثانية، قام الصحفي بتسجيل الحوار خفية، دون إخبار المصدر، كما قام بابتزازه عبر عزمه نشر صورته في القصمة إذا لم يعطه المعلومات.. ويبدو أن التحقيق الاستقصائي، وكلما أخذ في الاقتراب من النهاية، يكثر خرق الأخلاقيات، بما أن الصحفي يرّكز أكثر على إنجاح فرضية التحقيق التي بدأ بها دون اكثرات بالوسائل المستخدمة.
وبما أن القصة الجيّدة، تشترط الكثير من الوقت، وبما أن الصحف تبحث عن السبق الصحفي في أقلّ وقت ممكن، فقد وجد الصحفي كال، وزميلة له تساعده، ضغطًا كبيرًا داخل غرفة التحرير بما أن هذا الملف أثار انتباه كل الصحف وصارت تتسابق بينها على النشر، وزاد من الضغط أن الجريدة التي يعمل بها، أضحت تبحث عن رفع المبيعات دون اهتمام بجودة القصة.
وقد ظهر هذا عندما تعرض كا للوم عنيف من مديرته بعدما رفض نشر اتهامات واحدة من صديقات الضحية، بحكم أن ذلك مجرّد تشهير بعيد عن جوهر القصة، فقد قالت المديرة إن الوضع المالي للجريدة يجبرها على نشر هذه الاتهامات، ثم نشر نفيها في وقت لاحق إذا لمزم ذلك، ما دامت القصة ستتيح الربح المالي، وهو ما يثير إشكالية الجودة مقابل الربح المادي فس الصحافة، ومدى تسابق وسائل الإعلام، مجبرة، نحو نشر الأخبار غير الموثوقة، بمبرّر أنها ستحقق مبيعات محترمة.
ينتهي الفيلم بانتصار الصحفي أوّلًا لجانبه المهني على جانبه الإنساني، وانتصاره ثانيًا لمعيار الجودة على حساب الإثارة، وانتصاره ثالثًا لقوة الصحافة في تتبع الحقائق. نهاية سعيدة للبطل كما هي عادة الكثير من الأفلام السينمائية، لكنها نهاية تبقى متسقة مع الواقع الأميركي، حيث تمثّل الصحافة فعلًا سلطة رابعة قادرة على القيام بدورها الرقابي على أكمل وجه، رغم معاناتها من الهاجس المادي والبحث عن تحقيق المبيعات.
لذلك قد لا يجد هذا الفيلم ذاته كثيرا خارج الولايات المتحدة، فالثنائيات التي طرحها، تستلزم أن ننظر إليها من عين الصحافة الأميركية. صحيح أن بعض الإشكاليات التي طرحها توجد عبر صحافة العالم، ومنها معاناة التحقيق الاستقصائي أمام الأخبار الجاهزة، لكن طريقة تناول هذه الإشكاليات في الصحافة الأميركية تختلف كثيرا عن طريقة تناولها في الوسط العربي، حيث تعاني الصحافة، لأسباب كثيرة، من إيجاد منافذ تمكّنها من تحقيق التأثير المنتظر.