"لا أريد أن أعيش في عالم يتم فيه تسجيل كلِّ ما أقوله، وكل ما أفعله، وكل شخص أتحدث إليه، وكل تعبير عن الإبداع والحب أو الصداقة".. عبارة قالها الضابط السابق في وكالة الأمن القومي الأميركية إدوارد سنودن، المتهم بسرقة وتسريب معلومات ووثائق استخباراتية إلى صحيفتي "الغارديان" البريطانية و"واشنطن بوست" الأميركية عام 2013، تفيد بوجود برامج للمراقبة الجماعية على الشعب الأميركي.
ربما تكشف عبارة سنودن هذه عن الدوافع الأخلاقية التي قد تحثّ المُبلِّغين عن المخالفات (Whistleblowers) على القيام بتلك الخطوة وتعريض حياتهم الشخصية والمهنية للخطر، بل وتجعلهم مطارَدين خارج أوطانهم في كثير من الأحيان. كما تلقي الضوء على القيم المشتركة بين المبلّغ عن المخالفات ومهنة الصحافة من حيث الولاءُ للشعوب والرقابة على أصحاب السلطة والنفوذ.
قد يكون التبليغ عن الفساد في البلدان العربية بالتعاون مع موظفين مطّلعين داخل شبكات السلطة والنفوذ، ما يزال بكرًا بسبب عدم وجود قوانين تحمي المبلغين من البطش بهم، ولإشكاليات تعاني منها مهنة الصحافة في علاقتها بالأنظمة العربية. أما الدول الديمقراطية فقد عرّفت دور المبلّغ بأنه "الإفصاح لوسائل الإعلام عن معلومات يُعتقد بشكل معقول أنها دليل على انتهاك أي قانون أو قاعدة أو لائحة، أو سوء إدارةٍ جسيم، أو إهدار للأموال، أو إساءة استخدام للسلطة، أو خطر كبير فيه تهديد على صحة وسلامة الجمهور".
فالمبلّغ عن المخالفات هو شخص -عادة ما يكون موظفًا- يكشف عن معلومات أو نشاط غير قانوني داخل المؤسسة التي يعمل فيها، سواء كانت خاصة أو حكومية، حيث تشير تلك المعلومات إلى هدر أو احتيال أو إساءة استخدام أموال دافعي الضرائب وغيرها.
مارك فيلت.. فضيحة ووترغيت
يعد مارك وليام فيلت من أبرز المبلّغين عن المخالفات، وقد استطاع بكشفه عن الانتهاكات التي كانت تدور في كواليس السياسة الأميركية أن يفجّر ما يعرف إعلاميًّا بفضيحة "ووترغيت" التي أطاحت بالرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون عام 1974.
كان فيلت يعمل ضابطا في مكتب التحقيقات الفدرالي، وساعد مراسليْ صحيفة "واشنطن بوست" بوب وودورد وكارل برنشتاين على الكشف عن اقتحام مكاتب الحزب الديمقراطي في مبنى "ووترغيت"، وزرع أجهزة تنصت للتجسس على أعضاء لجنته القومية. وتسببت هذه الفضيحة في جعل موقف نيكسون أثناء معركة التجديد للرئاسة صعبًا جدًّا، وتفجرت أزمة كبيرة في البيت الأبيض دفعته للاستقالة في أغسطس/آب 1974. وظلت هوية فيلت غامضة وسرية حتى تم الكشف عنها عام 2005.
دانيال إلسبرغ.. حرب فيتنام
سرّب موظف في وزارة الخارجية الأميركية عام 1971 وثائق خاصة بالبنتاغون، وهي سرد سرّي للوقائع المتعلقة بكيفية خوض الولايات المتحدة لحرب فيتنام. وكان إلسبرغ تواصل مع صحيفتي "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" و17 صحيفة أخرى للمساعدة في وقف الحرب هناك، حيث صوّر الدراسة التي تبلغ 7000 صفحة وقدَّمها إلى لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ.
طلبت إدارة نيكسون مساعدة المحكمة العليا في منع صحيفتي "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" من نشر الأوراق، لكن تم رفضها. كما تم رفض محاكمته في 12 تهمة جنائية قد تصل عقوبتها إلى السجن 115 سنة. بعد انتهاء الحرب في فيتنام، أصبح إلسبرغ محاضرًا وباحثًا وكاتبًا وناشطا حول مخاطر السلاح النووي، والتدخلات الأميركية الخاطئة، والحاجة الملحة للإبلاغ الوطني عن المخالفات.
تشلسي مانينغ.. ويكيليكس
مررت المقاتلة في الجيش الأميركي تشلسي مانينغ -المولودة باسم "إدوارد مانينغ"- إلى موقع ويكيليكس قرابة 750 ألف وثيقة سرية وغير سرية، تتعلق بأمور عسكرية ودبلوماسية. أدانت المحكمة مانينغ عام 2013 وحكمت عليها بالسجن 35 سنة لانتهاكها قانون التجسس وغيرها من الجرائم.
تضمنت عمليات الكشف مقاطع فيديو لغارة جوية في بغداد يوم 12 يوليو/تموز 2007، وأخرى في أفغانستان عام 2009، استهدفتا مدنيين بشكل عشوائي وممنهج. كما تضمنت برقيات دبلوماسية أميركية وتقارير للجيش أصبحت تُعرف باسم سجلات حرب العراق ومذكرات الحرب الأفغانية. وفي تصريحات لوسائل الإعلام، قالت مانينغ إنها أصدرت الوثائق "لإظهار التكلفة الحقيقية للحرب".
نُشرت المادة من قبل ويكيليكس وشركائها الإعلاميين "نيويورك تايمز" الأميركية، و"الغارديان" البريطانية، و"دير شبيغل" الألمانية، في الفترة ما بين أبريل/نيسان 2010 وأبريل/نيسان 2011، حيث جذب نشر المواد المسرّبة تغطية عالمية واسعة النطاق. ولكن في يناير/كانون الثاني 2017، خفف الرئيس باراك أوباما عقوبة مانينغ إلى نحو سبع سنوات بدءًا من تاريخ اعتقالها.
الحق في المعرفة
يهتم الصحفيون بشكل خاص بالمبلّغين عن المخالفات، لأنهم غالبًا ما يلعبون دورًا فعالا في الكشف عن القصص التي تهم قطاعا كبيرا من الجمهور. وتعتمد مؤسسات إعلامية على هؤلاء المبلغين لاكتساب نظرة ثاقبة حول كيفية إدارة الحكومة والقطاع الخاص ورجال الأعمال للملفات المختلفة التي تؤثر بشكل كبير على الأفراد.
في بعض الأحيان، يرغب المبلغون في عدم الكشف عن هويتهم، وتبذل وسائل الإعلام قصارى جهدها لحمايتهم، وفي أوقات أخرى قد تكون الهويات علنية منذ البداية. وفي الحالتين يتعرضون لانتقادات وتهديدات كبيرة، ويمتد الهجوم إلى الصحفيين الذين ينقلون القصص.
صحفي "الغارديان" غلين غرينوالد الذي كشف قصة سنودن مع وكالة الأمن القومي الأميركية، اتهمته بعض الأوساط "بمساعدة وتحريض" موظف المخابرات السابق، وطالب بعض السياسيين الأميركيين بمحاكمته إلى جانب سنودن. كما طالته حملة شرسة لنشر تلميحات حول جوانب من ماضي غرينوالد، قد تجعل من صحافته محل تساؤل.
وكتب غرينوالد في الغارديان: "عندما اخترتُ الإبلاغ عن برامج وكالة الأمن القومي شديدة السرية، علمتُ أنني سأكون حتما هدفًا لجميع أنواع الهجمات الشخصية والتشهير.. أنت لا تتحدى أقوى دولة على وجه الأرض وتتوقع أن تفعل ذلك دون أن تتعرض للهجوم".
وهناك مثال آخر وهو تعرض دانيال إلسبرغ للتشهير، حتى إن ضباط المخابرات الأميركية اقتحموا بشكل غير قانوني مكتب طبيبه النفسي للعثور على معلومات تشوّه سمعته.
بين السبق الصحفي وحماية المصادر
يعمل الصحفيون مع المُبلغين عن المخالفات حين يتعلق الأمر بإنجاز التحقيقات الاستقصائية، نظرًا لتوافر شروط العمل الصحفي الاستقصائي مع هذا النوع من المعلومات التي تنطوي على مخالفات وكشف للفساد. لهذا، على الصحفي الذي يشرع في التعرض لهذا النوع من التحقيقات، أن يتعرف على القوانين المختلفة مهما كانت بديهية، ليتمكن من حماية هوية وخصوصية المبلغين وإبعادهم عن المُساءلة القانونية.
ويواجه الصحفيون معضلات أخلاقية عندما يشرعون في العمل مع المُبلغين، فهم بحاجة إلى تحقيق التوازن بين قصة إخبارية رائعة قد تحقق لهم المجد الصحفي، وبين التدمير المحتمل لحياة المبُلغين.
وللخروج من هذا المأزق، على الصحفي أن يوازن بين أمرين: إنجاز السبق الصحفي له ولمؤسسته الإعلامية، وتحقيق المبدأ الأهم في الصحافة وهو حق الجمهور في المعرفة. ولتحقيق المعادلة الصعبة، على الصحفي أن يسأل نفسه قبل أن يمضي قُدما في تحقيقه: هل ستساعد القصة في إنقاذ حياة عامة الناس أو صحتهم أو الحفاظ على أمنهم وسلامتهم؟
عندما يجد الصحفي نفسه قادرًا على الإجابة عن هذا السؤال، سيكون قادرًا على تحديد نقطة البداية لقصته بمجرد اتخاذ قرار العمل مع المبُلغين وفحص جميع العواقب مقدّمًا، وحينها يبدأ العمل الحقيقي.
هنا، على الصحفي تبني مجموعة من الإستراتيجيات لبدء العمل، ومنها:
-
عدم التسليم بأن المواد المقدمة إليه دقيقة وواقعية، ولكن عليه التحقق مما يُقدم إليه من معلومات ووثائق.
-
على الصحفي ألا يجبر المُبلغ على كشف هُويته، فالقرار يجب أن يترك للمُبلغ نفسه، حتى تقع المسؤولية عن النتائج المترتبة على الإبلاغ والتحدث للصحافة على عاتق الشخص نفسه.
-
على الصحفي ألا يبحث كثيرا عن الدافع وراء التقدم بالبلاغ، فمهمته الصحفية يجب أن تتركز على الوثائق ذاتها.
-
قبل التواصل مع المصدر، يجب أن تتوافر إستراتيجية الاتصال الآمن بأي ثمن حتى لا يُعرّض حياته أو حياة مصدره للخطر.
-
إدراك احتمالية تعرض الصحفي والمؤسسة الإعلامية التي تتبنى القضية للخطر والتهديد.
مسؤولية الصحفي تجاه المبلّغ
الصحفي ليس خبيرًا إستراتيجيًّا أو مقدم نصائح في العلاقات العامة، لذا لا يمكنه -بأي حال من الأحوال- أن يكون محامي المبلّغين. ولكن من خلال تطوير الثقة بينه وبين المبلّغ، عليه إظهار بعض الاعتبارات النوعية التي قد تترتب على الإبلاغ عن المخالفات، وذلك من منطلق تشجيعه على الإبلاغ عن المعلومات القيّمة التي بحوزته، وفي الوقت نفسه توفير وسائل حماية المصدر إلى أقصى حد.
تعدّ الكلمة السحرية لتطوير العلاقة بين الصحفي والمبلّغ هي "الثقة"، فغالبًا ما يكون المبلغون في حيرة من أمرهم وخائفين، ليس فقط من المخاطر التي تترتب على كشفهم، ولكن أيضا بسبب تعاملهم الجديد مع مجموعة من الغرباء، وكذلك السياقات الجديدة والقواعد غير المألوفة التي أصبحوا يتعاملون وفقها، فعادة ما يكون هذا عالمًا جديدًا تمامًا للأشخاص الذين لا يعتبرون أنفسهم مُسربي معلومات أو مخبرين، وليس لديهم خبرة في التنقل في عالم الأخبار أو السياسة أو خبرات النشطاء المناصرين للقضايا العامة.
فيما يلي بعض النصائح التي تساعد الصحفيين على كسب الثقة مع المبلّغ:
-
احترم جميع الالتزامات، بداية من تحديد موعد لنشر المعلومات، إلى تقديم إشعار مسبق إذا كان هناك ما يستوجب التعديل في توقيت النشر.
-
كن واضحًا بشأن السرية منذ البداية، بما في ذلك الالتزام بالحفاظ عليها جنبًا إلى جنب مع الحدود الواقعية للقدرة على ضمانها.
-
كن واضحًا أيضا بشأن الحماية التي يمكنك توفيرها للمصدر وما لا يمكنك تقديمه، لمنع الاتهامات بالخيانة أو الوشاية التي قد تكون محتملة في المستقبل.
-
تواصل مع محامٍ لحماية المبلغ، حيث يمكنه المساعدة في إصدار تحذيرات مسبقة إلى صاحب العمل بعدم التسامح مطلقًا مع الانتقام أو التهديد، مما سيخلق افتراضًا لسوء السلوك بشأن التهم ذات الصلة، ويحتمل أيضًا حماية الشهود الذين قد يدعمون ادعاءات المبلّغ.
-
اجعل حماية المبلّغ أولوية واضحة حتى يشعر أن علاقتك به طريق ذو اتجاهين، بدلا من أن يكون مجرد "أداة تقدم أدلة" سيتم التخلي عنها بعد انتفاء الحاجة إليها.
-
وفّر بيئة آمنة للمقابلات والاتصالات.
-
كن مستمعا جيدا أثناء المقابلة، إذ يُعدّ الشعور بالاستماع أمرًا مهمًّا بالنسبة للمُبلغ من أجل مزيد من الانفتاح.
-
ادعُ المبلغ للتأكد من دقة ما تكتبه بعد الانتهاء منه، حتى يتأكد من صحة تقرير المقابلة، ويجب أن يوافق على أنه قال ما كتبتَه فعلا.
-
إذا تم تحقيق الثقة مع المبلّغ الأساسي، يمكنك أن تسعى إلى توسيع نطاق الشهود، مما يشكّل مجتمعا داعما للقصة الصحفية.
-
حافظ على العلاقة المستقبلية بينك وبين المُبلغ، من حيث متابعة تطورات القضية أو ظهور مزيد من الأدلة.
قوانين حماية المُبلغين
يواجه المُبلغون عن المخالفات بعض الممارسات الانتقامية التي قد تبدأ بالفصل من العمل وتشويه السمعة، وقد لا تنتهي عند الابتزاز الشخصي سواء بالتهديد في دوائر العلاقات القريبة كالأهل والأصدقاء، ووصولا إلى الاضطرابات النفسية التي تنتج عن هذا النوع من الضغوط. لهذا، سعى عدد من مؤسسات المجتمع المدني التي تراقب أداء الحكومات وأصحاب الأعمال الذين تؤثر أعمالهم على حياة الناس وصحتهم؛ إلى تشكيل مظلة حماية للدفاع عن المبلغين.
في العام 2003، تم الاعتراف بالدور الحيوي الذي يلعبه المبلغون، والحاجة إلى حمايتهم كجزء من القانون الدولي، وذلك عندما اعتمدت الأمم المتحدة اتفاقية مكافحة الفساد. ووقّعت على هذه الاتفاقية 140 دولة، وصادقت عليها رسميًّا أو وافقت عليها أو انضمت إليها 137 دولة، بما فيها الولايات المتحدة وكندا.
كما يمكن تتبع بعض القوانين لحماية المُبلغين في القانون الدولي في اتفاقية الاتحاد الإفريقي بشأن منع الفساد ومكافحته. كما تم الضغط من أجل اعتماد دولي أكبر لقوانين المُبلغين، بما فيها مجموعة العشرين (G20)، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ومنظمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي (APEC).
وفقًا لتقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لعام 2016، فإن "حماية المبلغين عن المخالفات هي خط الدفاع النهائي لحماية المصلحة العامة"، إذ يمكن أن يختلف نطاق الحماية على نطاق واسع. فمثلا، تحمي قوانين المبلغين في بعض البلدان مثل الهند، الموظفين العموميين فقط. وفي بلدان أخرى مثل اليابان وكوريا الجنوبية، يتمتع الموظفون في القطاعين العام والخاص بالحماية، بينما في بلدان مثل المكسيك والبرتغال والنرويج، يمكن لمجموعة واسعة من الأفراد -بمن فيهم الموظفون السابقون أو المقاولون أو الموردون- التأهل كمبلغين من القطاع العام.
https://lh6.googleusercontent.com/f5rzwdjOiJXItXGeCQ0Z4qSFR1Ro6lOHy3Khl…" width="444" />
Figure 1خريطة توضح الدولة التي لديها قوانين لحماية المبلغين عن المخالفات. المصدر: https://www.whistleblowers.org
المصادر:
The National Whistleblower Center (NWC)
https://www.whistleblowers.org
J-Source.ca: The Canadian Journalism Project
https://j-source.ca
Government Accountability Project