قامت إحدى القنوات العربية يوم 19 آذار/مارس 2021 ببث جولة ميدانية لمراسلتها في مخيم الهول الذي يضم قرابة 63 ألف شخص، غالبيتهم نساء وأطفال من عائلات مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية الذين علقوا في شمال سوريا بعد معركة التنظيم الأخيرة في منطقة الباغوز.
بدأت الصحفية بتتبع الأطفال والنساء داخل المخيم بهدف إجراء مقابلات معهم على الرغم من أنهم كانوا يهربون منها طوال الطريق، وهي تُحدث ضجّة في المكان الذي تسير فيه عبر صراخها بالأسئلة على الجموع، والكاميرا تلاحق وجوههم وهم يحاولون الابتعاد عنها.
تدّعي الصحفية خلال محاولتها مقابلة الأطفال في الفيديو المعنون بـ "وجهاً لوجه مع أطفال الدواعش" أنها كانت هناك لمساعدتهم. هذا الادعاء لا يصمد أمام تصور دكتور أخلاقيات الإعلام في جامعة الشرق الأوسط الأردنية، ليلى جرار، التي ترى أن "تسمية الفيديو بحد ذاتها مرعبة أخلاقيا"، وأنه "في سياق الموضوعية لا ينبغي للإعلام وصفهم بـ "أطفال الدواعش"، بل حتى المنضوين تحت اسم التنظيم من المقاتلين لا ينبغي تسميتهم بهذا الاسم، لأن التسمية الموضوعية هي تنظيم الدولة الإسلامية".
الأخلاقيات وشيطنة الضحايا
قبل سؤال الأخلاقيات المهنية، يتساءل الخبير الإعلامي المختص بقضايا حقوق الإنسان، محمد شمّا، عن الهدف من عرض مثل هذا التقرير وما الرسالة التي يحملها؟
وخرقت الصحفية عدة مبادئ لأخلاقيات الصحافة في تغطيتها، فهي لم تسع للبحث عن الحقيقة بقدر ما سعت إلى أن تُثبت وجهة نظرها المسبقة عن المكان وسكّانه. وقد جاءتهم محمّلة بفكرة أنهم "قنابل موقوتة يمكن أن تنفجر" وأنهم عنيفون بالفطرة، ولم تحاول أن تبذل جهدا أكبر في التواصل الإيجابي معهم للحصول على معلومات من أرض الواقع بدلاً من ترويعهم. كما أشارت الدكتور جرار إلى أن الصحفية "دخلت في سجال مع الأطفال وحاولت توجيههم بأسئلة أشبه بالفخ بما يخدم سرديتها، لدرجة أنها سألت أحدهم: "عندما تكبر ماذا ستفعل بي وأنا لا أرتدي الحجاب؟"
المبدأ الثاني الذي خرقته الصحفية هو "الإنصاف"، والذي يعني تغطية جميع جوانب القصة دون إهمال أحدها. ويشير شمّا إلى أن التقرير خلا بشكل كامل من الإنصاف، حيث "لم يستطع نقل أي ظروف متعلقة بحياة هؤلاء الأطفال، سوى أنهم متأثرون بالخطاب المتطرف ويتعلمون القرآن ولا يذهبون إلى المدرسة، في حين كان يجب أن تشرح لنا: ما معاناة هؤلاء الأطفال في هذا المخيم؟، بدلاً من شيطنتهم".
يُظهر البحث السريع على شبكة الإنترنت أن ظروف المخيم والمناطق المحيطة بشمال شرق سوريا تشكّل خطراً على هؤلاء الأطفال؛ حيث تحتوي المنطقة على أكثر من 22 ألف طفل أجنبي من 60 جنسية على الأقل، يقيمون في المخيمات والسجون، بالإضافة إلى آلاف الأطفال السوريين. هؤلاء الأطفال لا يواجهون وصمة العار فحسب، وإنما يعانون أيضا من ظروف معيشية صعبة للغاية لأن الخدمات الأساسية شحيحة أو غير متوفرة في بعض الحالات، حسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف). ويبرز تقرير المرصد السوري لحقوق الإنسان أن 521 طفلاً دون سن الثامنة عشرة لقوا مصرعهم في المخيم منذ بداية 2019 وحتى نهاية 2020، من جنسيات مختلفة أوروبية وأفريقية وآسيوية.
المبدأ الأخلاقي الثالث الذي تجاهلته الصحفية بالمطلق هو "الإنسانية"، فالميثاق التحريري والأخلاقي لمجلس الصحافة لمقاطعة كيبيك الكندية ينص على "ضرورة تحلي وسائل الإعلام والصحفيين بضبط النفس والاحترام للأفراد وأسر المتضررين من المأساة أو الحزن، ويجب عليهم عدم مضايقتهم، واحترام أي قرار برفض المقابلة".
وفي هذا المنحى، تؤكد الدكتور جرار أنه "حتى في حال موافقة الطفل وأهله على إظهار وجهه في المقابلات الصحفية، فإن على الصحفي أن يعي أهمية عدم نشر صور الأطفال في قضايا جدلية، واعتبر أن إظهار وجوه الأطفال "كارثي، وأنه كان يجب إخفاء وجوههم".
ومن الإنسانية كقيمة صحفية أيضاً، أن يكون الصحفي مدركاً لتأثير الكلمة والصورة التي تبث على حياة الآخرين، فوضع طفل في إطار أنه تهديد أمني أو خطر على المجتمع يعزز من خطر عزله اجتماعيا وحرمانه من حقوقه الأساسية، ومنها الحق بالحياة.
أطفال لهم حقوق
يسود الاعتقاد أحيانا أنه في حال كان الشخص يوسم بأنه "متطرف" أو مجرم مدان فلا حقوق له، ولكن الحقيقة أن هؤلاء الأشخاص لهم حقوق تصونها المعاهدات الدولية والقوانين المحلية، وتنطبق عليهم الأخلاقيات الصحفية نفسها التي تنطبق على غيرهم.
وتشير دورية كولومبيا للصحافة إلى أنه "لا ينبغي للمؤسسات الإخبارية أن تُعرّض الأشخاص الذين تجري مقابلات معهم للخطر، بل يجب عليهم فعل كل ما في وسعهم لحمايتهم من الانتهاكات ومن الإدلاء بما يعتبر فعليًا اعترافات قسرية، حتى لو كانوا من المشتبه بانتمائهم إلى تنظيم الدولة الإسلامية".
وتنص المادة الثانية من اتفاقية حقوق الطفل العالمية على أن "تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة لتكفل للطفل الحماية من جميع أشكال التمييز أو العقاب القائمة على أساس مركز والدي الطفل أو الأوصياء القانونيين عليه أو أعضاء الأسرة، أو أنشطتهم أو آرائهم المعبر عنها أو معتقداتهم"، وهو ما لم تحترمه الصحفية حيث سعت إلى شيطنة الأطفال وتعريضهم لخطر التمييز لأنهم "أطفال الدواعش" وأنهم "ليسوا فقط أطفال متطرفين بل وحاقدين".
وأوضحت الدكتور جرار في هذا السياق أن الحكم المسبق على الأطفال مسلوبي الإرادة ووصمهم بهذه الأوصاف؛ قد يضعهم مستقبلا في خطر عدم التعامل معهم بشكل جيد وعدم إدماجهم في المجتمع، حتى لو اختاروا أن يصلحوا من أنفسهم حين يكبروا. وهذا أمر غير مقبول إطلاقا، ويصل إلى حد اغتيال شخصية هؤلاء الأطفال الآن، ولو تم استعمال تلك الصور ضدهم في المستقبل".
وتنص المبادئ الأخلاقية الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) -والمتّبَعة في إعداد التقارير الإعلامية حول الأطفال- على ضرورة احترام كرامة جميع الأطفال في جميع الظروف، وإيلاء اهتمام خاص بحق جميع الأطفال في الخصوصية الشخصية والسرِّية، وحماية المصالح الفضلى لجميع الأطفال وإعطائها الأولية على أي اعتبار آخر، بما فيها اعتبارات كسب الدعم والتأييد لقضايا الأطفال وتعزيز حقوقهم، والامتناع عن نشر أي قصة إخبارية (أو خبر إعلامي) أو صورة يمكن أن تُعرّض الطفل أو أشقاءه أو أقرانه للخطر؛ حتى عندما يتم تغيير هوية الطفل أو طمسها أو عدم استخدامها.
بناء الثقة.. سر الحصول على المعلومة
بلغة جسد تكاد تكون عدائية تمثّلت بملامح وجه متهكّمة وصوت مرتفع، واجهت الصحفية أطفال ونساء المخيم، دون أن تُعرّف عن نفسها أو عن مؤسستها الصحفية، ودون أن تطرح سبب المقابلة. إنما بشكلٍ مباشر وأمام الكاميرا طالبتهم بالتحدّث إليها، ويشدد شمّا على أنها "انتهكت حق النساء اللواتي لم يرغبن بالحديث معها".
ووفقاً لشبكة الصحافة الأخلاقية؛ فإن الصحفي الأخلاقي يجب أن يحترم عددا من النقاط قبل مقابلة المصادر؛ منها الشفافية بشأن نوايا الصحفي، والاهتمام بحماية المصدر للتأكد من أنه على دراية بالعواقب المحتملة لنشر المعلومات التي يقدمها.
لم يلمس شما "حسن النية" في شكل التغطية؛ لأن "العمل الصحفي الحرفي يجب أن يوصل لنا بيئة المكان ونقاط أساسية متعلقة بظروف حياة الناس، بينما الصحفية قامت بعرض الأطفال وهم يلقون الحجارة عليها في مشهد ليس فيه أي رسالة إلا شيطنتهم".
وتعتبر قاعدة المحافظة على سلامة الصحفي وزملائه من أهم القواعد التي يتبعها الصحفيون في الميدان، لكن التقرير وثّق عملية التصعيد بين الصحفية والأطفال، إلى حد عرّضها وعرض الطاقم لخطر إصابتهم جسديا أو إصابة المعدّات بضرر.