أنهك الوقود والخبزُ السودانيين، بينما لا تزالُ المنابرُ الصحفيّةُ تعتبرُ الحديث عنه تَرَفًا نُخبويًّا، ما بعد الإطاحة بنظام البشير. هذه الحالُ الاقتصاديّةُ كان من المفترَض أنْ تجدَ لها صدًى في الصِّحافة، وكان منتظَرًا من هذه الصِّحافة ألّا تتحاشى الخوضَ في حقوق الأكثريّة المأزومة، وأنْ يكونَ لديها توازنٌ في ترتيب الأولويّات؛ فتنحازَ لمطالب هذه الأغلبية.
لكنّ ساحةَ الصِّحافة ضاقَت على حاجات الشارع، ودان لصوت "النخبة" مَن امتلكوا المنابرَ العامة، وتراجعت المساحةُ الصحفية المتاحة للحديث عن مظاهر الحاجات العامة واتساع رُقعةِ الفقر.
هكذا انقسم المشهدُ إلى معسكرين.
"معسكرُ النخبةِ" الذي يتمثّل في مكوِّنين؛ القِوى الفاعلة التي فجّرَتِ الثورةَ وورثت النّظامَ البائد، وخصومُها السياسيّون من معسكراتٍ أخرى. وهؤلاء أمْيَلُ إلى الأُطروحات والسِّجالات التنظيرية النخبوية من خلال منابر المركز.
في المقابل هناك "معسكر العامّة" الذين أرهقهم العجزُ عن إدراك الضروريات وتوفير أدنى احتياجاتهم المعيشية.
ورغم أنّه الصوتُ الأقوى، لم يفلحْ صوتُ الشّارعِ في انتزاع مُتَّسَعٍ مكافئٍ له في الصحف السودانية الورقية والإلكترونية، التي انصرفت إلى الاهتمام بمشاغل "النخبة" وسجالاتها بمختلف المنصات.
وهو واقعٌ يمكن وصفُه بـ "الخَلَل المفاهيميّ" حول وظيفة الصِّحافة؛ ممثَّلةً بالارتقاء بحياة الناس؛ وهي الوظيفة التي وضعها الصحفيُّ والمخرج البريطاني جوشوا أوبنهايمر في المقام الأول من خلال "الكشف عن معلومات جديدة حيوية للمصلحة العامة، ووضع تلك المعلومات في سياقٍ يُمكّنُنا من استخدامها لتحسين أحوال الناس" على حدِّ قوله.
قُطْبا الرَّحَى
إنّ أكثرَ ما ميَّزَ التّغييرَ في السُّودان؛ أنّ وَرَثَةَ النِّظامِ البائدِ -عدا العسكريّين- قَدِمُوا من الخارج، مُتأثِّرين بمدارس بلدان المَهْجَر. وفي غُضُونِ عامين تلاحقَتِ الأزمةُ الاقتصادية التي هَوَت بالعُمْلةِ السودانية -دون كابحٍ- إلى أدنى مستوياتِها، ولم يعد المدى الأقصى لأحلام العامّة يتجاوزُ الحصولَ على رغيفِ الخبزِ وقِنِّينةِ الغازِ ونظامٍ صحّيّ، وتأمين خِدْمات الماء والكهرباء.
وفي ظلّ تضارُب الأولويّات كان المنتظَر من الصِّحافة أن تُوازِنَ -في تناوُلها- بين الفريقين؛ عبر منْح حاجات العامة وتمظْهُراتِ الفقر الحَيِّزَ الذي يلائم حجمَ معاناتهم. بيد أنّ ظروفًا عديدة أفضت إلى خَلَلٍ جوهريّ، تشهد به المطالَعةُ اليومية للصحف. فمثلًا؛ من خلال تصفُّح سبعة وسائط صحفية بين الورقيّ والإلكترونيّ بتاريخ 12 فبراير 2020، يتضح أنّ حصيلتَها من الأخبار المهمّة وشبه المهمّة بلغت 44 خبرًا، وكان نصيبُ الواقع العامّ لحاجات الناس 6 أخبار فقط، أي ما نسبته حوالي 14%، فيما عالجت القصصُ الأخرى مواضيعَ النُّخبة.
جذور الأزمة
من خلال ذلك يمكنُنا أنْ نعزوَ عدمَ الموازنةِ بين (سِجال نُخبة المركز) و(حاجات العامة ومظاهر الفقر) إلى ثلاثة محاور رئيسة: أوّلُها الواقعُ الاقتصادي للصحف؛ حيث يُجْمِعُ المهتمون في السودان على أنّ الصحف تنتظر النهايةَ الوشيكة؛ جرّاءَ أزمات ارتفاع مُدخَلاتِ الإنتاج وتدنّي التوزيع والإعلان، ما سيؤدّي إلى عجزها عن مواجهة تكاليف الإصدار.
ويصف الصحفيُّ والباحث السوداني ضياء الدين بلال -رئيس مجلس إدارة صحيفة "السودانيّ"- الصِّحافةَ السودانية بأنّها "بلغَت مرحلةَ الاحتضار"، ويؤكِّد معاناتَها جرّاءَ الأوضاع الاقتصادية القاسية، فضلًا عن منافسة وسائل التواصل الاجتماعي، والظروف التي خلَّفَها وباءُ كورونا. ويضيف: "لقد عجزَت الصِّحافةُ عن تطوير نفسها لمواجهة هذه التحديات".
لقد لجأَتِ الكثيرُ من الصحف إلى ما يشبه العملية الجراحية كي تبقى على قيد الحياة. فمنها مَن أوقفَت الصُّدورَ اليوميَّ ورهنَتْه بتوفُّر إعلانٍ يغطّي التكاليفَ. وأخرى قلَّصَت عددَ الصحفيّين العاملين إلى 6 فقط، مِن بينهم مسؤولو التحرير. بينما قلّصت أخرى عددَ صفحاتِها لتصبح 8، فيما آثرت أخرى أن تُوقِف الصدور الورقي، محتفِظةً فقط بواجهتها الإلكترونية.
وممّا فاقَم مِن أزماتِها؛ أنّ كلَّ الصُّحفِ السودانية مملوكةٌ لأفراد، لا لشركات كبيرةٍ تملك هامشًا للمناورة عبر استحداث بدائل ملائمةٍ تسدُّ العجزَ.
أمّا المحورُ الثاني، فهو الجانبُ الاجتماعيُّ؛ حيث إنّ الصحفيّين يعملون بشروطِ عملٍ سيئةٍ، ويفضّلون يُسْرَ تغطية الصالات المُهَيَّأة عوضًا عن أزقّة الفقر ودهاليزه الخانقة.
كما أنّ الصالات تكفلُ ارتباطَ الصحفيّ والصحيفة بالنُّخبة وكلِّ إيجابياتها الاجتماعية؛ على نحوٍ عبَّر عنه الصحفيُّ الأمريكي بريت هيوم بقوله: "يَعتبر بعضُ الصحفيين أنفسَهم منفصلين عن الأشخاص الذين يزعمون أنهم يخدمونهم، بل ويتعالَون عليهم إلى حدٍّ ما".
هذا التوجُّهُ تبنَّتْه الصِّحافةُ الأوروبيةُ مطلعَ القرن العشرين، عندما كان ملح طعامها "النخبة" في كل الأحوال؛ وفق ما يقرّره الصحفيُّ والكاتب البريطاني روبيرت بلاك حين قال: "في الأنظمة الديكتاتورية، تخضعُ وسائلُ الإعلام لسيطرة الدولة. وفي الديمقراطيات، يتم التحكُّمُ بوسائل الإعلام من قِبل أثرياء لهم انتماءاتٌ سياسية، وإنّ الإعلامَ الموضوعيّ والصحفيين غير موجودين في التيّار العام".
والسِّجالُ النُّخبويُّ ذاتُه يبدو أكثرَ إغراءً لكُتّاب الأعمدة اليومية الذين جَرَفَهم تيارُ النّخبة الفاعلة عنوةً، وبعضُهم قد يكون مُنحازًا -ابتداءً- إلى الصَّفوة؛ بفرضية انتمائه لأيٍّ من معسكري المحافظين أو الليبراليين الذين يتقاسمون "إضاءة القاعات"، لا بُؤْسَ الأزقّة الفقيرة.
وحتى القِلّةُ من الصحفيّين الذين ما زالوا يعملون في الصحف؛ فإنّ كثيرًا منهم يعاني من ضعف الخبرات وقلّة فرص التدريب العملي الداخلي والخارجي. وفيما أحالت تكنولوجيا الاتصالات ووسائل التواصل المواطنَ العادي إلى ناقلٍ للخبر الخام، مع إبراز صورٍ قاصرةٍ عن المواصفات الفنية للصحف، لجأت بعض الصحف للاستفادة من التدفق التلقائي عبر وسائل التواصل دون التنقيح المهني الصارم لهذا الوارد.
من جانبٍ آخر، قد أدّى تناقُصُ الصحفيين وعددُ صفَحات الصحف إلى تغييب بعض المعالَجات التي تَمَسُّ المجتمعَ؛ مثل: الصحافة الاستقصائية، والتغطيات الحية للأزمات التي يعاني منها الناس، والتعامل المهني الفَطِن لمَسِيرات رفْض واقع الفقر والجوع في العاصمة وفي حضر السودان وأريافها. لقد استَلَفَت الصِّحافةُ مبدأَ "ما خَفَّ وزنُه، وغلا ثمنُه"؛ بحيث تَقْنَعُ بنقلِ الأخبار من داخل الصالات المغلَقة أو بتصريحاتِ الفاعلين كمهمة يسيرة.
وتنهض آفةُ القصور عن إدراك الموازنة في التناول بين: (حاجات الناس) و(سجال النخبة) كنموذجٍ لأزمات الصحافة السودانية؛ لاسيّما الجانب الاقتصادي.
وهنا يمكن اعتبارُ نمط مِلْكِيّةِ الصحف أكبرَ عقبةٍ في طريق الاستقرار الاقتصادي للصحف؛ حيث إنّ غالبيتها مملوكةٌ لأفرادٍ من الصحفيين الذين لا يملكون أعمالًا أخرى تمكِّنُهم من سَدِّ العجز حالَ تراجُعِ المردودِ الماليّ للصحيفة. وعلى ما يبدو، تلك علةٌ ينطوي عليها قانونُ الصحافة الذي مَنَحَ الحقَّ بقيام صحافة الأفراد.
وإذا كانَتْ ظروفُ الطَّفْرةِ النفطية مطلعَ الألفية الجديدة قد أتاحَت لبعض الصحفيين الربحَ المالي والاجتماعي عبر استثمار العديد من التشوهات في مفاهيم النظام البائد وسلوكه؛ فإنّه من الأصلح للصحف السودانية -في المرحلة الحالية- أن تتجه إلى عمليّات الاندماج فيما بينها؛ لتأسيس شركاتٍ إعلاميةٍ شاملةٍ بمقدورها تبنّي مختلف الوسائط والفروع التي تكفل الاستقرار المالي والإداري للصحف.
وفي هذا الإطار، من الممكن طرحُ أسهمِ الصحف؛ كشركاتٍ مساهمةٍ عامةٍ، ولكلٍّ منها مجلسُ إدارةٍ يملك الأهليّةَ والرؤية اللازمة للاستدامة والتطوير. ويلزم تلك النقلةَ غطاءٌ قانونيٌّ؛ عبر تعديل قانون الصحافة، مع منْحِ مجلس الصحافة هامشًا من المرونة؛ ليُسهِمَ في تعزيز هذا الهدف؛ بتدرُّجٍ يُتيح للصحف القائمة توفيقَ أوضاعها، مع الإسهام بالدّعم الفنيّ المطلوب.
ورغم أنّ غالبيّةَ الصحفيين ينتمون إلى الطبقة العامة التي تكتوي بالظروف الاجتماعية، إلّا أنّ الواقع يجعلهم يتقرّبون إلى "النخبة" على حساب حاجات العامة. وهذا ما عبَّرَت عنه الصحفيةُ الأمريكية هيثر براينت -مديرة منظمة الواجهة "Facet"- بقولها: "بشكل عامّ، تميل التغطيةُ الإخبارية إلى استبعاد الذين يعانون من الضوائق الاقتصادية؛ كما لو أنهم لا يشاركون في نفس النظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية كأيّ شخص آخر".
في الغالب، يُضطَّرُ الصحفيون إلى ترديد ما تُقَرِّرُه الأجهزةُ الرسمية من مُسوِّغاتٍ؛ بمعزلٍ عن فحص المعطيات -وفقَ ما تُملِيه أعرافُ المهنة-، مع النزعة إلى استخدام لغةٍ فخمةٍ تتجاوزُ الواقعَ، بالمصطلحات وفنون الخطابة. وهو ما نبّهتْ إليه الصحفيةُ دينيس أوردوا: "يجب أن يكون لدى الصحفي فهمٌ قويّ للقضايا التي يغطّيها؛ من أجل الكتابة عنها بطريقة مباشرة، ولا يكفي أن يُكرِّرَ -بببغائيةٍ- التفسيراتِ التي يقدِّمُها المسؤولون الحكوميون والأكاديميون. وعندما يعتمد الصحفيون على المصطلحات والكلمات الكبيرة، أو يقدّمون مراجعَ تاريخيةً وأدبية غامضة، فإنهم يعسِّرون مهمةَ أنْ يفهمَهم الجميعُ".
ونذكر هنا أنّ الصحفيتين هيثر براينت، ودينيس أوردواي -القادمتين من خلفيات فقيرة- نشرتا في موقع (Journalist’s Resource JR)، الذي يحرره مركز شورنشتاين للإعلام والسياسة بكلية كينيدي بجامعة هارفارد، مطلع سبتمبر 2018، نشرتا مقالًا مشترَكًا تناول نصائح جمّةً للصحفيين حول تغطية الفقر والضوائق الاقتصادية؛ تحت عنوان: "تغطيةُ الفقر: ما يجب تجنُّبُه وكيفيّةُ تصحيحه".
وإذا سلَّمْنا -جدلًا- بأنّ الأزَماتِ التي تعاني منها الصحفُ السودانيةُ هي وراءَ القصورِ في التناول المستحَقّ للضوائق وحاجات المجتمع الضرورية؛ فإنّ الرُّكون لذلك الواقع -دون تشريحٍ للتحديات بغيةَ تجاوُزها- يُضاعِفُ مأساةَ الفقراء في هذا البلد، ويُضحّي بحقِّهم في أنْ يكونوا جُزءًا من القصة الإعلامية.