أثناء اقتحام قوات الاحتلال مدينة جنين صباح يوم 11 أيّار/الماضي، تجمّع صحفيون ومصورون في المنطقة: مجاهد السعدي وشذا حنايشة وعلي السمودي وشيرين أبو عاقلة بالقرب من مقبرة الشهداء. ساروا لدقائق قليلة قبل أن يبدأ جيش الاحتلال بإطلاق النار نحوهم. التفتت شيرين أبو عاقلة إلى زميلها علي بعد إصابته، وكانت آخر كلماتها "اتصاوب علي"، قبل أن تُستهدف بشكلٍ مباشر برصاصة أسفل الأذن، وهي منطقة لا تغطيها الخوذة التي كانت ترتديها.
يُوثِّق فيديو بثَّته قناة الجزيرة، مشهد إطلاق الرصاص الذي كان مباشرًا ومستمرًّا ومتعمَّدًا، كما روت الصحفية شذا حنايشة، التي كانت من الشهود على جريمة الإعدام الميداني لأبو عاقلة، وهو ما ذكره أيضًا الصحفي علي السمودي، المنتج بقناة الجزيرة والمرافق لشيرين أبو عاقلة.
لا تزال سلطات الاحتلال الإسرائيلي تمتنع عن فتح تحقيق في مقتل شيرين أبو عاقلة، رغم أن أبحاثها الأولية أثبتت أن جنودها أطلقوا الرصاص باتجاه الموقع الذي كانت فيه شيرين، إضافة إلى تحقيقات أخرى أنجزتها شبكة "سي أن أن " (CNN)، و"أسوشيتد برس، وقناة الجزيرة أكدت استهداف أبو عاقلة من قِبل قوات الاحتلال، وخلو المنطقة من المسلحين قرب شيرين خلال اللحظات التي سبقت قتلها.
شيرين أبو عاقلة ليست الأولى التي دفعت حياتها مقابل الحقيقة وتصدير الرواية الفلسطينيّة وتأريخ جرائم الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني، بل سبقها عشرات الصحفيين والإعلاميين قتلهم الاحتلال بطرق مختلفة، سواء بالرصاص أو بالتفجيرات أو بالصواريخ. ووصل العدد خلال الـ 50 سنة الأخيرة لـ107؛ يستهدفهم الاحتلال قصدًا في محاولة منه لطمس الحقائق، ومنع وصول الصورة الكاملة لقمع الفلسطينيين.
قائمة ممتدة
كانت هزيمة يونيو/حزيران 1967 بمثابة الثقب الذي فجّر "جدران الخزّان" لدى الصحفي غسّان كنفاني (36 عامًا)، بتوليه رئاسة تحرير جريدة "الهدف" التابعة للجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين.
برفقة ابنة أخته لميس نجم (17 عامًا)، اغتيل كنفاني بمنطقة الحازميّة في بيروت، بتاريخ 8 يوليو/تمّوز 1972، بعد زرع الموساد الإسرائيلي عبوة متفجرّة داخل سيارته. لم يعترف رسميًا وبشكلٍ صريح باغتياله، إلا أن رئيسة وزراء الاحتلال، جولدا مائير، علّقت بعد العملية قائلة: "اليوم تخلصنا من لواء فكري مسلّح".
وبتفجير عبوة أخرى زرعها عملاء الموساد تحت سريره الخاص في فندق "فلورا" في روما، استشهد الصحفي ماجد أبو شرار (45 عامًا) عام 1981 الذي تولّى رئاسة تحرير صحيفة "فتح" اليوميّة، وأصبح في عام 1973 مسؤولًا عن الإعلام المركزي ثم الإعلام الموحد لمنظمة التحرير الفلسطينيّة، ورئيس دائرة الإعلام المركزي ثم الإعلام الموحد للحركة.
أما الصحفي حسن عبد الحليم الفقيه (30 عامًا)، الذي كان يعمل صحفيًا في جريدة الفجر والبيادر السياسي، ومهتمًا بقضيّة بيع أراضٍ فلسطينيّة وملاحقة المسؤولين عن ذلك، فاختطفه الموساد الإسرائيلي مدّة ثلاثة شهور بعد كشفه عن أسماء سماسرة بيع أراض في القدس ورام الله، وعُثر على جثته عام 1985 في أراضي بيت حانون في القدس المُحتلّة.
وبحسب بيانات وزارة الإعلام الفلسطينية ومركز المعلومات الفلسطيني، فإن الاحتلال اغتال خلال عشر سنوات (2000-2010) 25 صحفيًا من مختلف الأراضي الفلسطينيّة، كان أولهم الصحفي عزيز يوسف التنح (32 عامًا) من بيت لحم، الذي كان يعمل في وكالة الأنباء الفلسطينيّة بعد إصابته برصاصة في الرأس، فيما قتل في عام 2001 الصحفيان محمد البيشاوي (27 عامًا) وعثمان قطناني (24 عامًا) باستهداف صاروخي للمركز الفلسطيني للدراسات والإعلام بنابلس.
وخلال أحداث اجتياح مدن الضفة عام 2002، ارتقى الصحفي عصام التلاوي (30 عامًا) إثر إصابته بعيار ناري في الرأس خلال مسيرة سلمية برام الله منددة بمحاصرة الرئيس الفلسطيني السابق ياسر عرفات في مقرّه، والصحفي عماد أبو زهرة (30 عامًا) الذي قضى إثر إصابته بعيارات ناريّة أطلقها عليه جنود الاحتلال من داخل مجنزرة في مدينة جنين.
كما استهدف الاحتلال الصحفي نزيه دروزة (46 عامًا) عام 2003 برصاصة في عينه في مدينة نابلس خلال تغطيته اقتحام البلدة القديمة، وعام 2008 استشهد المصوّر الصحفي في وكالة "رويترز" فضل شنّاعة (23 عامًا) إثر إصابته في قصف مدفعي على قرية جحر الديك في مدينة غزّة.
وفي العدوان الإسرائيلي على غزة فقط (الذي استمر 50 يومًا صيف 2014) قتل القصف الإسرائيلي 16 صحفيًّا فلسطينيًّا.
واستمر عدوان الاحتلال على الطواقم الصحفيّة إلى ما بعد ذلك، ففي عام 2019 قُتل برصاص الاحتلال الإسرائيلي الصحفي ياسر مرتجى (29 عامًا)، خلال تغطيته لمسيرات العودة عند الشريط الحدودي لقطاع غزة. والعام الماضي استشهد يوسف أبو حسين (26 عامًا)، الصحفي في إذاعة "الأقصى" المحلية خلال قصف قوات الاحتلال الإسرائيلي، لمنزله في حي الشيخ رضوان، بمدينة غزة.
صحفيون خلف القضبان
في اليوم العالمي لحرية الصحافة، الذي يصادف الثالث من مايو/أيار من كل عام، نشرت لجنة دعم الصحفيين -وهي منظمة عربية تعنى بحقوق الصحفيين- بيانًا قالت فيه إن الاحتلال الإسرائيلي يعتقل داخل سجونه، 19 صحفيًا وإعلاميًا فلسطينيًا، دون توجيه أي تهمة واضحة بحقهم.
وفي تقرير نشره المرصد "الأورومتوسطي" لحقوق الإنسان العام الماضي بعنوان "معاقبة الصحفيين: قيود إسرائيل على حرية التنقل والحركة"، ذكر أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تتعمد ابتزاز الصحفيين والتضييق عليهم أثناء محاولتهم للسفر داخل أو خارج البلاد.
واتهم المرصد الاحتلال بأنه "يمنع الصحفيين من السفر والتنقل بشكل غير قانوني"، موضحًا أن هذا القمع يأتي كعقاب بسبب خلفية عملهم كصحفيين، إلى جانب ابتزاز الصحفي عبر مساومته إما بترك مهنته أو ترك مكان عمله، وقد تصل إلى ابتزاز الصحفي الفلسطيني للتخابر معهم عبر تبادل معلومات عن الفلسطينيين.
وبحسب إفادات الصحفيين المذكورين في التقرير فإنهم في حال رفضهم العروض، يتعرّضون للاعتداءات الجسديّة والنفسيّة من خلال الضرب والاحتجاز والاقتحامات المنزلية والتهديد بالملاحقة المتواصلة.
وأوضح أن عمليات المنع من السفر والتنقل تجري وفقًا لقرارات إدارية تصدرها السلطات الإسرائيلية، بما فيها جهاز المخابرات، دون اتباع إجراءات قانونية أو قضائية ودون إعلام الصحفيين بالقرار وقت صدوره أو بالجهة التي أصدرت القرار والأسباب التي دفعتها لذلك، مستدركًا أنه "لا يتم إخبار الصحفيين كذلك بكيفية إزالة القرار أو الاعتراض عليه".
انتهاكات ممنهجة
تاريخ الانتهاكات الإسرائيليّة الذي استهدف الصحفيين العاملين في الأراضي الفلسطينية المحتلة خلال السنوات الماضيّة، يدل على استخدام عدّة أشكال مختلفة من الاعتداءات مثل الاغتيال والاعتقال وقصف وتدمير مقار وسائل الإعلام، كما تشير الشواهد والحالات التي توثِّقها تقارير المنظمات الدولية.
خلال الأشهر الأولى من العام الجاري رُصد 160 انتهاكًا إسرائيليًا ضد الصحفيين. وتأتي هذه الانتهاكات كاستمرارية لسياسة الاحتلال الممنهجة ضد الصحافة الفلسطينية، إذ رصد المركز الفلسطيني للتنمية والحريات الإعلاميّة "مدى" خلال العام 2021 ووثّق ما مجموعه 368 انتهاكًا من قِبل الاحتلال في الضفة الغربية (بما فيها القدس المحتلة) وقطاع غزّة.
تنوّعت هذه الانتهاكات ما بين حالات اعتداء جسدي والاعتقال في الضفة وغزّة، وتسجيل حالات قتل لصحفي واثنين من خريجي الصحافة في قطاع غزّة، وتدمير المؤسسات الصحفيّة، كما كانت الحال في قصف برج الجلاء الذي انهار أمام عدسات الصحافة العالمية.
ويُعد قصف برج الجلاء الاستهدافَ الأبرز للمقرات الإعلامية، فقد كان يضم 8 مؤسسات إعلامية، منها مكاتب واستوديوهات قناة الجزيرة ومقر وكالة الصحافة الأمريكية "أسوشيتد برس". كما قصف الاحتلال برج الشروق الذي كان يضم 6 مؤسسات إعلامية، منها فضائية وإذاعة الأقصى وقناة فلسطين اليوم.
وأرجع المركز زيادة عدد الانتهاكات في عام 2021 بالمقارنة مع عام 2020 -الذي سُجّل فيه 215 انتهاكًا- إلى انخفاض حدّة الإجراءات الاحترازيّة من فيروس كورونا وعودة الحياة إلى طبيعتها والفعاليات الشعبيّة والوطنيّة إلى سالف عهدها، كالمسيرات والفعاليات في بعض القرى الفلسطينيّة مثل بيتا وكفر قدوم، ومحاولة سلطات الاحتلال سلب بيوت الأهالي في حي الشيخ جراح وحي سلوان في القدس المُحتلة، وأخيرًا العدوان العسكري على قطاع غزّة، ما استدعى وجود الصحفيين بشكلٍ مكثفٍ في الميدان واحتمالية تعرّضهم للانتهاكات.
ظروف اغتيال الصحفيّة شيرين أبو عاقلة أعادت تسليط الضوء حول سياسة الاحتلال الإسرائيلي في التعامل مع الصحافة الفلسطينيّة خارج القوانين والمعاهدات الدوليّة، ودون أي مساءلة للسياسات أو معاقبة واستجواب مرتكبي جرائم القتل والاعتداء. الأمر الذي يدفع لمزيد من الانتهاكات بحق الصحفيين من قتل، اعتداء، اعتقال، ومضايقات تعيق التغطيات الإعلاميّة، وتكريس الإفلات من العقاب، فضحايا السياسة الإسرائيلية في تعاملها مع وسائل الإعلام طال العشرات من الصحفيين على مدار 50 عامًا، ولم تُعقد محاكمة لأي من جنودها أو قنّاصيها حتى الآن. علاوة على ذلك تجد السلطات في كلِ مرّة المبررات الجاهزة المتكررة والضعيفة لما تقوم به من جرائم واعتداءات وإعدامات ميدانيّة، ما يشير إلى التلويح بمخالفة الاحتلال للمواثيق الدوليّة والمعاهدات فقط لا تكفي، وصار البحث عن آليات دولية تنفيذية ناجزة لمحاسبة مرتكبي الجرائم ضرورة.