بعد السادسة بدقائق من صبيحة السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وقبل أن ينهي صحفيو المؤسسات الإعلامية العاملة في غزة مهام مناوبتهم الليلية، عمّت أصوات الصواريخ الكثيفة المنطلقة صوب الأراضي الفلسطينية المحتلة أرجاء قطاع غزة. حينئذ، أشعلت وسائل الاعلام المحلية ومراسلو محطات التلفزيون والوكالات العربية والدولية أضواء الطوارئ الحمراء التي تشير إلى أقصى درجات الاستنفار لتغطية حدث غير معتاد في الميدان، ولم يسبق له مثيل رغم محطات التصعيد المتكررة التي اعتاد عليها الصحفيون في غزة.
ومع إعلان حالة الطوارئ الإعلامية، يتخذ الصحفيون العاملون في كل مؤسسة مواقعهم وأدوارهم الميدانية بحسب الخطط المعدة مسبقا التي تُحدّث بشكل مستمر بعد كل عدوان، مستفيدين من كل الملاحظات والتجارب التي مروا بها.
في الميدان
أولى خطوات الطوارئ التي تتخذها قنوات التلفزيونن والمحطات الإذاعية التي تبث من قطاع غزة هي نقل أستوديوهات بثها إلى مقرات بديلة وإفراغ مقراتها الرئيسة المعروفة؛ حرصا على سلامة طواقمها التي اعتادت قوات الاحتلال على تدميرها مع كل تصعيد.
أما المواقع الإلكترونية الإخبارية العاملة في قطاع غزة، فتفعِّل خطة طوارئها بالاعتماد على عمل طواقم محرريها من أماكن سكنهم عن بعد؛ نظرا لصعوبة التنقل وحرصا على سلامتهم.
وخلال أيام العدوان والتصعيد تتوقف الصحيفتان الصادرتان من قطاع غزة عن إصدار نسخهما المطبوعة وتكتفيان بالنشر الإلكتروني؛ تجنبا للخطورة التي يمكن أن تلحق بطواقمها والمطابع.
وينتشر مراسلو القنوات الفضائية والصحف والإذاعات والمواقع الإخبارية المحلية والعربية والدولية في محافظات قطاع غزة الخمس، متخذين من مستشفياتها مقرا لـ "عملهم"؛ وذلك لعدة أسباب:
- سهولة حصول الصحفيين على المعلومات من الجهات المختصة، سواء الحكومية أو الطبية التي توجد داخل المستشفيات وتخرج بمؤتمرات صحفية دورية من هناك.
- نقل مشاهد الشهداء والمصابين الذين تستقبلهم المستشفيات، والحصول على شهادات الناجين منهم.
- يشكل ضباط الإسعاف الذين تصل مركباتهم إلى المستشفيات مصدرا للمعلومات لتحديد أماكن القصف والاستهداف بدقة، ويمنحون الصحفيين تفاصيل ما يجري من مجازر.
- كانت المستشفيات قبل هذه الحرب تشكل نقطة آمنة للصحفيين لا تُستهدَف بشكل مباشر.
مع الاستهداف المكثف للمنازل والمؤسسات العامة والخاصة والشوارع والبنى التحتية، تضرر كثير من شبكات الهاتف والإنترنت، وهو ما أخرج كثيرا من الصحفيين والمراسلين الميدانيين قسرا عن المتابعة الإخبارية.
مؤشرات خطيرة
في الأيام الأولى للعدوان ومع اشتداد الغارات الجوية، لحظ الصحفيون أن الحرب هذه المرة تختلف عن سابقاتها، وبرزت مؤشرات تعزز تخوفاتهم؛ منها القصف المكثف لمنازل المواطنين على رؤوس ساكنيها دون سابق إنذار، وهو ما رفع أعداد الشهداء والجرحى بشكل غير مسبوق، إضافة إلى الاستهداف المباشر للصحفيين؛ إذ بلغ عدد الشهداء منهم 70 صحفيا دون أي اعتبار للحماية التي توفرها لهم اتفاقية جنيف الرابعة والقوانين الدولية.
وكان المؤشر الأخطر بالنسبة للصحفيين هو استهداف قوات الاحتلال منذ الأيام الأولى للعدوان مقرات شركات الاتصال والإنترنت لأول مرة خلال حروبها المتكررة على غزة، وهو ما زاد التخوف والشكوك من أن إسرائيل تتجه نحو قطع اتصال غزة بالعالم، في خطوة لم تكن محسوبة لدى العاملين في وسائل الإعلام.
ومع الاستهداف المكثف للمنازل والمؤسسات العامة والخاصة والشوارع والبنى التحتية، تضرر كثير من شبكات الهاتف والإنترنت، وهو ما أخرج كثيرا من الصحفيين والمراسلين الميدانيين قسرا عن المتابعة الإخبارية.
في تلك اللحظات، تنبهت عدة وكالات ومواقع إخبارية وبدأت تستعين بطواقم صحفية تقيم خارج قطاع غزة؛ بهدف استمرار التغطية وعدم توقف الرسالة الإعلامية في حال انقطع الاتصال بغزة التي تنهال عليها الصواريخ كل دقيقة.
الاتصال المفقود
نقطة التحول في تغطية الحرب على غزة كانت عند الساعة 6:36 من مساء يوم الجمعة الحادي والعشرين للعدوان على غزة، عندما بدأت أصوات الانفجارات العنيفة تتوالى دون انقطاع.
"الآن قصف عنيف مكثف في المنطقة الشمالية الغربية لمدينة غزة"، هذه الرسالة الأخيرة التي أرسلتُها إلى ديسك التحرير الإخباري، وبعدها انقطع الاتصال والإنترنت كاملا، عقب أحزمة نارية شنتها طائرات الاحتلال على عدة مناطق في قطاع غزة.
ويُعرَّف الحزام الناري بعملية قصف مكثفة ومتواصلة تستهدف مساكن وشوارع ومفترقات طرق في منطقة معينة، ويهدف الاحتلال من ورائها إلى تدمير المنطقة كاملة وتقطيع أوصال الشوارع وتخريب البنية التحتية وقطع خطوط الكهرباء والماء والاتصالات.
مع انقطاع الاتصالات والإنترنت، لم يعد أحد يعلم ما يدور خارج منزله أو مكان وجوده، وكل ما يمكن تخمينه هو أماكن متوقعة للقصف حسب اتجاه اللهب الذي يسبق صوت الانفجار.
في تلك اللحظات، كان الراديو الوسيلة الوحيدة المتاحة لسكان غزة لمحاولة معرفة ما يجري، لكن مع تقطع الاتصالات توقفت المحطات الإذاعية جميعها عن العمل بعد أن فقدت التواصل مع مراسليها في الميدان.
ونجحت إذاعتان فقط في نقل بث قناتي الجزيرة والجزيرة مباشر اللتين اكتفى مراسلوهما في المحافظات برصد ما يدور حولهم أيضا، وغابت عنهم معلومات ما يجري جراء هذا القصف العنيف.
ظلت الاتصالات وخدمة الإنترنت منقطعة لأكثر من 48 ساعة متواصلة، وعادت في بعض المناطق وغابت عن أخرى، وتكرر الأمر ذاته لاحقا أكثر من مرة.
على الحال نفسها ظلت التغطية متقطعة؛ إذ لم تعد المواقع الإخبارية والإذاعتان اللتان واصلتا التغطية قادرة على تحديد كل الأهداف التي تدكها طائرات الاحتلال بدقة، ولم تعد تذكر أسماء العائلات التي قُصِفَت منازلها وعدد الشهداء والجرحى الذين سقطوا في كل غارة، بعد أن كان المواطنون يعتمدون عليها طوال أيام العدوان الماضية للاطمئنان على أقربائهم ومعرفة مصيرهم، وهو ما شكل عامل قلق وتوتر لدى سكان غزة في ظل غياب المعلومات.
في لحظات القصف، كان الراديو الوسيلة الوحيدة المتاحة لسكان غزة لمحاولة معرفة ما يجري، لكن مع تقطع الاتصالات توقفت المحطات الإذاعية جميعها عن العمل بعد أن فقدت التواصل مع مراسليها في الميدان.
الخيارات الأخيرة
النقطة الأخرى للتحول في التغطية الإعلامية تزامنت مع سيطرة قوات الاحتلال الإسرائيلي على محيط مجمع الشفاء الطبي تمهيدا لاقتحامه في اليوم الخامس والثلاثين للعدوان. حينئذ، اضطرت الطواقم الصحفية للخروج منه تحت وطأة القذائف المدفعية المتواصلة على المكان.
في تلك اللحظات، شُلت التغطية الإعلامية في محافظة غزة مركز القطاع وأكبر محافظاته وبات الخبر شحيحا؛ إذ أراد الاحتلال أن يرتكب جرائمه بعيدا عن عدسات الصحفيين.
وما زاد من حالة الإرباك في الساحة الداخلية الغيابُ الاضطراري لإذاعة الأقصى المحلية التي استمرت وحيدة في التغطية حتى سيطرة الاحتلال على مجمع الشفاء الطبي.
حينئذ، باتت الرواية الفلسطينية شبه مشلولة ولم تعد تصل إلى الجمهور الغزي بعد أن اجتمعت كل العراقيل؛ بداية من انقطاع الكهرباء وعدم تمكنهم من مشاهدة محطات التلفزيون، مرورا بانقطاع الإنترنت وعدم استطاعتهم متابعة المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي، وانتهاء بخروج الإذاعة عن الهواء.
في هذه الظروف، لم يعد أمام الصحفيين خيارات في محافظتي غزة وشمالها -اللتين تشهدان تقدما بريا لجيش الاحتلال في معظم مناطقهما- إلا الاستعانة بشرائح هواتف تتبع شركات إسرائيلية كان عدد منهم أعدها لوقت الطوارئ؛ لأنها تعمل في المناطق الشرقية للمحافظتين نظرا لقرب هذه المناطق من الحدود مع الاحتلال. وهكذا حافظ قليل منهم على تواصل التغطية واستمرار الصورة رغم ضعفها.
الخيار الثاني كان إمداد عدد من المؤسسات العربية والدولية لصحفييها بشرائح إلكترونية تعمل عبر الأقمار الصناعية وتوصل الإنترنت بصعوبة؛ نظرا لعدم جاهزية بنية الاتصالات الفلسطينية للعمل عليها.
أما الخيار الأصعب فكان أمام جمهور المستمعين من سكان غزة الذين لم تعد لهم وسيلة لمعرفة عناوين الأخبار سوى الاستماع اضطرارا لإذاعة (مكان) الإسرائيلية الناطقة بالعربية، التي تصل إشارتها إلى قطاع غزة بقوة وتتبع هيئة البث الإسرائيلية الرسمية.
وتكمن خطورة هذا الخيار في استماع المواطنين من خلال هذه الإذاعة إلى وجهة النظر الإسرائيلية وإلى كل ما يود الاحتلال توجيهه من رسائل إلى السكان الفلسطينيين!
وكان ثمة خيار آخر لكن إشارته تصل ضعيفة، وهو الاستماع إلى إذاعة منبر الحرية التي تبث من محافظة الخليل ويصل بثها إلى غزة، نظرا للقرب الجغرافي من المدينة المرتفعة جغرافيا التي تطل على الجهة الشرقية لمدينة غزة وتعيد بث قناة التلفزيون العربي.
ما زاد من حالة الإرباك في الساحة الداخلية الغيابُ الاضطراري لإذاعة الأقصى المحلية التي استمرت وحيدة في التغطية حتى سيطرة الاحتلال على مجمع الشفاء الطبي.
قلق وتوتر
أمام كل الصعوبات والعراقيل السابقة، تظل الحالة النفسية للصحفيين العاملين في الميدان هي الأصعب، بعد أن اجتمعت عليهم كل الضغوط التي لم يخطر لهم يوما ما أن يتعرضوا لها، وتتمثل في:
- تعرضهم لمشاهد قاسية خلال التغطية الميدانية، ورؤيتهم لأشلاء الشهداء والإصابات الخطيرة الملقاة في ممرات المستشفيات، واستماعهم إلى شهادات صعبة يقصها الناجون من المجازر.
- استهداف الصحفيين بشكل مباشر من قبل الاحتلال الإسرائيلي، واستشهاد عدد منهم أمام زملائهم في الميدان وإصابة آخرين.
- وجود معظم الصحفيين في الميدان بعيدا عن ذويهم وانقطاع الاتصال بينهم، وهو ما زاد من حدة التوتر والقلق لديهم، وكذلك اضطرار عدد من الصحفيين الموجودين في محافظتي غزة والشمال إلى توجيه أسرهم إلى جنوب غزة بحثا عن الأمان.
- فقدان كثير من الصحفيين عددا من أفراد أسرهم خلال الحرب، وهو ما أوجع قلوبهم لكن لم يمنعهم عن الاستمرار في التغطية.
ملاحظة: كتبتُ هذه السطور والقذائف المدفعية تدك شمال غزة، وشظاياها تتناثر على منازل المواطنين وبين أزقة الشوارع في الليلة التاسعة والأربعين للحرب، وكان صاحبها شاهدا تحت النيران يبحث عن الاتصال المفقود.