في انحياز عدد من وسائل الإعلام الغربية للرواية الإسرائيلية، قد يُعتقد أن الصحفيين العرب -ومنهم الفلسطينيون- سيدفعون نحو تغطية متوازنة، أو يعملون على إظهار الصوت الفلسطيني، ولا سيما بعد سقوط آلاف الضحايا الفلسطينيين في غزة وتشريد جلّ سكان القطاع.
هذا الأمر قد يكون صحيحا بنسبة كبيرة، لكنه ليس حقيقة مطلقة؛ هناك صحفيون عرب يعملون على توسيع هامش الحرية بشكل كبير، ويعملون من داخل هذه المؤسسات على منح الصوت الفلسطيني والصوت المدافع عن غزة قليلا من المساحة التي يستحق، دون الخروج عن التوجهات التحريرية لهذه المؤسسات، خصوصا تلك التي تعلن الموضوعية منها، مع الاختلاف في درجات التقيّد بها.
لكن الواقع أن ما يفعله عدد من الصحفيين العرب في الغرب يعطي صورة مخالفة؛ فعدد من الصحفيين العرب، حتى من نشأ منهم في بلدان عربية وانتقلوا للعيش في الغرب، صاروا يدافعون عن الأطروحة الإسرائيلية بشكل خفي، ويحاولون خفض مساحة الصوت الفلسطيني، ولا مشكلة عندهم إن كان التقرير يفتقر إلى التوازن، أو حتى إذا أضافوا "بهارات" تتماهى تماما مع الرواية الإسرائيلية، وقد يلعبون أدوارا في "صيد الساحرات"؛ أي أن يدفعوا في اتجاه مراقبة زملائهم، ولا سيما الفلسطينيون منهم، وقد يتحولون إلى داعمين كبار لـ"تنقية" وسائل الإعلام الغربية من الصحفيين الذين يرفضون الذوبان في الهوية الإعلامية الغربية.
قد يستغرب قارئ: هل هذا ممكن؟ نعم ممكن، والغريب أنه يصدر من أشخاص يقدمون صورا مختلفة عنهم في مواقع التواصل بأنهم محايدون، ومنهم حتى من يرى نفسه مثقفا، وقد تجد له رأيا في كل شيء إلا في القضية الفلسطينية، لكن في الواقع، لا مشكلة عندهم بتاتا في خلق تغطية إخبارية منحازة لإسرائيل، وأحيانا يكون الصحفي الغربي في المؤسسة ذاتها أكثر إنصافاً من هؤلاء وأكثر جرأة منهم.
الصحفي العربي.. الضحية الأسهل
في الآونة الأخيرة، تعرّض صحفيون عرب في عدة مؤسسات غربية لحملات تفتيش، طُرد عدد منهم وحُقّق مع آخرين، والسبب اتهامهم بمعاداة السامية أو بمنشورات تتناقض مع المبادئ التوجيهية في موضوع إسرائيل/فلسطين.
حدث هذا في ثلاث دول أوروبية على الأقل؛ هي فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة، وهي وقائع أثارت جدلا واسعا وأصدرت فيها هذه المؤسسات بيانات صحفية أو أخبارا موجهة للعموم. بدأت القصة أولا من هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي التي طردت صحفية فلسطينية صيف عام 2021 بعد شكوى من منظمة مؤيدة لإسرائيل بخصوص هاشتاغ استخدمته الصحفية في تغريدة لها قبل انضمامها إلى المؤسسة بثلاث سنوات.
هناك صحفيون عرب يعملون على توسيع هامش الحرية بشكل كبير، ويعملون من داخل هذه المؤسسات على منح الصوت الفلسطيني قليلا من المساحة التي يستحق، دون الخروج عن التوجهات التحريرية لهذه المؤسسات، خصوصا تلك التي تعلن الموضوعية منها، مع الاختلاف في درجات التقيّد بها.
ثم طرَدَت دويتشه فيله الألمانية بداية 2022 سبعة صحفيين وإعلاميين عرب، أغلبهم فلسطينيون، بعد تقرير نشرته صحيفة محلية اتهمهم بمعاداة السامية إثر نبش صحفي ألماني في حساباتهم لما يعود إلى 11 سنة! ثم طردت "فرانس 24" صحفية لبنانية وأنذرت آخرين بعدما نبشت جماعة ضغط إسرائيلية في حساباتهم لما يعود إلى عدة سنوات.
كل هذا يبين أنها سياسة متفق عليها لـ "تطهير" الإعلام الغربي الناطق بالعربية من "المُعادين لإسرائيل"، أو دفع هذه المؤسسات الموجهة للمنطقة العربية إلى إجراء بحث دقيق -قد يكون حتى بوليسيا- في سِيَر الصحفيين الراغبين في العمل لديها مستقبلا، عبر التدقيق في مواقفهم وانتماءاتهم وكل ما نشروه في حياتهم ولو كان مشاركة في مجلة حائطية حين كانوا صغارا؛ لأجل التثبت من أنهم لن يخلقوا مشكلات مع جماعات الضغط الإسرائيلية.
وكانت النتيجة خلق مناخ من الخوف والرقابة الذاتية بين الصحفيين العرب في الغرب، ولا سيما من يدافعون في حياتهم الخاصة عن القضية الفلسطينية بحكم مركزيتها في الوجدان العربي والإسلامي، وقبل كل شيء بحكم عدالتها ومعاناة الفلسطينيين من احتلال إسرائيلي مدعوم من الدول الغربية.
أليس الغرب مساحة "صحافة حرة"؟
التحق عدد من الصحفيين العرب بمؤسسات غربية لأجل آفاق مهنية جديدة. ولم لا؟ أليس الغرب هو الذي يعتلي العالم في حرية الصحافة؟ أليست القيم التي يعمل بها الصحفيون في العالم هي في مجملها نتاج لتطور الممارسة المهنية الغربية؟ أليست جل القواعد المهنية للصحافة تطورت في الغرب بحكم أسبقيته في المجال الصحفي؟ بالتالي أمر عادي للغاية، خصوصا مع الوضع الصعب للصحفيين العرب في دولهم، سواء فيما يخص الرواتب، أو فيما يتعلق بتراجع مناخ حرية الصحافة.
غير أن هناك صحفيين عربا في الغرب، وأغلبهم لم يمتهنوا الصحافة يوما في بلدانهم، التحقوا بهذه المؤسسات بوصفها مثالا أخلاقيا يمتلك الحقيقة وكل القيم الصحفية، ومنهم من التحق بالغرب بوصفه المنقذ الأخلاقي للمنطقة العربية والإسلامية، وبالنسبة لعدد من هؤلاء، كلّ ما يأتي من الشرق هو شر كبير، ولا مشكلة في شيطنته، ويندرج تحت بند "الإخوان" والمتأسلمين والشعبويين والطغاة.
الواقع أن ما يفعله عدد من الصحفيين العرب في الغرب يعطي صورة مخالفة؛ فعدد من الصحفيين العرب، حتى من نشأ منهم في بلدان عربية وانتقلوا للعيش في الغرب، صاروا يدافعون عن الأطروحة الإسرائيلية بشكل خفي.
هؤلاء تشرّبوا منذ مدة الدعاية الصهيونية، وهي الحقيقة المثلى في قضية فلسطين، بينما يرون في الحقائق المؤكدة مجرد مبالغة من أهل فلسطين لأجل لعب دور الضحية. والمؤسف أن منهم من ينتمون إلى أقليات في الشرق الاوسط عاشت تحت نير الاستبداد من هذه الأنظمة؛ فقرر عدد من المنتمين إليها الانسلاخ تماما عن أي شيء قد يراه العرب قضية جامعة لهم، بحجة أن لا شيء يربطهم بها.
في واقع الحال، لا يمكن اللجوء إلى التعميم؛ إذ إن هناك منهم من يبتعد عن الأيديولوجيا في التعامل مع فلسطين، علما أن مأساة الفلسطينيين تشبه في كثير من تفاصيلها مآسي هذه المجموعات؛ فالفلسطينيون عانوا التهجير والقتل والطرد والاستيلاء على أراضيهم، تماما كما حصل لمجموعات عرقية في المنطقة، عانت من طغيانٍ شديد، كما وقع في العراق خلال عهد صدام حسين، أو ما حصل ويحصل في سوريا مع نظام الأسد.
وعموما، فالأمر ليس خاصا بمجموعة دون أخرى، بل بتوجهات فردية تلعب عدة عوامل في تشكيلها، بين ما هو أيديولوجي وما هو مادي وما هو انتهازي. وفي ظل استمرار المضايقات في حق الصحفيين العرب ذوي الضمائر الحية، استثمر هؤلاء الظرف جيدا، وباتوا أهلاً للثقة في عدد من المؤسسات الغربية.
والاستدراك شرط في هذه المناسبة؛ فهناك مؤسسات غربية تمسكت بجمر المهنية رغم الظروف ورغم الضغوط، وظلت وفية لخط تحريري -قد ننتقده أحيانا، كما قد يخطئ أحيانا- لم ينحز بشكل منهجي لإسرائيل، بينما أخفقت مؤسسات أخرى في مقاومة الضغوط، ومنحت المجال لهذه العينة من الصحفيين، بوصفهم يمثلون المساحة الأسلم، حتى ولو كانت قدراتهم الإعلامية في موضع شك كبير.
الصوت العربي "الغائب"
الصوت العربي مهم داخل المؤسسات الإعلامية الغربية، ولا سيما تلك التي تتوفر على أقسام بالعربية. بين أوروبا والولايات المتحدة، يمكن إحصاء أكثر من عشر مؤسسات رائدة في هذا الإطار، بين الرقمي والتلفزيوني والإذاعي وحتى وكالات الأنباء.
تعاني هذه المؤسسات من ضغوط كبيرة، مثلاً طالب سياسيون كثر مؤسسة بي بي سي بوصف حماس بأنها حركة إرهابية، وكذلك فعل نواب فرنسيون مع وكالة فرانس برس، لكن المؤسستين رفضتا ذلك وأكدتا ضرورة البقاء على خط موضوعي، بينما اختارت مؤسسات غربية موجهة للعرب، كموقع سي أن أن بالعربية، عدم استخدام المصطلحات ذاتها التي ترد في الموقع الإنجليزي، وانتهاج أسلوب تغطية متوازن منذ بداية الحرب بين حماس وإسرائيل.
لكن الصحفيين العرب لا يوجدون فقط في هذه المؤسسات، فهناك مؤسسات صحفية غربية موجهة للجمهور المحلي توظف صحفيين عربا أو من أصول عربية، ومنها حتى مؤسسات معروفة بدعمها إسرائيل، لكنها لا تقوم بذلك حرصا على تعددية الآراء؛ وعدد من أولئك يردد الدعاية ذاتها، على نحو قد يغرك معه اسمه العربي أو المسلم، لكن عند قراءتك للمضمون، تنتابك حيرة كبيرة: "أيّ انصهار هذا؟".
ثمة إشكالية كبيرة تخصّ الصحفيين العرب والمسلمين في وسائل الإعلام الأوروبية، وهي كون تمثيليتهم ليست كبيرة وليست موازية حتى لنسبة المكون العربي والمسلم داخل هذه الدول. نسبة المسلمين في المملكة المتحدة تصل إلى 6.3 بالمئة، لكن نسبة الصحفيين المسلمين لا تتجاوز 0.4 بالمئة، بينما تغيب إحصاءات مشابهة في دول كفرنسا، بحكم علمانيتها المفرطة، لكن هناك حقائق تؤكد وجود تمثيلية متدنية للصحفيين المسلمين داخل الإعلام الأوروبي.
ثمة إشكالية كبيرة تخصّ الصحفيين العرب والمسلمين في وسائل الإعلام الأوروبية، وهي كون تمثيليتهم ليست كبيرة وليست موازية حتى لنسبة المكون العربي والمسلم داخل هذه الدول.
هناك أسباب تتعلق بعنصرية خفية داخل هذه المؤسسات تؤمن بتفوق العنصر الأبيض داخل هذه المجتمعات وكونه الأكثر ملاءمة للعمل، ويزيد من ذلك القوانين في عدة بلدان أوروبية تشترط بشكل واضح في عدد من المناصب أن يكون المترشح من جنسية البلد أو من جنسية داخل الاتحاد الأوروبي، خصوصا الموظفين في القطاع العام، وهو ما يمنع ترشح المقيمين غير المجنسين.
ويمكن الإشارة إلى أسباب أخرى تخصّ انقطاع أبناء المهاجرين عن الدراسة، وهذا ما أكدته دراسة للمنظمة الدولية للتعاون الاقتصادي والتنمية، من أن أبناء المهاجرين في 72 دولة يعانون تحصيلا دراسيا ضعيفا.
وعموما، لن نطلب من الصحفيين العرب داخل المؤسسات الغربية أن يلعبوا أدوار البطولة؛ فما نراه عربيا أمرا عاديا -كالانتقاد الشديد للحرب الإسرائيلية- قد يُنهي مسار صحفي عربي في الغرب، ليس فقط داخل المؤسسة حيث يعمل، بل كذلك مساره المهني مع مؤسسات غربية أخرى. وحتى ولو اتجه للقضاء وأنصفه ضد من طردوه، فستلاحقه واقعة الطرد لعنةً تلوث كلّ طلب توظيف يرسله.
لكن يمكن أن نطلب منهم أن يتحلوا بأقصى درجات الإنصاف، وألا تتحول الرغبة في إثبات الولاء للمؤسسة إلى غاية تبرر أي وسيلة بما فيها شيطنة الفلسطينيين والقفز على معاناتهم وحجب روايتهم، أو على الأقل أن يتصدى الصحفي للأكاذيب بأسلوب مهني، والأهم ألا يكون يدَ الفأس الإعلامية التي تحاول قطع شجرة يشترك معها في الانتماء مهما حاول التجرّد منها، وليس بالضرورة أن يكون الانتماء عرقيا أو لغويا أو دينيا، فقد يكون انتماء مهنيا.
أوليست الصحافة مهنة الباحثين عن الحقيقة؟ وهل هناك حقيقة أكبر في فلسطين من عيش تحت احتلال تعترف به حتى الأمم المتحدة؟