لم يكن أحد يتوقع أن حربا على غزة يمكن أن تستمر كل هذه المدة من الزمن. مرت شهور، تغيرت خلالها الفصول، ولم يستطع العالم وقف حرب إبادة يمارسها احتلال بحق شعب عربي محاصر منذ سبعة عشر عاما ولا يزال.
ورغم أننا في غزة، وبوصفنا صحفيين أيضا، عشنا حروبا عدة، حتى بتنا نعتقد أن لدينا مناعة وقدرة على فهم هذه الحروب والتعامل مع ظروفها القاسية والكارثية، فإن الاحتلال يفاجئنا في كل مرة بحرب ذات طابع مختلف، والسمة الأبرز لكل الحروب هي القتل والتدمير. ولعل الاختلاف الأبرز في هذه الحرب هو تحول الصحفي من ناقل للحدث، وشاهد عليه، إلى الحدث نفسه؛ فقد مارس الاحتلال بحقه كل أساليب القمع والتهديد والقتل.
ولم تكن عائلات الصحفيين بعيدة عن استهداف الاحتلال؛ فقد عاقبهم الاحتلال بقتل عائلاتهم في محاولة لتخويفهم، بعد أن بات الصحفي الفلسطيني هو صوت غزة إلى العالم، وهو الوحيد الذي ينقل حقيقة ما يجري في غزة من قتل للمدنيين الذين يحاول الاحتلال إشاعة أنهم غير ذلك. ومع منع الاحتلال إدخال الصحفيين الأجانب والعرب إلى غزة، لم يعد هناك سوى صوت الصحفي الفلسطيني الذي يصدح محطما رواية احتلال سعى لترويجها بكل الوسائل والطرق في العالم، فكانت له رواية الصحفي الفلسطيني بالمرصاد.
فماذا يفعل هذا الاحتلال لمنع هذه الرواية من الانتشار؟ بكل بساطة مارس بحق الصحفي الفلسطيني ما يمارسه دائما من قتل وتشريد وهدم للمنازل واستهداف للمقرات، وتهديد مباشر وغير مباشر وقائمة طويلة من الانتهاكات، تصدينا لها بالصمود والإصرار على استمرار التغطية التي كان أبرز ملامحها البث المباشر، الذي لا يخضع لمونتاج أو تغيير، ليرى العالم حقيقة ما يجري في غزة على الهواء مباشرة.
تصدينا لرواية الاحتلال بالصمود والإصرار على استمرار التغطية التي كان أبرز ملامحها البث المباشر، الذي لا يخضع لمونتاج أو تغيير، ليرى العالم حقيقة ما يجري في غزة على الهواء مباشرة.
وقد كان لقناة الجزيرة الدور الأبرز في تغطية الحرب. تنقلنا من مكان إلى آخر، عبر سيارة بث، تنقل للعالم حقيقة ما يجري في غزة، من نسف للمنازل على رؤوس ساكنيها، واستهداف للمساجد والكنائس، وقصف للمستشفيات وسيارات الإسعاف.
ويوما بعد آخر بتنا ندفع ثمن هذه التغطية، من خلال الاستهداف المباشر لنا بوصفنا صحفيين، ولعائلاتنا، وتهديدنا من قبل الاحتلال، والمطالبة صراحة: ابتعدوا عن هنا. لا يوجد مكان في العالم، تُقطع عنه الكهرباء شهورا ويُمنع عنه الوقود والغذاء والدواء، ويستمر البث المباشر فيه بلا انقطاع، سوى غزة. لقد كان نوعا من التحدي لرواية الاحتلال دفع فيها الصحفيون الثمن غاليا.
ومع تلاحق الأحداث، فإن كثيرا من تفاصيل الحياة غابت عن المشهد، ومنها تفاصيل الحياة اليومية القاسية التي يعيشها الصحفي الفلسطيني في غزة، ولا سيما أنه غير قادر على مغادرة الميدان رغم أنه ثمة مطالب حياتية ضرورية له ولعائلته يجب توفيرها.
سأحدثكم عن تجربتي التي تخطت شهرها السادس، وكل يوم منها يعد بالثواني، وفيها كثير من الأحداث، قليل منها ما ترونه على الشاشة وكثير خلفها، نصارع من أجل البقاء على قيد الحياة وقيد التغطية كذلك.
لا يوجد مكان في العالم، تُقطع عنه الكهرباء شهورا ويُمنع عنه الوقود والغذاء والدواء، ويستمر البث المباشر فيه بلا انقطاع، سوى غزة. لقد كان نوعا من التحدي لرواية الاحتلال دفع فيها الصحفيون الثمن غاليا.
فرضت علينا الحرب خوض معارك في الحياة، أولها بكل تأكيد معركة البحث عن مكان آمن، وهل من مكان آمن في غزة؟ الجميع يدرك الإجابة، لكن الصحفي الذي يعُدّه سكان غزة يعرف أكثر ولديه من المعلومات ما يظنون أنه مؤهل لإيجاد ذلك المكان الآمن، ظل يعاني من أجل إيجاد مكان يأوي إليه مثل عشرات الآلاف من المدنيين.
تفرقت عائلاتنا، ونزحت إلى أماكن ظننا أنها آمنة، لكن المفاجأة أن كثيرا منها تعرضت منازل مجاورة لها للقصف والتدمير، فأصيب من أصيب واستشهد من استشهد. وما عائلات زملائنا وائل الدحدوح ومؤمن الشرافي ومحمد القمصان وخالد لبد إلا شهود على حجم الجرائم بحق الصحفيين وعائلاتهم.
بكل أسف فشلنا في أول معركة خضناها خلف خطوط التغطية، ولعلها كانت وما زالت أهم المعارك من خلال تأمين العائلة والفريق في مكان آمن، رغم أن البحث عن الأمان في غزة هو مهمة مستحيلة، لكننا مستمرون في المحاولة ما دامت الحرب مستمرة. من مكان إلى آخر، وكلما تنقلنا لنقل الأحداث، كنا ننتقل في رحلة نزوح جديدة في كل مرة. خلال الحروب السابقة كانت تتحمل زوجاتنا مهمة تأمين العائلة وحمايتها وتوفير ما يلزم من احتياجات، لكن خلال هذه الحرب غير المسبوقة كان كل شيء مختلفا.
فرحلة النزوح صاحبتني وزملائي، حتى إننا كنا نتنقل بسيارة البث في كل مرة من مكان إلى آخر، ونصطحب معنا في كل مرة عائلاتنا، وخيمنا، وبعض المؤن التي استطعنا توفيرها بشق الأنفس، وبعض الاحتياجات التي استلفناها من الأصدقاء. كنا نظن أننا سنعود إلى منازلنا خلال وقت قريب بعد انتهاء الحرب، لكن لا الحرب انتهت ولا نحن عدنا، وبتنا مضطرين إلى توفير كثير من احتياجات المنزل كالغذاء والماء، كي تستمر الحياة في تلك الخيام أو المنازل المؤقتة التي لجأنا إليها.
معركة أخرى تحدث يوميا خلف خطوط التغطية وهي توفير مقومات الحياة من ماء وطعام؛ ففي هذه الحرب بات الحصول على أي من المواد الأساسية مهمة شاقة. في كل مرحلة كنا نفقد مخزون مواد أساسية؛ تارة الدقيق وتارة الملح وأخرى السكر، وقائمة طويلة، وبعضها يحتاج إلى الوقوف في طوابير تمتد فترة الانتظار فيها لساعات. للحصول على بعض الأرغفة من الخبز أو جالون ماء، أو بعض المواد الأساسية بأسعار معقولة، أو حتى الحصول على المال من البنك يجب ترك التغطية والوقوف في طابور طويل لساعات.
للحصول على بعض الأرغفة من الخبز أو جالون ماء، أو بعض المواد الأساسية بأسعار معقولة، أو حتى الحصول على المال من البنك يجب ترك التغطية والوقوف في طابور طويل لساعات.
خلال رحلة النزوح، التي ما تزال مستمرة، كانت رفح إحدى المحطات المهمة؛ ففيها باتت الخيمة هي غرفة النوم ومقر العمل وغرفة الجلوس والمطبخ. وسأفشي لكم سرا؛ لم نستطع توفير دورة مياه، وكنا نضطر إلى التوجه للمسجد أو المستشفى المجاورين لنا لقضاء الحاجة، أو الاستحمام بماء بارد إن توفر بكل تأكيد، حتى لو كانت المياه أبرد من الجو في الخارج، فلا خيارات متاحة.
أما إذا مرضت، فتلك معركة أخرى؛ فالمستشفيات تضج بالجرحى، والمريض ليس أولوية في ظروف كهذه، والبحث عن الأدوية هي رحلة عذاب أخرى، بينما توفير الأدوية يحتاج بكل تأكيد إلى الوقوف في طابور، وربما يصلك دورك ويبلغك الصيدلي بكل أسف أن هذا الدواء غير متوفر.
خلال رحلة النزوح، التي ما تزال مستمرة، كانت رفح إحدى المحطات المهمة؛ ففيها باتت الخيمة هي غرفة النوم ومقر العمل وغرفة الجلوس والمطبخ. وسأفشي لكم سرا؛ لم نستطع توفير دورة مياه، وكنا نضطر إلى التوجه للمسجد أو المستشفى المجاورين لنا لقضاء الحاجة.
أما وقد آن موعد العودة إلى الشاشة مرة أخرى، فتنتهي كل هذه المعارك، وتظل دائما معركة واحدة ووحيدة هي أن تستمر التغطية وصورة غزة على الهواء مباشرة، لننقل حجم الجرائم المروعة بحق القطاع وسكانه، ونكشف زيف رواية احتلال يقتل ويدمر ويقصف ويهدد ويسعى لإقناع العالم بأنه على صواب. لكن الحقيقة جلية ينقلها صحفيون فلسطينيون باحترافية وثبات، في ظل استمرار منع الاحتلال دخول صحفيين أجانب، حتى لا يروا ما يروعهم ويخطف أنفاسهم، ويسرق النوم من عيونهم، من هول ما سيرونه من جرائم.