أنا مُرهقة.. هذه الكلمة هي ملخص ما يزيد على ستة أشهر من التغطية للحرب المستمرة على غزة.
مرهقة بسبب عقلي وقلبي اللذين يتعاركان طوال الوقت. يتعاركان على القصص التي كتبتها وأكتبها وسأكتبها، وعلى اختيار القصص المؤلمة التي لا حصر لها من حولنا، وهي قصص مأساوية وحزينة وقاهرة لا تستطيع أن تمر عليها مرور الكرام. إنه صراع صعب ومحتدم بينهما؛ صراع العقل والعاطفة.
لا يبدو أي شيء منطقيا، وإن تحدثنا عن المنطق فإن النتيجة الطبيعية لما نشهده من أهوال الحرب المستمرة منذ شهور سيتركنا بلا شك مرهقين، فلا قلب ولا عقل يتحملان كل هذا اللامنطق.
أنام وأصحو وأمشي وأطبخ وأغسل الغسيل على يدي، وأعتني بطفلي الرضيع بينما عقلي مشغول يعمل ويكتب القصص التي يرصدها طوال الوقت؛ يكتب عن السيدة التي لا تجد خيمة تنام فيها مع أطفالها الأربعة وتنام في الشارع، وعن الرجل الذي أفرج عنه أخيرا بعدما أسره الاحتلال من الشمال ويبيع الشاي في المستشفى، وعن الفتاة التي تدرس طب الأسنان في سنتها الأخيرة ولم تكمل تعليمها وتجلس بائسة في الخيمة، وعن الأم الشابة التي تستجدي الصحفيين كل يوم باحثة لطفلتها الهزيلة البنية عن حليب الأطفال، وعن السيدات اللواتي ينمن في ممرات المستشفى بحثا عن سقف يؤوي أطفالهن من الحر والبرد.
أنام وأصحو وأمشي وأطبخ وأغسل الغسيل على يدي، وأعتني بطفلي الرضيع بينما عقلي مشغول يعمل ويكتب القصص التي يرصدها طوال الوقت.
يعمل عقلي طوال الوقت، يفكر في كل مشهد يقابله يوميا في ميدان العمل الممتد من باب المنزل الذي نزحت إليه حتى أروقة المستشفى الذي يعج بالنازحين والشهداء والجرحى.
منذ أن بدأت الحرب وأنا أفعل ما بوسعي، لكنني كثيرا ما أقف عاجزة. أقول لنفسي ولزملائي في غرفة التحرير إنني أحتاج عشرين صحفيا ليعملوا معي وليوثقوا قليلا مما أراه، لا يتسع المكان ولا الزمان ولا القدرة الجسدية والاستيعابية لتوثيق كل هذه الفظاعة. في المقابل، عقلي لا يهدأ، يكتب ويمسح ويرسل الأفكار والمقترحات ويجد في كل خطوة مادة صحفية يجب أن تروى، لكن قلبي وجسدي لا يستطيعان، قلبي يكاد يتوقف وجسدي لم يعد قادرا.
منذ أن بدأت الحرب وأنا أفعل ما بوسعي، لكنني كثيرا ما أقف عاجزة. أقول لنفسي ولزملائي في غرفة التحرير إنني أحتاج عشرين صحفيا ليعملوا معي وليوثقوا قليلا مما أراه، لا يتسع المكان ولا الزمان ولا القدرة الجسدية والاستيعابية لتوثيق كل هذه الفظاعة.
قلبي لا ينفك عن تذكير عقلي باستمرار أنني ضمن هذه الدائرة وأنني لست بمعزل عن هذه القصة؛ فأنا نازحة تركت منزلي منذ بداية الحرب نحو الجنوب، وأم لطفلين، قُصف منزلي الجميل الذي لم يمض على انتقالنا إليه عام ونصف، سُوي المنزل بالأرض والذكريات كلها تحت الأنقاض. أصارع يوميا لتوفير حليب الأطفال لطفلي الرضيع، ولتوفير الطعام والخضار بأسعار خيالية، وحزينة جدا لأن طفلتي ذات الأعوام الثمانية تجلس من دون دراسة أو تعليم، وفاتها العام الدراسي أسوة ببقية الأطفال. والأهم من ذلك أن القصف متواصل: قريب وبعيد، أمامنا وخلفنا، بجانبنا وبمحاذاتنا، من فوقنا ومن تحتنا، ليلا ونهارا، نعيش على أعصابنا منذ شهور خوفا من ضربة مباغتة. "يا الله تعبنا".
لكن عقلي لا يتوقف عن سحبي من مكاني كل يوم. ما رأيك أن تعملي اليوم على قصة الفتاة المليئة بالنشاط والطاقة التي تقف في طابور الخبز يوميا صباحا، وفي المساء تجمع ملابس الصحفيين الذين يبيتون في المستشفى لتغسلها بمقابل مادي زهيد لتساعد عائلتها؟ هذه قصة قوية يجب أن يعرفها الناس. وقصة ذلك الشاب الطموح الذي يثبت هاتفا محمولا في الهواء على عمود خشبي طويل ويستخدمه لتوزيع الإنترنت على الناس في المخيم، صدقيني هذه قصة قوية أيضا، خسارة اكتبي عنها.
أنا نازحة تركت منزلي منذ بداية الحرب نحو الجنوب، وأم لطفلين، قُصف منزلي الجميل الذي لم يمض على انتقالنا إليه عام ونصف، سُوي المنزل بالأرض والذكريات كلها تحت الأنقاض.
يتحايل عقلي عليّ للحظات، يقنعني كل يوم فأهم بتجهيز نفسي للعمل. أجهز طفلي وأطلب من أختي أن تعتني به. أرتدي ملابسي وسترة الصحافة وأركب السيارة لأذهب إلى المستشفى؛ مكان العمل والإنترنت ومكان اللقاء بكثير من "القصص" التي يمكن نشرها.
في الطريق إلى المستشفى تبدأ طاقتي فورا بالانخفاض؛ آلاف من النازحين في الشوارع، في كل مكان يبيعون الحطب وبطاقات الإنترنت، خيم النايلون، طوابير المياه والخبز، العرق والبشرة المحترقة من الشمس، التعب والكدر على وجوه الجميع، آلاف من الجالسين على الأرصفة، البؤس في كل مكان. يرتعب عقلي من هذه المشاهد لأنه يخاف أن أتراجع. يقنعني أنه يجب أن نتأقلم، ثم يتنفس الصعداء لأنني سلكت طريقا التفافية أخرى.
نصل إلى المستشفى، أصطدم مجددا بطابور المياه للنازحين هناك، أنظر إلى السيدة التي تبكي من التعب والانتظار، أدخل المستشفى فتأتيني السيدة الشابة التي تسألني عن الحفاظات لطفلتها ولا أستطيع أن أعدها بالمساعدة، فتعتذر وتذهب. أقف صامتة وأنا أرى طابور السيدات والرجال قرب الحمام؛ لا خصوصية، ولا نظافة، والاستحمام يبدو حلما في مثل هذه الظروف.
أمشي قليلا أمام بوابة الطوارئ لتأتي سيارة إسعاف من الخلف، يركض الناس نحوها ويتحلقون حولها، ويركض الصحفيون باتجاهها ويقولون "استهداف في البريج". يخلي المسعفون مزيدا من الجرحى والشهداء الممزقين، وتأتي سيارتان مدنيتان تضغطان على بوق السيارة السريع وتنقلان إصابتين من المكان؛ امرأة مصابة في رأسها وشابًّا مصابًا في صدره. يصرخون في الناس: "ابتعدوا افتحوا الطريق".
كأنها القيامة! لكنني اعتدت على المشهد، أضع حقيبتي في خيمة العمل وأخرج لأسمع الصراخ على جثة طفلة شهيدة، وأرى حشدا قليلا من الناس يصلون صلاة الجنازة على شهيد انتشلوه من تحت الأنقاض أمس. يركض الناس ما بين ثلاجة الموتى والاستقبال، وتأتي الأمهات والنساء مفجوعات بأخبار "الحبايب" الذين خطفتهم الصواريخ الإسرائيلية. يصرخن ويبكين ويرتمين أرضا، ويصرخ فيهن الرجال: شدي حيلك، ابنك شهيد! تتكدس الثلاجة بمزيد من الشهداء بينما يزدحم الناس أمام المغسلة؛ غسيل الجثث له طابور أيضا!
يحمل الأب جثة طفلته وينتظر دوره للتغسيل والتكفين، لا معزين ولا جنازات، من يحظى بفرصة التكفين والدفن في المقبرة كمن حيزت له الدنيا في هذه الأوقات. ينادي منادٍ لصلاة جنازة سريعة على عدد من الشهداء، فيصطف سبعة رجال أو ثمانية ويصلون الجنازة، ثم يحمل الناس جثث أحبائهم ويمضون مشيا على الأقدام إلى الدفن. كل هذا بينما يبيع الرجل الشاي، ويحتسي الناس المنهكون حوله القهوة ويبيع الأطفال الترمس والفستق المحمص لتحصيل لقمة العيش. لقد أصبح المشهد عاديا جدا، والحزن بتفاصيله أصبح ترفا؛ لا وقت ولا مكان لوداع "الحبايب" يا غزة.
عقلي -وسط كل هذا- يخجل مني، يصمت ويهدأ تماما، يتوقف عن "الزن". عقلي الآن يفهم أنني لا أستوعب، عقلي يعرف أنه خسر المعركة من جديد. المعركة اليومية للعمل على قصة صحفية جديدة. فعلا من يستوعب كل هذا؟ من يقدر في العالم على احتمال كل هذا؟ يوميا يا ناس؟ بالتأكيد لا أحد.
نجلس معا أنا وعقلي، نبرم اتفاقا صغيرا على أن نهدأ قليلا ونريح أنفسنا لأنه لا فائدة؛ لا فائدة من الكتابة ولا الحديث. لا عقل ولا قلب هنا لاحتمال المزيد.
ثم تستيقظ فينا الحيرة من جديد؛ إن لم نكتب فمن سيكتب؟ إن لم نغطِّ فمن سيغطي؟ من سيروي قصص الشهداء ومن سيوثق الكارثة للتاريخ؟ يا الله ما هذا الظلم! كيف تموت القصة وكيف نواري أحباءنا الراحلين في هذه الإبادة من دون توثيق أو عزاء؟
"لا يفعل العالم شيئا"، أنهض من مكاني بينما أغلق الحاسوب. يزداد القصف وتنقل سيارات الإسعاف المزيد. على رأس الساعة يقف الزملاء المراسلون لتبدأ "اللايفات" (التغطيات الحية). أمشي أمام كاميرات المباشر غير آبهة؛ أكثر من 200 يوم من اللايفات والمقابلات والمقالات، ما الفائدة يا قلبي؟ ما الفائدة يا عقلي؟