في الخامس من سبتمبر/أيلول عام 2018، نشرت نيويورك تايمز مقالاً في قسم الرأي لكاتبٍ لم تفصح عن اسمه. كانت تلك لحظةً نادرة في الصحافة الأمريكية السائدة، وبالأخص في نيويورك تايمز نفسها، التي نزلت عند رغبة الكاتب، وهو مسؤول رفيع في إدارة دونالد ترامب حينذاك، وتعاهدت معه على نشر شهادته دون كشف هويّته لكيلا يتعرّض لسخط الرئيس فيخسر وظيفته. كيف لا وعنوان مقاله يقول: "أنا جزء من المقاومة داخل إدارة ترامب"!
مثّل ذلك الحدث استثناءً فارقاً في ثقافة العمل الصحفي الذي يتّخذ المهنية والموضوعية أوشحة مقدّسة يودّ الاستئثار بها أبداً. فقد أثار نشر المقال عاصفة من الجدل، ونشرت عنه عشرات المقالات، وانهالت أكثر من 23 ألف رسالة للمحرر من قراء الصحيفة داخل الولايات المتحدة وخارجها، كلّهم يسألون: لم نشرتم هذه المقالة بالذات؟ كيف وجدتم الكاتب وتواصلتم معه؟ كيف تحققتم من المصدر؟ هل ستفصحون عن اسمه لاحقاً؟ هل بحثتم في دوافع الكاتب وتوقفتم عندها؟ هل فعلتم ذلك من قبل؟ هل نظرتم في عواقب نشر المقال؟
انهالت أكثر من 23 ألف رسالة للمحرر، كلّهم يسألون: لم نشرتم هذه المقالة بالذات؟ كيف وجدتم الكاتب وتواصلتم معه؟ كيف تحققتم من المصدر؟ هل ستفصحون عن اسمه لاحقاً؟ هل بحثتم في دوافع الكاتب وتوقفتم عندها؟ هل فعلتم ذلك من قبل؟ هل نظرتم في عواقب نشر المقال؟
التزمت إدارة الصحيفة موقفها ودافعت عنه، وردّت بهدوء على أسئلة القرّاء جميعاً، ونشرت مجموعة غير قليلة من المقالات والتوضيحات حول سياساتها بشأن التعامل مع المصادر المجهّلة والضوابط التي تراعيها في أقسامها المختلفة، بما فيها إدارة قسم الرأي التي تحتلّ طابقاً كاملاً في مبنى نيويورك تايمز في مانهاتن. فقد أكّدت الصحيفة – مثلاً - أنها تطبّق أشدّ المعايير صرامة في اعتماد طلبات تجهيل المصادر على اختلاف أنواعها، سواء كان ذلك في تقارير خبرية أو قصص صحفية أو في مقالات رأي. أمّا الغاية من وراء ذلك، فيلزم بحسب الصحيفة أن تصبّ في خدمة الرسالة الصحفية، بحيث تمنح القارئ معلومة عن إساءة استخدام السلطة، بشرط أن تكون موثوقة وحاملة لقيمة خبريّة معتبرة، لا يمكن نقلها إلا عبر ما يقدّمه المصدر، وأن يكون حجب اسمه هو "الخيار الأخير".
إلا أنّ الصحيفة تجاهلت وهي تتعامل مع تلك الأزمة أمرين لهما أهمّية بالغة في العرف المهنيّ الذي يدّعي التزاماً بالدفاع عن الديمقراطية ومقوّماتها في المجتمع، وفي مقدمتها الصحافة المهنية. يتعلّق الأوّل بحقيقة أنّ نيويورك تايمز، ومعها صحف كبيرة أخرى، تفرط في الاعتماد على المصادر المجهّلة في تقاريرها، ولاسيما التي تحمل صفة رسميّة. وهذا الحكم التصوّري تدعمه الأرقام والنسب. ففي العام 2015 مثلاً بلغ عدد المواد التي نشرتها نيويورك تايمز بالاعتماد على معلومات من مثل هذه المصادر زهاء 5300 خبر وتقرير صحفي، أي بمعدّل 15 مادة يومياً، ضمن نمطٍ سائد منذ عقود عديدة ترى استطلاعات للرأي أنّه يسهم في تراجع الثقة العامّة بالصحافة ويقوّض من مصداقيّتها.
في العام 2015 بلغ عدد المواد التي نشرتها نيويورك تايمز بالاعتماد على معلومات من المصادر المجهلة زهاء 5300 خبر وتقرير صحفي، أي بمعدّل 15 مادة يومياً، ضمن نمطٍ سائد منذ عقود عديدة ترى استطلاعات للرأي أنّه يسهم في تراجع الثقة العامّة بالصحافة ويقوّض من مصداقيّتها.
هذه الحالة من فرط الاعتماد على المصادر المجهّلة دفعت عدداً من كبار الكتّاب في الصحيفة إلى الاعتراض علناً على الخرق الواضح لسياسات التحرير المعلنة والضابطة لهذه الممارسة، وتجاهل إدارة الصحيفة لما يعدّ "الشكوى الأكبر من الجمهور"، ألا وهي تلك المتعلقة بالمصادر غير المسمّاة. من بين هؤلاء كلارك هويت، أحد أبرز محرري الصحيفة، في مقال شهير له عام 2009، ينتقد فيه هذه الظاهرة التي يصفها بأنها "متفشّية بلا انقطاع"، ويؤكّد عبر أمثلة عديدة على أن زملاءه ما يزالون يخرقون القواعد ولا يتعاملون مع تلك المصادر بوصفها خياراً أخيراً لا يصحّ اللجوء إليه إلا بعد استنفاد بقية الخيارات.
ثم إنه ثمة عواقب كارثيّة لهذه الممارسة؛ مثل غزو بلدٍ وتدميره ونهب ثرواته، كما حصل في حالة العراق. ففي الفترة التي سبقت الحرب ومهّدت لها، كانت صفحات التايمز مهداً لكل أحدوثة مفبركة أو تعوزها الدقّة أو يفتقر ناقلوها للنزاهة والتجرّد. فوصلت الرواية "الرسمية" المضللة إلى العامة بعد أن وُضعت على لسان مجهولين "فضلوا عدم الكشف عن أسمائهم"، نسجوا ادعاءات حامت حول أسلحة الدمار الشامل وتطويرها، أو علاقات بين النظام البعثي في العراق وتنظيم القاعدة وتدريب عناصرها ودعمهم، وهو ما ثبت لاحقاً، وبعد خراب البلاد، زيفه.
تراجعت نيويورك تايمز كما هو معلوم عن تبنّي تغطيتها لتلك الفترة وبعض ما وقعت فيها من أخطاء وهفوات، لكنّ ذلك لم يغيّر الكثير في سيرة الصحيفة وعلاقتها بالسلطة ودورها في تدعيم رواياتها وترويجها، لاسيما فيما هو متعلق بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية وأنشطة هيمنتها العسكرية والاقتصادية.
أما السياسات التحريرية الجديدة التي احتوتها مذكّرة داخلية بشأن المصادر المجهّلة بعد فضيحة العراق فما تزال ضعيفة التطبيق. ففي توجيه من المحرر التنفيذي آنذاك "بيل كيلر" عام 2004، فإنه يلزم في حال الاعتماد على مصدر لن يُكشف عن اسمه، تقديم توضيحٍ للقراء حول موثوقية المصدر، وتحذيرٍهم في حال الشكّ بموقف متحيّز أو دافعٌ شخصي له لتقديم المعلومات. كما يلزم فوق ذلك كله توضيح السبب الوجيه الذي استدعى الحفاظ على سريّته. إلا أن دراسة نشرتها مجلة "كولومبيا" للصحافة عام 2008 بيّنت أن نسبة الالتزام بتلك المذكرة لا تتجاوز 20%، بل سجلت الدراسة زيادة قدرها 7% في نسبة الاعتماد على المصادر المجهولة غير المدعّمة. من ناحية أخرى، أوضح الباحثون أن في 42% من الحالات، اعتمد الصحفيون على مصادر مجهلة لنقل آراء لا معلومات، في مخالفة واضحة للسياسة التي تدعي نيويورك تايمز الالتزام بها.
وهكذا، ورغم سلسلة من التحديثات الشكليّة على السياسات التحريرية، ظلت المصادر المجهّلة جزءاً لا يتجزّأ من بنية المحتوى الذي تقدمه نيويورك تايمز، بل وبقيت علامة صارخة على التزام المؤسسة شديد الانضباط بالإطار الداعم للسرديّات الرسمية في عدد من الملفات الكبرى، وعلى رأسها الملف الإسرائيلي.
وقد اتّضح ذلك في أمثلة عديدة في الحرب الجارية على قطاع غزّة، تعزّز اعتماد الصحيفة على أشكال مختلفة من التضليل والتأطير والتحيّز الفجّ للرواية الإسرائيلية، رصد أمثلة عنها فريق مجلة الصحافة على مدار الفترة الماضية. وقد كان أحد هذه الأشكال تساهل نيويورك تايمز المريب في اتكاء صحفييها على المصادر المجهلة، فيما يبدو لمراقبين أنّه توظيفٌ غير مهنيّ لممارسة يفترض أنها بنتُ أصولٍ وقواعد، يتقصّد تمرير الرواية الرسمية الإسرائيلية التي تدعمها واشنطن وتعزّزها، لغرض إطالة أمد الحرب وتبرير الإبادة ومنح الحصانة المعنوية والأخلاقية لمنفّذيها.
من الواضح أن هذه الخروق المهنيّة تواترت بشكل حادّ في أشهر هذه الحرب المديدة، ولاسيما خلال الأشهر الستة الأولى. وبحسب دراسة جديدة، كانت نيويورك تايمز في صدارة الصحف ووسائل الإعلام الأمريكية السائدة التي توظّف المصادر المجهّلة الرسميّة لنقل معلومات وآراء تعبّر عن الموقف الإسرائيلي والأمريكي. فمن بين ما يكشفه تحليل أجريناه لبيانات هذه الدراسة، هو أن نسبة التقارير تضمّنت مصادر رسمية إسرائيلية وأمريكية مجهلة خلال فترة البحث تتجاوز 70%. فضلاً عن هذا، فإن نسبة ساحقة من تلك الاستشهادات كانت لمصادر ثانوية، وتتضمن آراء أو معلومات يصعب التحقق منها. في المقابل، تكاد تنحجب الرواية الفلسطينية تماماً في تلك التقارير، إذ لم تتجاوز نسبة المواد الصحفية التي اعتمدت على معلومات من مصادر فلسطينية مجهّلة 7%، في حين توزعت البقية على مصادر عربية وغربية وأممية مختلفة.
لم يكن غريباً في هذا السياق إشادة الدراسة بـ "مهنية" التايمز هنا، وذلك بالنظر إلى الجهة التي أصدرته، أي معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وهو مؤسسة يمينية مقربة من اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة. ووجه الإشادة هنا هو هذا الحيّز الضخم الذي يكاد يكون محجوزاً حصراً للرواية الرسمية، والتهميش الواضح لأصوات الفلسطينيين، الذين لا تتعامل معهم الصحيفة باعتبارهم طرفاً له الحقّ في الكلام، فضلاً عن الحقّ في مجابهة الاحتلال والتصدي لروايته، وهو ما تثبته بيانات هذه الدراسة، من غير قصد، على نحوٍ واضح.
من بين ما يكشفه تحليل أجريناه لبيانات هذه الدراسة، هو أن نسبة التقارير تضمّنت مصادر رسمية إسرائيلية وأمريكية مجهلة خلال فترة البحث تتجاوز 70%، بل إن نسبة ساحقة الاستشهادات كانت لمصادر ثانوية، وتتضمن آراء أو معلومات يصعب التحقق منها.
ترتكب نيويورك تايمز في مثل هذه الممارسة تشويهاً يكاد يكون خطيرا من ناحية للقواعد المهنيّة التي تخصّ الاستعانة بالمصادر المجهّلة، والتي ينبغي التعامل معها بأعلى مستويات التحفّظ والمسؤولية. ومن ناحية أخرى أكثر فداحة، فإن الصحيفة في طريقتها الاحتيالية في توظيف تلك المصادر، تمارس تشويهاً للحقيقة الموضوعية، وذلك بتصديرها لموقف طرفٍ متهمٍ بممارسة الإبادة الجماعية وجرائم الحرب، على حساب طرفٍ آخر هم الضحايا، الذين قتل منهم زهاء 40 ألف إنسان، غالبيتهم العظمى من النساء والأطفال.