"من المغرب أقف مع إسرائيل".. "أنا من الموصل وأقول إن حماس هي السبب في دمار غزة وفلسطين".. "يستاهل الفلسطينيون ما يتعرضون له من حرب ودمار".. "شحادون مساعدات ولا يعترفون بجمايل أهل الخليج".. هذا جزء بسيط من التعليقات السلبية والهجومية على الفلسطينيين التي يمكنك أن تقرأها بشكل شبه يومي على المنصات الرقمية الإخبارية العربية الشهيرة. لكن هل هذه التعليقات صادرة عن حسابات وأشخاص حقيقيين، أم إنها وهمية تسعى وراء أهداف معينة؟
في الحقيقة إنها حرب أخرى تقودها إسرائيل على الفلسطينيين في الفضاء الرقمي، تتمثل في إغراق مواقع التواصل الاجتماعي بمئات الحسابات الوهمية، لنشر الأخبار المضللة والكاذبة التي تهدف إلى تعزيز الرواية الإسرائيلية، مقابل شيطنة المقاومة الفلسطينية والفلسطينيين على وجه الخصوص. ترافقت هذه الحرب السيبرانية مع الحرب الإعلامية الشرسة التي أطلقتها إسرائيل (حكومة ومسؤولين ووسائل إعلام عبرية) ردا على عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2023، بهدف خداع الرأي العام العالمي وتزييف حقيقة ما جرى على أرض الواقع. وكان أبرز معالم هذه الحرب الإعلامية المسارَعة إلى اتهام أفراد المقاومة الفلسطينية بقتل 40 طفلا إسرائيليا وقطع رؤوسهم، واغتصاب النساء في مستوطنات غلاف غزة في الساعات الأولى من العملية التي أطلقتها كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، على إسرائيل.
ونتذكر هنا كيف سارع رؤساء عدد من الدول ومؤسسات إعلام غربية إلى تبني تلك الادعاءات وتكرارها بشكل ممنهج من دون التحقق منها.
حسابات مُريبة
بصفتي صحفية وباحثة متخصصة في الإعلام والدبلوماسية الرقمية في أوقات الصراع والحرب، لفت انتباهي الظهور العشوائي وغير المعتاد لعشرات الحسابات الوهمية على المنصات الرقمية، مع بداية الحرب على قطاع غزة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023. دفعني هذا الظهور المريب لتلك الحسابات إلى تتبع نحو 50 حسابا على منصة إنستغرام وحدها، في محاولة للتعرف إلى طبيعتها ومن يُديرها فعليا، وهذه أبرز النتائج التي توصلت إليها:
أولا: الحداثة؛ فمعظم الحسابات المستهدفة ظهرت خلال فترة وجيزة من بداية الحرب، ولا يتجاوز عدد متابعيها 50 – 100 شخص في أحسن الأحوال، ومنها ما لا يحظى بأي متابعين على الإطلاق.
ثانيا: انتحال الخصائص الرقمية نفسها؛ إذ لاحظت أن عددا لا بأس به من هذه الحسابات يتبنى شخصية دولة عربية معينة، ويغرد بلغة عربية ركيكة، مع محاولة تقمص لهجات معينة كالمصرية والمغربية والخليجية. كذلك تضع معظم تلك الحسابات علم دولة عربية محددة إلى جانب العلم الإسرائيلي، ومنها ما يضع في الملف التعريفي كتابات تدعي العروبة؛ مثلا: كويتي يُحب الأردن، خليجي يحب الإسلام والعروبة. ومنها ما يقتبس أشعارا أو أحاديث أو آيات قرآنية في محاولة للتضليل وتزييف حقيقة تلك الحسابات.
لاحظت أن عددا لا بأس به من هذه الحسابات يتبنى شخصية دولة عربية معينة، ويغرد بلغة عربية ركيكة، مع محاولة تقمص لهجات معينة كالمصرية والمغربية والخليجية.
ثالثا: العمل المنظم؛ إذ وجدت أن الحسابات المستهدفة تتابع أهم المنصات العربية مثل الجزيرة، والجزيرة مباشر، وTRTعربي، وسكاي نيوز عربية... بشكل مكثف وواضح، فلا يكاد يُنشر خبر أو مقطع فيديو يتعلق بالحرب حتى تسارع هذه الحسابات للتعليق في وقت واحد.
على هذا الأساس، توصلت إلى النتيجة التالية: إذا كان المنشور يتعلق بجرائم إسرائيل في القطاع مثل قتل المدنيين والأطفال والنساء ونسف المباني، تهاجم تلك الحسابات المقاومة الفلسطينية وإيران في معظم الأحيان، وتتهمهما بالتسبب في الحرب وتدمير غزة، أما إذا كان المنشور يحمل دلالات إيجابية كالصبر والصمود ودعم المقاومة، فتكاد تغيب عن التعليق.
رابعا: تكرار السردية ذاتها؛ لفتني أن عددا كبيرا من تلك الحسابات تردد التعليقات نفسها التي صدرت منها بداية الحرب بين الحين والآخر، كذلك تستخدم التعليق ذاته على أكثر من منصة رقمية لخلق رأي عام وهمي. قد يشير ذلك إلى أن لجانا إلكترونية منظمة هي التي تدير هذه الحسابات الوهمية.
لفتني أن عددا كبيرا من تلك الحسابات تردد التعليقات نفسها التي صدرت منها بداية الحرب بين الحين والآخر، كذلك تستخدم التعليق ذاته على أكثر من منصة رقمية لخلق رأي عام وهمي. قد يشير ذلك إلى أن لجانا إلكترونية منظمة هي التي تدير هذه الحسابات الوهمية.
خامسا: إثارة الفتن بين العرب؛ فمن خلال قراءة معمقة للتعليقات الصادرة عن تلك الحسابات، وجدت أنها تتعمد إثارة الفتنة بين الشعوب العربية ولا سيما التي تعاني من مشكلات سياسية تاريخيا، مثل المغرب والجزائر، والكويت والعراق. دعوني أسُق لكم نماذج من هذه التعليقات التي تتكرر بشكل مثير للانتباه: (من الجزائر نؤكد أن المغاربة خونة وطبعوا مع إسرائيل) (أنا كويتي ضد العراق الشيعية وإيران المجوسية) ... إلخ.
سادسا: تأسيس حوار وهمي؛ تدعم الحسابات المستهدفة بعضها، وتسعى لخلق حوار مع المتابعين العرب في الوقت ذاته؛ فمثلا يكتب "س" تعليقا مسيئا لحركة حماس على منشور ما، فيوافقه "ص" الرأي، فيعود "س" للتعليق من جديد، ما يُشجع أصحاب حسابات عربية حقيقية على الانخراط في حوار أسسه أشخاص وهميون، فيسهمون من حيث لا يدرون في إبراز تلك الحسابات وإيلائها أهمية.
سابعا: لاحظت أن عددا من هذه الحسابات غيّرت أسماءها وملفاتها التعريفية عدة مرات في فترة قصيرة نسبيا، وثمة حسابات اختفت كليا.
هل هو جيش إلكتروني منظم؟
إن كمية الحسابات الوهمية المنتشرة في الوسط الرقمي خلال الحرب على غزة، تثير تساؤلا مهما عمن يقف وراءها، ويبدو أن هذه الحسابات لا تعمل بشكل فردي، بل تتبع فريقا يعمل بشكل منظم ومدروس بهدف خلق رأي عام وهمي بشأن دعم فئات من العرب لإسرائيل.
تعني "الشرح والتفسير"، ويُ تُعيدنا الحسابات الوهمية إلى برنامج "الهاسبارا" الإسرائيلية، وهي كلمة عبرية قصد من ورائها الدعاية والتضليل. صِيغَ المصطلح لأول مرة في أوائل القرن العشرين من قبل الناشط الصهيوني ناحوم سوكولوف، واستُخدم لاحقا مرادفا للعلاقات العامة، لكنه في الواقع ليس أكثر من برنامج منظم لنشر الدعاية السياسية الإسرائيلية حول العالم بدعم حكومي وأمني كبير. غالبا ما تستهدف جهود "هاسبارا" النخب السياسية الغربية وقادة الرأي وعامة الناس، وتشمل تقريبا كل مؤسسة حكومية إسرائيلية، بما في ذلك الجيش ووزارة الخارجية والمنظمات غير الحكومية والجامعات ومراكز الأبحاث ومجموعات المناصرة، وحتى الطلاب.
إن كمية الحسابات الوهمية المنتشرة في الوسط الرقمي خلال الحرب على غزة، تثير تساؤلا مهما عمن يقف وراءها، ويبدو أن هذه الحسابات لا تعمل بشكل فردي، بل تتبع فريقا يعمل بشكل منظم ومدروس بهدف خلق رأي عام وهمي بشأن دعم فئات من العرب لإسرائيل
في الآونة الأخيرة، كشفت هيئة رقابية إسرائيلية خاصة على الإنترنت تُدعى (فيك ريبورتر) عن نفوذ إسرائيلي نَشِط عبر المنصات الرقمية يوظف فعليا مئات الحسابات المزيفة بين الجمهور الغربي باللغة الإنجليزية عبر الإنترنت؛ لتعزيز الرواية الإسرائيلية التي تهاجم وكالة الأونروا وحركة حماس على وجه الخصوص. تمثل هذا النشاط الرقمي في تضخيم الادعاءات والمزاعم بشأن تورط موظفين بالوكالة الأممية في هجوم 7 أكتوبر. من الواضح أن هذه الحملة أسهمت بشكل أو بآخر في خداع عدد من الدول الغربية التي أوقفت دعمها المالي للوكالة، قبل أن يتراجع عدد منها في وقت لاحق.
بين الموساد و "باليوود"
لا تقتصر الحرب السيبرانية على الحسابات الوهمية فحسب، بل تشمل حسابات تدعي أنها تابعة لجهات رسمية وأمنية إسرائيلية، تسهم في نشر الأخبار والمعلومات المضللة للرأي العام. الصحفي شايان ساردار زاده المتخصص في المعلومات المضللة عبر الإنترنت في بي بي سي، كان من أوائل الذين اكتشفوا أمر أحد الحسابات التي كانت تدعي أنها تابعة لجهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد) على منصة إكس. تبين لاحقا أن الحساب الذي يحمل علامة التوثيق الزرقاء ولديه أكثر من 100.000 متابع، ليس حقيقيا، بعدما حلل شايان مقاطع فيديو منشورة على الموقع وأثبت أنها مزيفة.
من ناحية أخرى، أعادت الحرب استخدام كلمة "Pallywood"، وهي عبارة عن مزيج من كلمتي "فلسطين" و"هوليوود" التي وظفتها إسرائيل منذ سنوات لتشويه الرواية الفلسطينية، عبر الادعاء بأن الفلسطينيين كاذبون ويمثلون معاناتهم سينمائيا. وانتشر هذا الهاشتاغ خلال الحرب بصور ومقاطع فيديو مضللة وخارجة عن السياق، تتهم الفلسطينيين بتزييف إبادتهم في غزة. إن توظيف كلمة "باليوود" بشكل مكثف يهدف من دون أدنى شك إلى تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم وتشويه صورتهم أمام الرأي العام العالمي.
لنأخذ على سبيل المثال المعلومات المضللة عن الناشط الغزي صالح الجعفراوي، الذي لعب دورا رئيسا في فضح حرب الإبادة الجماعية في فلسطين. أثار الجعفري غضب إسرائيل بسبب نشاطه عبر المنصات الرقمية، فشنت عليه حملة واسعة، واتهمته بالكذب والتضليل والتمثيل، وأطلقت عليه لقب "ممثل حماس الباليوودي". الحملة الأضخم على الجعفراوي كانت لاحقا بالترويج لفكرة مغايرة تماما هي اتهامه بالعمالة لإسرائيل. أحد الحسابات الوهمية غرد بالقول: "يمكن الكشف الآن عن أن الجعفراوي كان عميلا إسرائيليا وزود إسرائيل بمعلومات قيمة"، وأضاف: "شكرا لك شاليف ياريف (الاسم السري لصالح الجعفراوي) على خدمتك لإسرائيل".
هناك أدلة محددة لتحديد صحة حسابات الشبكات الاجتماعية، منها إنشاء ملف تعريف جديد ومشاركة كمية كبيرة من المحتوى المثير للخلاف والمتناقض في فترة قصيرة نسبيا. إن توفر مثل هذه الإشارات يعني احتمالية كبيرة لأن يكون الحساب مزيفا أو يديره أشخاص أو كيانات معينة لأغراض أمنية، وينطبق هذا على عشرات الحسابات التي تابعتها خلال الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة؛ إذ وجدت أن بعض الحسابات حديثة الإنشاء تشارك مقاطع فيديو غير مترابطة إطلاقا بشكل متسارع، كنشر مقاطع دينية إسلامية ثم مشاركة مقاطع لأغان إسرائيلية أو داعمة للاحتلال، ومنها ما ينشُر مقاطع عن جرائم الاحتلال في غزة ومقاطع أخرى تُظهر الدعم لإسرائيل؛ فكيف يمكن الجمع بين أمرين متناقضين في حساب يدعي الهوية العربية؟!
ختاما، أود الإشارة إلى أن بعض الحسابات التي رصدتُها، أرسلت لي طلبا للمتابعة عبر منصة إنستغرام، وهذا جعلني شبه متأكدة من أن تلك الحسابات ليست فقط وهمية، بل تعمل ضمن فريق وخطة ممنهجة لأغراض محددة.