رصاصة أصابت رأسه وقتلته، أُطلقت عليه خلال نقله بثا مباشرا على صفحته بالفيسبوك، للاحتجاجات التي وقعت في مدينة "بلوفيلد"، جنوب شرق نيكاراغوا يوم 22 أبريل/نيسان الماضي، ضد قرار تعديل نظام الضمان الاجتماعي، الذي فجر الأوضاع في نيكاراغوا حتى كتابة هذا التقرير، رغم تراجع الرئيس النيكاراغوي دانييل أورتيغا عنه.
آنخل غانووا، هو أحد الصحفيين القلائل الذين قتلوا على يد حكومات نيكاراغوا على مدى تاريخها، ما دفع مجموعة من المؤسسات الصحفية في أميركا اللاتينية لإصدار بيانات تستنكر فيها استهداف الصحفيين.
الأرملة التي تعلّمت الدرس
كان أمرا منطقيا أن تأخذ الصحافة النيكاراغوية حظَّها من الحرية، في الفترة التي تولّت فيها فيوليتا تشامورو الحكم ما بين الأعوام 1990 و1997.
وفيوليتا تشامورو أو "دونيا" (السيدة) فيوليتا، هي أرملة الصحفي النيكاراغوي بيذرو هواكين تشامورو، رئيس التحرير الأسبق لأعرق صحيفة نيكاراغوية "لا برنسا" (La Prensa)، الذي اغتيل عام 1978 على يد قوات أناستاسيو سوموسا، دكتاتور نيكاراغوا (حكم نيكاراغوا ما بين عامي 1967 حتى 1972 ثم 1974 حتى 1979).
سقط سوموسا بثورة تزعَّمها ثوار "الساندينيستا" عام 1979، حيث تولى دانييل أورتيغا، رئيس نيكاراغوا الحالي، الحكم منذ انتصار الثورة حتى عام 1990. أعيد انتخابه عام 2007، ومنذ ذلك العام وحتى اليوم لم ينجح غيره في الوصول إلى الحكم –عن طريق انتخابات يشكك البعض في نزاهتها- بينما تتولى زوجته روساريو موريّو منصب نائب الرئيس.
لم تنتصر الحريات تماما بانتصار الثورة، نفهم ذلك من المقال المنشور في موقع "كونفيدينسيال"، بتاريخ، 21 فبراير/شباط 2011. فكاتب المقال، فيليكس مارادياغا، يبين أن الديمقراطية هي غزو جديد لدول أميركا اللاتينية ومن بينها نيكاراغوا، وقد انتعشت أكثر إبان الفترة التي استلمت فيها تشامورو الحكم، ليس فقط بسبب معاناتها الشخصية من قمع الحريات التي انتهت بمقتل زوجها وتوليها إدارة تحرير "لا برنسا" خلفا له، بل أيضا لانتمائها لحزب الليبراليين الذي يختلف أداؤه عن أداء الحزب السانديني الاشتراكي، فيما يتعلق بربط حريات التعبير بالمخاوف الأمنية. إذ اتخذ الحزب السانديني –بحسب الكاتب- من الحرب التي دعمتها الولايات المتحدة ضد الحكومة الجديدة، ذريعة لفرض الرقابة على الممارسة الصحفية بشكل عام.
كانت تشامورو أكثر الرؤساء عملا على تكريس الحريات الصحفية، ووضعت قوانين تصب في صالحها، وحين غادرت الحكم، كانت كثير من وسائل الإعلام وخصوصا صحيفتي "لا برنسا" و"إل نويفو دياريو"، قد ألفت العمل في مساحة حرة مكّنتها لاحقا، وبعد مغادرة تشامورو الحكم، من نشر كثير من الأخبار المتعلقة بتورط أرنولدو أليمان، رئيس نيكاراغوا السابق الذي تولى حكمها منذ عام 1997 حتى 2002، بتورطه بأعمال فساد، أدت إلى محاكمته عام 2004.
حرية تعبير تخضع للمكان
ولأن حرية التعبير هو أمر حديث نسبيا في نيكاراغوا، فهو سلوك يتوقف على طبائع الناس لا على قوانين الدولة. تشرح ذلك بريندا كارولين، التي كانت تعمل في مؤسسة حكومية. تقول بريندا إن شعبها يتمتع بحرية التعبير، لكنه يجهل استخدامها، بينما القوانين تحفظ الحريات ومن بينها الحريات الصحفية، ولهذا فإن قرارات طرد العاملين –مثلا- من وظائفهم، ليست بسبب وجود قوانين تقمع الناس، بل تخضع لعدم تقبّل الناس أنفسهم للآراء الأخرى، وبالتالي يجدون طريقة لاستخدام مناصبهم للتخلص من الآراء المعارضة. وتنتقد أيضا الحريات الفائضة التي تتمتع بها بعض قنوات التلفاز، التي تستخدم ذريعة "حرية الإعلام" في عرض محتوى غير لائق على شاشاتها.
أولاد الرئيس يديرون القنوات التلفزيونية
القنوات التلفزيونية (4) و(8) و(13)، يُديرها أبناء الرئيس أورتيغا، قالت إحدى الصحفيات التي فضلت ألا أذكر اسمها. 80 % من وسائل الإعلام بأيدي الحكومة أو عائلة الرئيس. وهؤلاء ينقلون الرواية الرسمية دوما. أما حديثُكِ (موجَّهة كلامها إلي) عن حرية الصحافة بحجة نشر الكثير من التقارير في الصحف المعارضة والكاريكاتيرات التي تنتقد الرئيس وزوجته فهي لا تعني أن هناك حرية صحافة؛ فخلال سنوات الثورة، كان هناك ملحق أسبوعي كوميدي بعنوان "الأسبوع الكوميدي"، وكان يديره روهر سانشيس، وهو رسام كاريكاتير سانديني، وكان ينتقد فيه غياب الديمقراطية في زمن الدكتاتور سوموسا. وتتابع حجتها، بأن "الكوميديا" لطالما كانت إحدى وسائل التعبير في يد المعارضة في الصحف النيكاراغوية. مع هذا، فإن رسام الكاريكاتير في صحيفة البرنسا قد غادر نيكاراغوا، خوفا على حياته، حسب قولها.
كما تبتز الحكومة اقتصاديا تلك الوسائل المعارضة بعدم الإعلان فيها، سواء إن كانت صحفا أم إذاعات.. "إن انتقدت الحكومة، فستسحب إعلاناتها من وسيلتك الإعلامية". تُحيل تلك الصحفية الأمر إلى أن الحكومة الحالية حذرة جدا من الوقوع في الأخطاء التي وقعت فيها خلال حكمها الأول في ثمانينيات القرن الماضي، ويتجنب الحزب الحاكم إغلاق الوسائل الإعلامية الكبرى، لكنهم في المقابل يمنعون ترخيص بعض الوسائل أو لا يجددون تراخيص العمل لها. وخلال الاحتجاجات التي اندلعت في 19 أبريل/نيسان الحالي، أحرقت الشرطة راديو داريو، وهو أحد الإذاعات التي عانت التضييق من أيام حكم سوموسا ثم بعد انتصار الثورة وحتى اليوم.
فهم واضح لحرية الصحافة
بدا لي واضحا كيف يفهم صحفيو نيكاراغوا حرية الصحافة من خلال ما أخبروني به عن مشاكلهم في عرقلة عملهم أثناء التغطيات الصحفية. فقد اتفق الصحفي روبيرتو مورا مع الضيفة، أن حرية الصحافة ليست بوجود وسيلتين أو ثلاث تنتقدان الحكومة وتنشران رسوما كاريكاتورية، بل هي سلسلة من الإجراءات التي تجعل الصحافة عملا ممكنا. يتفق الاثنان على أن الحرية تتلخص في أن تجعل حق الحصول على المعلومة متاحا للجميع، وفي كل المجالات، الاقتصادية والتعليمية والصحية. وفي ألا تحرمك الحكومة من استخدم معداتك التقنية لنقل التغطيات الصحفية. يقولان، إنه وحتى خلال فترة الحكم الاستبدادي لأناستاسيو سوموسا قبل عام 1979، كان هناك هامش بسيط من الحرية. فقد كان سوموسا يتبجّح بحرية الصحافة في بلاده، وهي واجهة استخدمها للتدليل على ديمقراطية حكمه.
يقول مورا، إن الحكومة الحالية لم تعتقل صحفيا، ردّا على سؤالي، ولم تعذبه (لا يعرف مورا الخلفية العربية التي قدمتُ منها والتي تزخر بصحفيين معتقلين وتحت التعذيب).
أخبرني مورا أيضا عن وسيلة جديدة تستخدمها الجهات الحكومية للحد من حرية الصحفيين، وهي التشكيك في مصداقيتك كصحفي أو كوسيلة إعلامية. يأتي التشكيك مثلا بتعليقات تكذب الأخبار المنشورة على صفحات التواصل الاجتماعي، من حسابات وهمية مهمتها الأساسية –حسب مورا- تكذيب الأخبار دون تقديم براهين. وفي الاحتجاجات الأخيرة، نشر الصحفيون في لا برنسا، تغطيتهم لمواجهة حدثت ما بين المتظاهرين والشرطة أمام بلدية العاصمة مناغوا، فوردت تعليقات تشكك القراء بمصداقية الصحيفة، وخصوصا أن بإمكان أي مواطن أن يقول إنه كان في ذلك المكان، ويقدم شهادات أخرى تنفي ما قالته الصحيفة.
وخلال سنواته العشر من العمل في صحيفة "لا برنسا"، يلخص مورا وسائل تحديد حرياتهم كصحفيين، بقوله إنهم يُمنعون من إجراء مقابلات مع وزراء أو برلمانيين، ولا يحصلون من جانب الحكومة على أية معلومات رسمية.. "تخرج نائبة الرئيس يوميا، السيدة الأولى روساريو موريّو، لتعطي تصريحات حكومية للوسائل الحكومية فقط بينما تغلق الأبواب أمام الوسائل الأخرى المعارضة ومنها صحيفتنا، لا برنسا".
- ألم تكن موريّو، تعمل صحفيَّة في صحيفة لا برنسا قبل انتصار الثورة؟
- نعم: لقد كانت نائبة رئيس تحرير الصحيفة، بيذرو هواكين تشامورو، شهيد حرية الرأي في نيكاراغوا، المقتول على يد سوموسا.