وافقني الصحفي جلال عثمان الرأي بشأن الطفرة المهنية التي حدثت في الإعلام الليبي اليوم. وجلال هو رئيس مجلس إدارة المؤسسة الليبية للصحافة الاستقصائية التي تأسست عام 2015، وأعيد تنظيمها واختيار مديرها التنفيذي ورئيس جمعيتها العمومية عام 2017، بهدف نشر صحافة الاستقصاء في ليبيا.
بيد أن جلال أوضح أن تلك الطفرة حدثت أيضا في أغلب الدول التي شهدت تغيرات سياسية، "إذ إن مرحلة الخروج من النظام الشمولي عادة ما يصاحبها انفجار إعلامي.. حدث هذا في روسيا إبان انفراط عقد الاتحاد السوفياتي، وبعد سقوط نظام صدام حسين في العراق. وهذه الطفرات تخمد مع مرور الوقت، ففي ليبيا بعد سقوط نظام القذافي عام 2011 ظهرت أكثر من 350 صحيفة، ثم سرعان ما اختفت جميعها.. اليوم في ليبيا لا توجد أي جريدة يومية".
طرحتُ موضوع التقرير الذي أنجزته شبكة السي.أن.أن والمتعلق بتجارة الرقيق في ليبيا؛ كتقرير استقصائي أنجزته تلك المؤسسة العالمية، لكن كان لجلال رأي آخر، إذ أوضح أنهم كمؤسسة تابعوا التقرير بعين المتقصي وتواصلوا مع عدة جهات رسمية، ولم يجدوا أي دليل على فرضية التقرير، حتى إن أحد المصادر أفاد بأن مراسلة الشبكة لم تصور مشهد المزاد وإنما جلبته معها، وجاءت لتتقصى الموضوع.. "أي صحفي مبتدئ يعرف أن أسلوب العرض والتناول كان فقيراً للغاية، ولم يقدم أي دليل على فرضية وجود سوق للرقيق في ليبيا".
خذلان المؤسسات المعنيّة
رغم إطلاق المؤسسة مبادرة تسمية العام 2017 عاماً للصحافة الاستقصائية، فإن ذلك لم يتحقق.. "اعتمدنا في وضع تلك الخطة على وعود من قبل عدد من المؤسسات الدولية، التي أقل ما يمكن أن نقول إنها خذلتنا.. بعض هذه المؤسسات متخصصة في الاستقصاء، وتدعم الصحافة الاستقصائية من مراكش إلى البحرين، ولكن عندما يتعلق الأمر بليبيا فجميع المبادرات أجهضت، ولا ندري ما السبب.. قد يحتاج الأمر إلى تحقيق استقصائي هو الآخر".
ويتابع: أنجز زميلنا معتز ماضي المدير التنفيذي للمؤسسة أول تحقيق استقصائي ليبي، وكان عن فضيحة غسل الأموال، المسماة بالمغسلة الروسية، وكان ذلك تحت إشراف شبكة أريج، بينما شارك الصحفي ماهر الشاعري في التحقيق الاستقصائي المرئي "رحلة الكورنيت" الذي تناول فيه تهريب صواريخ الكورنيت من ليبيا إلى مصر. ولدينا زملاء آخرون يعملون على تحقيقات مختلفة، فكما تعلمين التحقيقات الاستقصائية تستغرق أشهرا، وتصل إلى سنة كاملة من العمل أحيانا".
معايير الصحافة الاستقصائية
يرفض عثمان تلميحات البعض بأن الصحافة الاستقصائية ليست مشروعا جديدا في الصحافة الليبية، وأن هناك الكثير من التحقيقات الاستقصائية أجريت أيام النظام السابق.. "هناك مفاهيم مختلفة للصحافة الاستقصائية، فالبعض يعتبر أن تحقيقاً استغرق يومين حول التسول أو الشعوذة هو تحقيق استقصائي، وهذا غير صحيح.. هناك تعريف ومعايير محددة للصحافة الاستقصائية، منها: أن يقام التحقيق على فرضية واضحة ومختصرة لجملة قصيرة، وأن يعتمد على مصادر دقيقة؛ فلا مجال للافتراضات أو المعلومات غير المدعومة بوثائق. ويجب عرض التحقيق الاستقصائي على محام متخصص في قضايا النشر قبل عرضه أو نشره.. شبكة أريج لديها دليل مهم شارك في إعداده عدد من الصحفيين العرب والدوليين، ويمكن الاسترشاد به.. أنا نفسي كتبت وشاركت في عشرات التحقيقات قبل العام 2011، ولكنني لا أعتبرها تحقيقات استقصائية لأنها كانت أقرب إلى التقارير، مع تقديري لكل الجهود السابقة التي أرى أنها شكلت بدايات الاستقصاء في ليبيا، وأذكر منها تقرير الزميل خالد المهير الذي نشر في مجلة (لا) عن أطفال الإيدز، أو سلسلة التقارير التي أجراها الزميل عبد الله الوافي حول الشعوذة".
وأشار عثمان إلى أهمية استخدام التكنولوجيا في التحقيقات الاستقصائية، ذاكرا ما قامبه الصحفي الذي أجرى تحقيقاً استقصائياً عن استخدام بشار الأسد للغازات السامة، حيث استخدم بعض البرامج والتطبيقات التي أثبت بها اتجاه الصواريخ.. وعلق بالقول "إذا كان استخدام التكنولوجيا الحديثة في الصحافة سنة، فهي في صحافة الاستقصاء فرض".
حماية صحفية
أشار جلال عثمان إلى أننا يجب أن يكون سؤالنا اليوم: من يحمي الصحفي بصفة عامة؟ فما ينطبق على أي صحفي، ينطبق على الصحفي الاستقصائي، فالصحافة ليست مدينة ألعاب مائية نذهب إليها للاستجمام، وإنما هي حقل ألغام محفوف بالمخاطر. وحتى في الدول الأوروبية يتعرض الصحفيون للتهديد والقتل، كما حدث للصحفية الاستقصائية المالطية "دافني كروانا غاليزيا" إحدى أشهر الصحفيات الاستقصائيات في مالطا، وقد قتلت أواخر العام 2017 بسيارة مفخخة، بسبب تحقيقاتها حول فساد سياسيين ومتنفذين في مالطا. ومع ذلك، نسعى لتأصيل حقوق الصحفي الاستقصائي، التي من أهمها حق النفاذ إلى المعلومات، ومنع السجن في قضايا الصحافة.
ويتحدث عثمان عن نخبوية صحافة الاستقصاء في الوطن العربي، "ففي ليبيا لا نستطيع أن نتحدث عن مستقبلها قبل الحديث عن حاضرها، لأن واقع الصحافة الاستقصائية في ليبيا ما زال مجرد مبادرات، ولم يتشكل بعد.. لقد سعينا من خلال تأسيسنا لهذه المؤسسة إلى إيجاد البيئة المناسبة لهذا النوع من الصحافة. وفي اعتقادي، ليبيا تمتلك عددا من الصحفيين الموهوبين الذين يمكنهم إيجاد مستقبل واعد للاستقصاء".
ويشبه عثمان الصحافة بالعشبة البرية التي تتأقلم مع أسوأ الظروف، وتزدهر أكثر في المجتمعات التي تكفل الحريات العامة والتعددية، والتي تستطيع فيها تأمين نفقاتها.. "في ليبيا تواجهها الكثير من التحديات غير الصراعات المسلحة، كالظروف الأمنية في عدد من المناطق، والتضييق على الحريات العامة في مناطق أخرى، وكذلك الظروف الاقتصادية".
لكن الضوء المطل من النفق -بحسب عثمان- هو مرونة العمل في الصحافة الاستقصائية، "فالصحفي الاستقصائي غير مهتم بتغطية المناشط والأحداث العامة، وإنما يعمل على ملفات خاصة ومواضيع غير آنية، وهذا يجنبه الاحتكاك بمراكز القوة أو السلطة".
يعتبر عثمان أن الانطلاقة الحقيقية للمؤسسة الليبية للصحافة الاستقصائية ستكون في هذا العام، أي 2018، حيث "تحاول المؤسسة التشبيك مع عدد من وسائل الإعلام الليبية لنشر تحقيقاتنا، والمؤسسة متفائلة حيال هذا الأمر، لأن عددا كبيرا من وسائل الإعلام الليبية خارج سلطة الدولة، وتبث أو تنشر من الخارج".